الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 85/التبدل المادي في الحياة السياسية

مجلة المقتبس/العدد 85/التبدل المادي في الحياة السياسية

مجلة المقتبس - العدد 85
التبدل المادي في الحياة السياسية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 2 - 1914


أوردنا في الجزء الأول نموذجات من كتاب تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة وها نحن نشفعه بفصل ضاف عقده في معنى التبدل المادي الذي حدث في الحياة السياسية قال ما ترجمته:

الاختراعات المادية - لم يأت زمن في تاريخ البشر تبدلت فيه الأسباب المادية في الحياة بسرعة كما تبدلت فيه في القرن التاسع عشر في أوروبا فإن الصناعات العملية التي تكملت منذ العهد القديم بما نالها من الارتقاء الطبي في مجموعها قد انقلبت انقلاباً أصليلاً ظهراً لبطن بحيث كانت المسافة كبيرة جداً بين الطرق العلمية التي كان الناس يجرون عليها في القرن الثامن عشر والصناعة الحديثة وبين الطرق التي اتخذت في القرن الثامن عشر وصناعات الأقدمين ومنها الصناعة المصرية.

وهذا الانقلاب هو نتيجة الاختراعات التي قامت بالتجربة فقط أو بتطبيق أساليب العلوم العلمية وكثير منها ينتهي إلى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر بيد أن نتائجها العملية لم يشعر بها في جمهور الشعوب في أوروبا قبل أواخر حرب الإمبراطورية الفرنسوية فتغير الحياة المادية لم يبدأ إلا بعد سنة 1814 فهو أعظم حادث عصري بل هو حادث دولي لأن تلك الاختراعات أوجدتها عقول العلماء والمخترعين من كل الأمم وهي مشتركة بينهم بحيث يتعذر كل حين تمييز من له الحظ الأوفر من الأمم في هذه الخدمة فقد انتقلت من أمة إلى أخرى مفيدة لها كلها على السواء.

امتزجت أساليب الحياة المادية الجديدة في عاداتنا بحيث يصعب علينا أن نتمثل كيف كانت أوروبا سنة 1814 على قربها من زمننا واختلاطنا معها في طرز الحياة ولا يخلو من فائدة التذكير بالمخترعات الرئيسية التي جعلت بيننا وبين أجدادنا في ثلاثة أرباع قرن هذا الاختلاف العظيم وأني لأحاول أن أقص هنا تاريخ ما حدث فإنها قامت كلها في أدوار مختلفة على أساليب مختلفة من التكمل المتواتر مما يصعب به نظمها بحسب السنين بل أريد هنا أن أحصيها جامعاً على طبقات المعارف التي هي عملياتها في الحقيقة.

فإن الاختراعات الميكانيكية التي تمت كلها في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر كانت أولاً أدوات تدار بالأيدي مثل أدوات نسج القطن ونسج الصوف وخياطة الصوف وحياكة القطن وحياكة الصوف وخياطة أقمشة الصوف وصنع الجوارب (أما آلة الخياطة فلم تحدث إ في القرن التاسع عشر) ثم جرى العمل باستعمال القوى الطبيعية المنبعثة من شلالات الماء لإدارة آلات النسيج والحياكة (وذلك في إنكلترا من سنة 1790 إلى 1815) أما البخار فلم يستعمل إلا بعد ذلك العهد ويلحق بالميكانيكيات الآلات الزراعية التي جاء استعمالها متأخراً وآت صنع الورق وقد نشأ من ارتقاء الميكانيكيات انقلاب في طرق المواصلات وذلك باختراع الطرق المحجرة (المكادام) سنة 1820 والطرق ذات الانحدار القليل والافريز التي قامت مقام الطرق المعبدة (الشوسة) بالحجر فقط الباهظة الثمن المشوشة النظام والطرق المستقيمة ذات الانحدار الصعب بإنشاء الجسور المعلقة والقناطر وأنفاق السكك الحديدية.

ولقد استفادت الميكانيكيات بتبديل صناعة الاستخراج فأوجدت المواد الضرورية للصناعات الأخرى بكميات وافرة مثل الفحم الحجري والمعادن والبترول (زيت الكاز) وبتغير صناعة المعادن باستعمال الفحم الحجري وإنشاء المعامل والمطارق كثر الحديد والفولاذ والحديد المصبوب فأصبحوا المادة الأولى في أدوات الصناعة الحديثة كالآلات والأسلحة والخطوط والأدوات والجسور.

وباستخراج مناجم الذهب والفضة بالآلات والطرق الكيماوية الحديثة تضاعفت كمية النقود. وقد أوجد علماء الطبيعيات القوتين الموصفتين لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه وقد دونت سيرته في عهده فكان عند المشارفة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل وأحق ما يرجع إليه في سيرته رحمه الله من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل وتاج الدين شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الضوء الكهربائي والفونوغراف والتصفيح.

ومن الكيمياء تشعبت معظم الاختراعات الثانوية فإن الثقاب (عيدان الكبريت المعمول بالفوسفور قام مقام القداحة البطيئة الصعبة الاستعمال ونشأت الأسمدة الكيمياوية التي أخذت تبدل الزراعة من حال إلى حال واستخرج السكر من الشمندر وأصبح الغاز أعظم واسطة لإنارة الأماكن العامة والألوان المستخرجة من الفحم الحجري والبنزين والكريزيوت مادة مستخرجة من القطران والتصوير الشمسي والتصوير النوري والمواد المنفجرة الجديدة والأدوية الكيماوية والغسل في الكلور والدباغة والمربيات من المأكولات واستخراج الألمنيوم والورق المعمول من الخشب الخ.

وتقدمت العلوم الحيوية بعض الشيء فحدثت منها المخدرات (مثل الكوروفورم والاتير) التي سهلت الجراحة والمضادات للتعفن التي غيرت الطب. ويضاف إلى ذلك تحسن البذور وأجناس الحيوانات الأهلية وهذا من نتائج التجارب المنبعثة من العلوم الطبيعية.

وبعد فإن هذه النظرة الموجزة في أهم الاختراعات تكفي في التذكار بعظمة التبدل الذي وقع في الحياة وسنبحث هنا في كيفية هذا التبدل المادي كيف فعل في الحياة السياسية في أوروبا وذلك مباشرة يتغير الأساليب العملية في الحكومات وبالواسطة بتحويل تركيب المجتمع

أساليب التدمير الحديثة - ظل الاعتماد على المواد المنفجرة القديمة إلى منتصف القرن على نحو ما كان عليه في أواخر القرون الوسطى فما كان عند الجيش سنة 1814 سوى البارود والبنادق التي تحشى حجارة والمدافع القليلة النظام التي تدك من فوهتها فكانت أسلحة ضعيفة الشأن تدك ببطء وتطلق طلقات رديئة وما كانت تحول دون المتحاربين إلا بتأثيرات معنوية ولم تكن تمنع جيشاً منظماً أن يتجمع ويداهم العدو بالحراب وكان يكفي لمن يريد العصيان إذ ذاك أن تكون عنده بندقية صيد وبارود وكرات فكان الفرق في السلاح بين الجندي والعاصي الثائر لا يعتد به بل أنه إذا وقع القتال في شارع يكون الثائر في مأمن فيتحصن وتكون له الميزة على الجندي فنشأت للحكومات من المواد الملتهبة الجديدة قوة في التدمير جددت علم قمع الثائرين فكان من الزئبق الملتهب أن اخترع الكابسول ثم اكتشف اكتشاف أهم من المواد الملتهبة من مركبات ماء الفضة فاكتشف أولاً النيروغليسيرين (1847) الذي يمزج بمواد صلبة فيتكون منه الديناميت (1864) وللمواد الملتهبة المحطة المؤلفة من مركبات ملح البارود التي يحدث منها الانفجار بواسطة ترتيب كيماوي آني قوة في التدمير أرقى من قوة البارود لأن التهاب هذا لا يكون إلا بالحرارة فهو أكثر بطئاً وقد استعيض عن بارود المناجم بالديناميت (لا في حفر الخنادق والنشافات البحرية فقط بل في معظم أعمال البناء في الطرق) فإن بارود الحرب الذي احتفظ به استعيض عنه بالبنادق تحشى ببارود جديد لا دخان له اخترع سنة 1870 في عدة ممالك على حدة واتخذت في المدافع مركبات من حامض ملح البارود أو حامض البيكريك (هو حامض يؤلف بعمل حامض ملح البارود على النيلة وعود الند) كماد الميلتيت الملتهبة ومادة الروبيريت الخ.

ولقد حدث على ذلك العهد تبديل في استعمال الأسلحة فاخترعت البنادق ذات الطلق الأوسط تجعل فيها خرطوشة مهيأة تدخل في مؤخر البندقية مما زاد كثيراً في السرعة وقليلاً في تنظيم الرماية وكان أول تطبيق لهذه الطريقة بندقية الإبرة (دربس) التي اعتمد عليها المشاة في الجيش الروسي منذ سنة 1847 ولم تهب سائر البلاد إلى الاقتداء بها وظلت فرنسا مكتفية ببندقية الصيد (لوفوشو) وبعد أن أحرز الألمان الظفر سنة 1866 تنوعت البندقية التي كانت تحشى من مؤخرها مثل (شاسبوت وماوزر ومارتيني) أنواعاً كثيرة وأصبحت سلاح أورباكلها ومثل هذا الارتقاء حدث في المدفعية فبعد المدفع ذي الخطوط الداخلية ظهرت المدافع التي تملأ من مؤخرها (ارمسترونغ منذ سنة 1854) ثم جرى تحسينها في ألمانيا (معمل كروب) ثم أنشئت المدافع من الفولاذ وأخذت تلك المرامي تقذف قنابل من الميلنيت وانتظم هذا الانقلاب في الأسلحة بالاكتشافات الكيماوية وكان من أثر البارود بلا دخان أن زاد قوة الالتهاب وخفف من ثقل البندقية وأن جعل القذيفة أصغر حجماً وأعظم جرماً وهذه البندقية هي التي دعيت بندقيه لبل.

ولقد حولت هذه الأدوات الحديثة في التدمير بما تم لها من الأثر الذي فاق القديم منها أسباب الحروب ففقدت المدن القديمة القوية بضعفها عن المقاومة ما كان لها من الحصانة الحربية في الدفاع عن التخوم ولم يعد المدافعون يعتمدون على ما سوى إقامة المعسكرات المحصنة بالخنادق ومراكز للذخائر تحميها سلاسل من الحصون المنفصلة وأصبحت تعبئة الجيش الكثيف متعذرة بالبنادق ذات الطابع السريع والقذائف وحلت محل عمل المدفعين المنفردين اللذين يعمدون إلى شجون الأرض فيتحصنون وراءها.

ولقد صعب أن يتمثل الناس نتائج هذا الانقلاب في الفن العسكري حتى أن أهل الصناعة أنفسهم لم يتصورا معنى الحرب بين أمتين أوربيتين ولكن الصورة التي صنعوها هي من الدهشة بحيث تكفي لمنع جميع الحكومات أن يأخذوا على أنفسهم تبعتها وكان من ارتقاء فن الحرب أن أصبحت الحرب مستكرهة للغاية حتى أنه لا يجسر امرؤٌ على إيقاد نيرانها وكان من ارتقاء الكيمياء في القذائف أن توطد السلام.

فضمت الأسلحة الجديدة للحكومات قوة لا تقاوم في السياسة الداخلية وأصبح من المتعذر ثورة بما يتهيأ لها من الأسلحة أو بنهب الثائرين أسلحة من باعتها بل أنه لا يتيسر القتال بين بنادق الصيد وبنادق الحرب وما من متراس يقاوم المدافع الجديدة. فليس من الاتفاقات البسيطة أن تضع الثورات والانتفاضات أوزارها منذ سنة 1848 وكانت من قبل في أوربا مألوفة وما ذلك إلا بتبديل الأسلحة وقع علل بيل أحد الاشتراكيين الألمان هذا التبدل بقوله سنة 1890: لقد سبقت فقلت أن ما سينشأ من ثورة يقوم بها على الأكثر مائتا ألف رجل لا شأن له فإننا في هذا الزمن الذي شاعت فيه البنادق الشريعة الطلقات ومدافع مكسيم نضرب بالرصاص ضرب الأذلة ونتق كما تقتل العصافير.

ولم يعد في الإمكان قلب حكومة مشروعة ولا الدفاع عن الدستور من القوة الإجرائية وأوضاع الناس الطريقة الوحيدة الفعالة في مقاومة سوء استعمال الحكومة القوة التي تملك زمامها. واستحال الاعتداء الثوري إلى لقاء قذائف وأبدلت الآلة الجهنمية القديمة التي استعملت ضد لويز فيليب بالقذائف أورسيني سنة 1858 والديناميت وآلات الدمار. وهذه الطرق المفزعة قد هيأت لبعض الأشخاص المنفردين أسباب إكراه الرأي العام وأن تبدو في مظهر حزب فلم تفد في قوة الأحزاب الثورية حقيقة بل ربما أنقصتها بإثارة الغضب عليهم بإلقاء القذائف التي ارتعدت منها الفرائص وأصبح الناس متضامنين.

أساليب الانتقال الجديدة - أبدل انقلاب طرق المواصلات الحياة السياسية بثلاث طرق مباشرة: التلغراف والسكك الحديدية والصحافة. فإن من أصعب الصعوبات التي كانت الحكومة تتعثر بأذيالها في كل زمن بطء المواصلات فلا بلاغ أمر من السلعة المركزية ولأخذ معلومات من العمال المحليين كان يصرف وقت طويل أحياناً في طرق النقل القديمة برداً كانت أو سفناً وذلك حباً بإيصال الأمر في وقته مما كان يدخل البطء على عمل الحكومة المركزية أو يجعله مستحيلاً فاقتضى من ثم أن تترك للعمال المحليين سلطة سيئة التحديد وكذلك للوكلاء السياسيين في البلاد الشاسعة سلطة الحل والعقد إلا قليلاً واستدعى ذلك التخلي عن قبول الاستعلامات عن سلوك الوكلاء لإجراء المراقبة عليهم مباشرة.

وقد عد التلغراف الهوائي من اختراع من اختراع شوب من الارتقاء العظيم ولكنه لم يكن يستطيع سوى نقل برقيات نادرة في أوقات الصحو ثم وضع التلغراف الكهربائي بعد سنة 1850 فتمكنت به الحكومات من الاستعلام والعمل في الحال في كل الأبعاد فشعر العالم في الحال بنتائج ذلك في المخابرات السياسية فاستلمت الحكومات بوقوفها على أقل حادث زمام المسائل الخارجية بأجمعها وأصبح وكلاؤها في الخارج أدوات نقل. أما في السياسة الداخلية فإن التلغراف قد أكثر الصلات بين الحكومة وعمالها وإن لم يحذف في الأمور الإدارية ما بقي من الأدوار الماضية للتلغراف في صورة كتابة أصبحت لغواً ونسي المخترعون حذفها. فإن التلغراف بتقويته عمل السلطة المركزية زاد المركز قوة.

أما السكة الحديدية فقد قلبت البريد وهو من الأوضاع القديمة محدود بضعف أسباب السحب وذلك بأعدادها قوة للنقل تزيد عدد المراسلات وتنزل قيمتها على نسبة لم تكن تصدق فقد كان في أوربا بحسب إحصاء مكتب البريد الدولي سنة 1890 - تسعون ألف مكتب بريد أرسل منها عشرة مليارات إرسالية. وعليه فإن السكك والطرق والبرد بتسهيلها حركة الناس والرسائل قد نشطت جميع الأعمال العامة والحياة السياسية نشاطاً كثيراً فتيسر بفضلها وضع إدارة بعملها المنظم المتواصل أصابت سكان القرى القاصية وأتت على مواطن متوحشة كانت باقية في أوربا وسط البلاد التي هي أكثر عراقة في المدنية. ونظمت الشرطة البوليس في كل مكان على مثال الدرك (الجندرمة) الفرنسوي فقضت في أوبا على أرباب الدعارة والشقاوة حتى في الغابات وفي الجبال.

ودخل جميع السكان في الحياة السياسية بوسائطهم المنظمة مع عمل القضاء والجباية والجندية والإدارة. وطرق المواصلات الحديثة قربت بين رجال السلطة العامة وبين المتقاضين والمكلفين (بالخراج) والمرؤوسين وبذلك أصبحت الصلاة أشد تأثيراً وأقل كلفة وبهذه الوسائط أيضاً أتيح للأحزاب السياسية أن يبثوا دعوتهم ويعقدوا اجتماعاتهم على أيسر سبيل.

وانقلب الصحافة ظهراً لبطن بما اخترع من الآلات فإن الآلة الطابعة بالبخار اخترعت سنة 1814 على يد إدارة الجريدة الإنكليزية التيمس ثم اخترعت آلة تنضيد الحروف ثم آلة الروتاتيف التي اقتصدت من الوقت اللازم للطبع وقللت من اليد العاملة ومكنت من طبع عدد كبير من النسخ في وقت قصير ونفقة قليلة جداً. فانتشرت الصحف اليومية السياسية بين طبقات الشعب فأخذوا يبتاعونها بالمفرد. وكانت من قبل مقصورة على مشتركين من أهل الطبقة الوسطى وتعد من علائم الظرف والزينة. ولقد حاولت الحكومات أن تحظر على الصحف الانتشار بين جمهور الناس فوضعت ضريبة الطوابع عليها أولاً (وهي الطريقة التي تصورتها إنكلترا منذ القرن الثامن عشر) ثم بإكراه أصحاب الصحف على وضع ضمان (وهي طريقة حدثت في فرنسا سنة 1819) أو بوضع ضريبة على الورق. دع القضايا التي كانت تقام على الصحف وما ينالها من الإلغاء بالطرق الإدارية (التي أحدثت ضعفاً محسوساً في بياعات الصحف عقيب الارتجاع الذي قام ضد ثورة سنة 1814) بيد أن الصحف الرخيصة على الرغم من عداوة الحكومات انتهى أمرها بأن تدخل دخولاً قطعياً في أخلاق أوربا بأسرها.

وبعد فإن الجريدة اليومية بقوة انتشارها الذي لا يفوقه انتشار قد أصبحت في المجتمعات الحديثة إدارة للاشتهار لا في التجارة فقط بل في السياسة واستعيض عن الطرق في نشر أعمال الحكومة (كالقوانين والأوامر والأحكام) بإذاعتها والإعلان عنها والمناداة بها بنشرها في الصحف وقد جعلت الجرائد من الباطل منع نشر أعمال رجال الدين وكذلك حق كتابة المعاريض التي جعلت قديماً من جملة الحريات الأساسية وللجرائد تأثير في الرأي العام بواسطتين فإنها لا تبين فقط أعمال الحكومة بل عمالها وتناقش فيها فهي الذريعة الوحيدة المؤثرة في مراقبة سوء استعمال السلطة وتعرض الآراء وتنشرها وذلك من الشروط الضرورية في إنشاء الأحزاب السياسية.

أتى زمن على الصحف عدت فيه من أدوات الظرف بين الطبقات الموسرة واحتكرت فيه الطبقة الوسطى الحياة السياسية والمراقبة والمعارضة وما كان سائر الشعب يتدخل في الحياة العامة إلا بما يقوم به من الثورات والفتن. فأدخلت الرخيصة الثمن في هذه الطبقة الجامدة تياراً من الدعوة المعارضة بدأ بالتهذيب السياسي في الشعب وبنشوة الحياة السياسية نحو الديمقراطية.

يضاف إلى ذلك ما حدث من التبدل مباشرة في الحياة السياسية من المنافع الفعلية التي نفعت الأمن الما. وذلك بإنارة الشوارع وأخذ صور الأشخاص بالتصوير الشمسي ممن هو فيما أرى قائمة تامة من التغيرات في شروط الحياة العامة أما التبدلات التي كانت بالواسطة فهي أكثر عدداً وأقل جلاءً فليس في الإمكان بيان غير الأهم منها وأقلها اختلافاً فيه.

تحول الشعب - أحدث ارتقاء علوم الحياة المادية نمواً في وسائط البقاء ساعدت على نمو الشعوب في أوربا كلها نمواً سريعاً وإن الإحصائيات التي قامت بها الحكومات في الجملة لتدل على مبلغ ما حدث من هذا القبيل فإن سكان أوربا قد قدروا سنة 1800 بنحو مائة وثمانين مليوناً فبلغوا اليوم زهاء 350 مليوناً وقد كانت الزيادة على الأكثر في بلاد الشمال لا جرم أن تزايد عدد السكان لم يعمل بالضرورة بذاته في الحياة السياسية ففي الشرق وربما كان في القرون الوسطى جماهير من الشعوب كثيرة التناسل وكثيرة الجمود وللولايات المتحدة سبعة سكان في الكيلو متر الواحد ولهم حياة سياسية أهم مما للهند الإنكليزية بكثرة نفوسها البالغ 80 في المئة وأن المكانة السياسية في نمو السكان في القرن التاسع عشر لغريبة في بابها فما كانت المدن سنة 1814 سوى مركز للتمدن والإدارة يتخذها أرباب الأملاك وفلاحو الناحية نقراً لهذا الشأن ومعظمها عبارة عن جماعات من الموظفين وأرباب الصناعات والتجارة يسكنون متباعدين بين شعب يتوفر على زراعة الحقول وقليل من المدن ما كان يتجاوز نفوسها الخمسين ألفاً وإن الصناعات الحديثة بجمعها العملة بالألوف والتنقل بواسطة البخار قد زاد الحركة التجارية الدولية زيادة ضخمة مع جميع أنحاء العالم وقد أنشأت شعباً جديداً من العملة والمستخدمين في التجارة فاتسعت المدن القديمة اتساعاً سريعاً لم يعهد له نظير وغدت القرى الصناعية مدناً عظمى وبلغ من ازدحام الأقدام في بعض الأصقاع الصناعية (ولا سيما في إنكلترا وألمانيا والبلجيك) أن عمت البلاد بحيث تكاد تغطي سطحها. وزاد معدل سكان المدن بالنسبة لمجموع السكان في فرنسا من 24 في المئة سنة 1946 إلى 36 في المئة سنة 1886 وكانت في إنكلترا وهي أول بلاد دخلت في هذا الارتقاء 51 في المائة من مجموع سكانها أهل مدن سنة 1851 فبلغوا سنة 1890، 89 في المئة. ويؤخذ من تاريخ القرن التاسع عشر أن المدن الكبرى والأصقاع الصناعية كانت في أوربا بأجمعها مراكز للانقلابات ومعارضة للحكومات ورجال الدين وفي هذه المراكز خاصة تجندت الأحزاب السياسية وكانت زيادة سكان المدن إحدى الشروط المادية في سير أوربا نحو الديمقراطية.

نمو الثروة - كان من الآلات التي جعلت عوناً للصناعة باستخدامه قوى طبيعية لا حد لها أن أنتجت كميات أكبر من المصنوعات في وقت أقصر من ذي قبل وأن تباع هذه بأثمان أرخص.

وكان من فوائد المواصلات البخارية أن صارت تجلب المواد الأولية إلى أوربا بأسعار رخيصة جداً وكذلك الحاصلات الزراعية في العلم أجمع زاد على ذلك ارتقاء الزراعة في أوربا فإنها أصبحت أكثر نماءً بما تهيأ لها من إحياء الأرض الموات وتقسيمها أقساماً تزرع بالتعاقب والأسمدة الكيماوية والزراعة الراقية وقد أوقف نمو محصول الذهب والفضة نزول الأسعار زمناً ولكن نمو المحصول ونمو النقد قد ساعدا في مساعدة زائدة في المصنوعات النافعة وفي سهولة اقتنائها مما ظهرت طلائعه في حالتين نمو المستهلك وزيادة رأس المال.

وكان نمو المستهلك على غاية من السرعة فغير العادات بسرعة مما يقتضي لنا أن نجهد قوانا لنتمثل كيف كانت الحياة ساذجة في أوائل القرن فكثرت نعمة الأغنياء وأي كثرة وتعدت إلى الشعب وأنعشته من فاقته وعم الناس ما كان مقصوراً من الأشياء على أهل الرفاهية قديماً وذلك كاستعمال السكر والشوكولاتا والثياب وأقمشة القطن والحرير والورق المصور والألبسة الجاهزة والأثاث والزجاج وآنية المطبخ والشموع والمصابيح والكتب والصحف والموسيقى والتمثيل والصور.

وقد ارتقى مع ذلك نظام الصحة فكانت القذارة عامة في القرن الثامن عشر في جماع البلاد وعند جميع الطبقات فأصبحت مما يعد عاراً عند الأمم الممدنة ولا أثر لها في أوربا إلا في بلاد الجنوب والشرق أو بين الطبقات الفقيرة من الشعب وأخذت نظافة الجسم والثواب والدار والغذاء من الضروريات الأخلاقية وعم الناس استعمالها بواسطة المدارس وتنتشر منها إلى القرى ونشأت النظافة العامة من النظافة الخاصة مثل كنس الطرق وكسح المجاري والقمامات وكانت لا تعرف قبل سنة 1814 غدا كل ذلك اليوم في جميع المدن من الأوضاع الضرورية وانتشر الإحساس العام من الخجل والقرف فاضطر إلى قطع المساكن الضيقة الرجسة والأزقة القذرة حيث كان يزدحم الشعب الفقير في المدن العظمى.

وللعامل بيده اليوم كثير من الأساليب المادية كما أن له كثيراً من أسباب التنعم والتربية العقلية وهو يبالغ بالعناية بهيئته كأهل الطبقة الوسطى عام 1814 ولذلك تيسر إدخاله إلى الحياة السياسية بدون أن ينشأ عن ذلك أثر من آثار التوحش الذي كان يظن وقوعه أرباب التجارب وكان يتراءى أنه حجة لا تغلب ضد التصويت العام.

وإن جزءاً مما حدث من السعة بواسطة الصناعة الحديثة قد استهلك وقسماً آخر نفع في الاقتصاد ومن الصعب أن يستدل بالأرقام على الوفر الذي تراكم منذ سنة 1814 حتى في مملكة واحدة وتقدير مستند إلى أي اعتبارات شخصية يختلف اختلافاً كثيراً.

ومن المحقق أنها تمثل رأس مال يبلغ على الأقل ضعف مبلغ رؤوس الأموال التي تركتها القرون الماضية. ومن هذا الرأس المال الجديد استخدم جزء لإحداث الآلات والأدوات الجديدة في الصناعة والتجارة فأنشئت المعامل والسكك الحديدية وإقراض الباقي للحكومات فاستخدمت في الحروب وفي التسليح خاصة ويمثلها واردات الدول. وهذا المجموع الضخم من رؤوس الأموال المجهزة قد غير الأسباب المالية في الحكومات فتهيأ بها زيادة الضرائب والميزانيات والديون على معدل كامل لا يسمح بمثله في سالف الأيام وسهل المباشرة بحرب بالنسبة على أن تتحمل نفقاتها الأجيال القادمة وهكذا زادت القوة الاقتصادية في الحكومة وعمل المجالس النيابية الموكل إليها إدارة هذه الميزانية الباهظة.

تحول الحياة الاقتصادية - أحدث إنشاء الثروة المنقولة انقلاباً في إدارة الحياة الاقتصادية في الشعوب الممدنة فكان العاملون في القديم قلما ينتجون غير ما يستهلكون أو يستهلك في السوق المحلي فالفلاحون يبيعون قليلاً ولا يبتاعون كبير أمر وأرباب الصناعات يعملون لزبن وطنيين فالصناعة بالجملة والتجارة في القاصية انحصرت في مصنوعات الزينة المصنوعة في بعض المعامل وفي نواتج المستعمرات المجلوبة من وراء البحر فانتهت الحال بالعاملين بل بالزراعيين في القرن التاسع عشر بما نشأ من الانقلاب الذي حدث أولاً في إنكلترا بين سنتي 1789 - 1814 أن لا يعملوا مصنوعات لأنفسهم ولا لزبنهم المعروفين بل للسوق فقط لا للسوق المحلية بل للسوق العامة.

وانتشرت طريقة الشركات المغفلة من الاسم ذات الأسهم بسرعة غريبة واستخدمت في المشاريع الصناعية الكبرى على حين كان يزيد دخل الدول بنمو القروض السريع وهكذا أحدثت كميات ضخمة من الأوراق المالية جعلت قيد المضاربات وانتقلت إدارة المحاصيل إذ ذاك إلى سلطة جماعات المضاربين الذين يديرون سوق العالم ويحددون الأسعار ويستصنعون ما يشاؤون في المعامل ويعينون أسعار الأسهام وأوراق الحكومات فأصبحت بورصة التجارة ولا سيما بورصة الأوراق مركز لإدارة الحياة الاقتصادية في الأمم.

فمن ثم غيرت هذه القوة الجديدة في أسباب الحياة السياسية تغييراً محسوساً وتم لطبقة الأشراف الجديدة من أصحاب الغنى المنقول كالصيارف وكبار الصناع وكبار التجار ما أرادوه من جعل طبقة الأشراف القديمة أصحاب العقارات والأملاك في معزل فجعلت لها مركزاً في السياسة بأن وضعت نظام الأحزاب الحرة التي دخل فيها سواد الديمقراطيين من الأمة وغدت المشاريع الرابحة في الصناعة والمضاربات الكبرى منوطة مباشرة بالحكومات بما تسنه من قوانين الكمارك وتعقده من القروض وتمنحه من امتيازات في الأعمال وللصحافة يد طولى في ذلك بالعرض بفضل ما تنشره من الفصول. فالطبقة العالية من الماليين قد عملت والحالة هذه على أن تجعل تحت جناحها الحكومة والمجالس والجرائد. أما كيفية الطرق التي بها نجحت في الممالك الأوربية المختلفة فهو من التواريخ التي لم تبرح غامضة فلم أحاول سردها بيد أن قوة المضاربة على إدارة سياسة الممالك كانت ولا جرم إحدى صفات الحياة السياسية في القرن التاسع عشر.