مجلة المقتبس/العدد 76/بضعة أيام في الجليل
→ نخبة الدهر في عجائب البر والبحر | مجلة المقتبس - العدد 76 بضعة أيام في الجليل [[مؤلف:|]] |
أخبار وأفكار ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1912 |
لا تعرف البلاد كما هي إلا برؤية القرى والدساكر قبل القواعد والحواضر فالفلاح ميزان العمران إن سعد سعدت البلاد كلها وإن شقي شقيت خصوصاً في مثل هذا القطر الذي يعول عَلَى الزراعة في حياته وتجارته وصناعاته ضعيفة ضئيلة.
قصدنا إلى عكا هذه الآونة فشهدنا فيها ما لم نتمكن في العام الفائت من مشاهدته رأينا حيفا بلدة يهودية إلا قليلاً وسالنا أحدهم عن عدد طلبة العلوم الدينية فيها يقيمون الشعائر وينظرون في أحكام الحلال والحرام فلم نر أحداً حتى إذا جئنا عكا كان أول أسئلتنا عن عدد طلبة العلوم الدينية فأخبرونا أن عددهم اليوم يتناقص وهم يبلغون نحو الثلاثين فقلنا فأل خير إذا أتقنوا كلهم ما لقنوه يسدون بعض الحاجة في ارض الجليل الذي ضعف فيه المسلمون في كل شيء ولاسيما في دينهم. والمسلم مهما تقلبت به الأجوال يحتاج إلى إمام وخطيب ومفتٍ ونائب وواعظ. ولئن لم يساعدنا الوقت عَلَى الاختلاط ببعض هؤلاء الطلبة ولكن شهدنا من فضل أستاذهم الشيخ عبد الله الجزار وتقواه ما رجح عندنا أن الفرع يتبع أصله والناس تبع لأئمتهم ومرشديهم.
ليس الأستاذ الجزار اليوم كالجزار (أحمد باشا) أمس كان هذا يرهق الأشباح في هذه البلاد أيام استيلائه عليها وذاك يحيي الأرواح بالعلوم الدينية واللسانية. الثاني بوشناقي والأول عربي. ذاك تولى زمام الأحكام فأفسدها في القرن الماضي وهذا عَلَى قلة النصير يعلم في بلد قل فيه من يحب أن يتعلم. هذا أقام مدرسته عَلَى أنقاض المدرسة التي بناها ذاك فأعاد لبلده شيئاً من رونقها وجمع لطلبته مكتبة حافلة بالأسفار العلمية الدينية المختلفة يثقف بها عقول الطالبين المسترشدين. ولو سعى كل فقيه من فقهاء الإسلام أن بتعليم قومه عَلَى نحو ما فعل الشيخ الجزار لما اضمحلت العلوم الإسلامية فوصلت إلى الحالة السيئة التي نراها عليها الآن وأكثرهم يفتون ويؤمون ويخطبون ويعظون ويعلمون بلا علم ولا تقى.
بتنا ليلتنا في قرية ظاهر في عكا اسمها المكر ولعلها المقر. ومن الغد ركبنا ومعنا دليل يدلنا عَلَى طريق صفد فأعددنا السير حتى وصلنا قرية الرامة وهي في منتصف الطريق عَلَى نحو خمس ساعات من عكا وخمس من صفد بعد أن مررنا بقرية مجد الكروم وارض دير الأسد وبعن ونحف ويجور. وزراعة هذه البلاد الحنطة والشعير والكرسنة والحلبة والبطيخ وأشجارها التين والزيتون والليمون الحلو وهو في قرية الرامة فقط كما أن زيتونها أجود ما وقعت العين عليه في هذه الديار وما ذلك إلا لأن أهلها توافروا عَلَى العناية بأشجارهم وحموها من فؤوس المحتطبين وأسنان المواشي وحوطوها وحرثوا أرضها وتلطفوا في قطف ثمرها حتى جادت غلة زيتونهم كل سنتين والزيتون هنا كما هو في معظم البلدان يحمل سنة ويمحل أخرى وتضمن أعشار زيتون الرامة فقط بألف مائتي ليرة.
مررنا بأرض يجور فرأيناها عامرة أكثر من غيرها من القرى المجاورة وسألنا عن صاحبها فقيل لنا أنه غني من أهل عكا اسمه فؤاد بك سعد فقلنا: سبحان الله أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها. هذا الرجل ينفق نعمة غناه في إصلاح التربة والغراس والفقير في جواره بكسله وقلة وسائطه يكاد لا يجد سناداً من عوز ويعيش عيشة القلة. نحن ممن يقول بحفظ ثروة الأغنياء وإيجاد الأسباب ليزيدوا غنىً وإقداماً عَلَى تنمية ثروتهم لأنهم مادة الاقتصاد في البلاد ولكن عَلَى شرط أن يكونوا مثل ابن يملك بضع قرى في لواء عكا وهو أغنى غني فيه تربو ثروته فيما بلغنا عَلَى مئة وخمسين ألف ليرة جمع هو بعضها والبعض الآخر ورثه عن أبيه وورث عنه مضاءً ومعرفة عملية وأهلية للإثراء عَلَى الأصول جعلت منه رجلاً يفيد ويستفيد من غناه.
نحن لا نعرف هذا الرجل إلا بالاسم ولكننا عرفناه بأعماله في ترقية زراعته وإيجاد المعامل مثل معمل ثلج لعكا وآخر لحيفا ومعصرة زيت عَلَى الطرقة الأوربية في الرامة وأخرى في المغار وغير ذلك من تجارته وزراعته. أعجبنا بعمله لأننا رأينا في دمشق وحلب وبيروت وحمص وحماة ونابلس عشرات مثله بل أغنى منه فلم نرهم مكترثين بالكسب عَلَى الأصول والإنفاق كذلك رأينا غالبهم اغتنوا بالعرض إما بارتفاع قيم الأملاك والعقارات أو بطرق أخرى غير شريفة فحرصوا عَلَى ما بأيديهم ورأوا الخروج عن مألوف عادات الآباء في الاكتساب مما يقربهم من الفقر.
قال لنا ثقة أن ابن سعد هذا ينفق في السنة من فضل ماله عَلَى تعليم بعض أبناء طائفته وإقامة المعابد والمدارس لها في القرى مبلغاً لا يستقل به وقد كانت زراعته ومعاصره خير مرشد لجيرانه ولاسيما المسيحيين فقلدوه وأصبحت المعامل القديمة تخرج الزيت أحسن من ذي قبل وتربح كذلك ونحن لو جرى الأغنياء عَلَى هذه الصورة في تحسين مزارعهم والإفضال من أموالهم بحسب الطاقة لرقيت البلاد في بضع سنين درجة مهمة في العمران ولكن من أغنيائنا من ابتلوا بالشح الممقوت والجهل المطبق حتى أنهم ليضنون بالقرش في تعليم أولادهم ولا يستكثرون المئات ينفقونها عَلَى شهواتهم وتكبير مظاهرهم بالباطل في عيون العامة والجهلاء.
رأينا من أغنياء دمشق وحلب وبيروت من افسدوا أخلاق الناس بما حملوه إلى هذه البلاد من الموبقات وضروب الملاهي والشرور فسميحيهم منفرنج ومسلمهم منترك عبد القوة وربيب الشهوة يرون المجد كل المجد في التزالف من الحكام لا يوقرون إلا من يخافون ولا يجودون إلا عَلَى ما يشتهون. مسلمهم أبطل الزكاة أهم أركان الإسلام حتى يكاد يحبب إلى النفوس الاشتراكية المفرطة والفوضوية الضارة. ومسيحيهم يرضخ لأبناء طائفته بدراهم معدود حب الشهرة وقطعاً للألسن كأن القوم نسوا أن إنفاق المال في عمران البلاد والأخذ بأيدي الفقراء من أهلها لنشلهم من فاقتهم وإنقاذهم من جهالتهم سيعود عليهم ولو بعد حين بغنىً أكثر ولذة ونفع والعمران سلسلة يرتبط أعلاها بأدناها ويهتز أولها بحركة آخرها عَلَى السواء.
نقول المسيحي والمسلم وما أحرانا أن نقصر الكلام عَلَى المسلم الغني لأنا رأيناه أشد إيغالاً في الارتباك بحياته وحياته والعدم سواء. نعرف رجلين في حلب ودمشق يملكان من المزارع الواسعة عشرات وتحسب ثروتهما بمئات الألوف من الليرات ورثا ذاك الغنى فأساء إلى العمران والإنسانية فترى مزارعهما خربة لا يتوفران عَلَى تعهدها ولو صرفا عليها بضعة ألوف من الليرات لأحييا بها الموات العظيم ونفعا بها خلقاً كثيراً من السكان شغلاهم فيها عن الهجرة إلى أميركا وقد أفدوا الأخلاق بما ألفاه من الشهوات كل ذلك لأنهما لم يربيا التربية المطلوبة فنشآ كالسائمة وقد فتحت عيونهما عَلَى ثروة لم يسعها عقلهما.
إن الأسف عَلَى عقول لا يستفاد من ذكائها كالأسف عَلَى تربة لا يستفاد من زكائها وكم في البلاد من أراضٍ معطلة لا يستطيع أكثر مالكيها تعهدها لكزازة في أيديهم وصغر في عقولهم وضعف في نظرهم. نحن لا نلوم الصهيونيين وغيرهم من المستعمرين في بلاد الجليل وفلسطين بقدر ما نلوم أولئك الذين يملكون الأملاك الواسعة مما لو طبقت الحكومة عليهم قانونها القاضي بنزع الملك من صاحبه إذا لم يزرعه ثلاث سنين متوالية لنزعت جانباً مهماً من الأراضي الزراعية في السهول والقيعان والجبال من يد مالكيها أو مغتصبيها.
نوجه هذا الكلام القارص إلى الأغنياء لأنهم هم مادة البلاد ولأنا لا نتوقع من الفقير عملاً يذكر وحكومته لم تربه التربية المطلوبة في الأمس ليحسن العمل المطلوب منه اليوم. فقد مررنا في طريقنا إلى صفد بقرىً كثيرة وكنا نشهد الفرق محسوساً بين قرى المسلمين وقرى المسيحيين أولئك لم تعمل لهم حكومتهم إلا أنها أسلمتهم لجباة الضرائب والعشور والإعانات وسوق من تسوق إلى الجندية وتركهم بقمة في يد صاحب النفوذ وشيخ البلد لم تعمر لهم مدرسة ولا جامعاً ولم ترسل لهم طبيباً ولا واعظاً أما جيرانهم المسيحيون فقد اعتمدوا عَلَى أبرشياتهم ومطارنتهم وأكثر هؤلاء عَلَى جانب عظيم من الغيرة والفضل فأسسوا لهم بيعاً ومدارس وكتاتيب وهزوا أكف أغنيائهم وأهل الخير في بلاد الغرب واستعانوا بأموالهم عَلَى الأعمال الناهضة عَلَى ما ترى ذلك ماثلاً في كاثوليك حيفا والبصة وشفا عمرو وترشيحة والمغار من أهل هذه الديار ومطرانهم غريغوريوس حجار يسعى ليله ونهاره في إنهاضهم ومن وراءه ووراء الطوائف النصرانية الأخرى الجمعيات الروسية والفرنسوية والألمانية والإنكليزية والأميركانية والإسرائيلية تفتح المدارس في كل قرية ومزرعة فيها بضعة من الكاثوليك أو الروم أو البرتستانت أو الإسرائيليين.
نعم إن المسلم في بلاده هذه جاهل لقلة من يتعهد أمره وغيره يرقى السنة بعد الأخرى ومعرفة ذلك سهلة لكل من يختلط بالفريقين فيفهم درجة عقولهم ويقرأ صورة معايشهم وترتيب بيوتهم ونظام أسراتهم. ورقي الراقي منهم ناشئٌ من خروجهم عَلَى الأقل من درجة الأمية واستنارة عقله بالتربية الجديدة.
وبينا نرى وجيه قومنا إذا قدر له أن يفكر في تربية ولده يعهد بها إلى مدارس الحكومة وهي احط مدارس يتصورها العقل في بلاد تدعي المدنية رجاء أن يجيء غداً موظف يعيش كلاً حَلَى عاتق الأمة تشهد الوجيه في غير المسلمين يعلم أولاده الصناعات الحرة كالهندسة والزراعة والتجارة وغير ذلك ولك بهذا أن نحكم عَلَى مستقبل أولادهم وأولادنا.
نحن لا نعجب لارتقاء الزراعة في قرية الجاعونة من بلاد صفد ولا المجدل من أعمال طبرية ولا زمارين من عمل حيفا مثلاً لأنها ملك لجمعيات صهيونية غنية في الغرب تنفق عليها لمقصد ديني سياسي عن سعة. ولكننا نعجب كل العجب من مسلم لا يحذو في ترتيبه ومعاشه حذو أخيه المسيحي ففي مزارع الإسرائيليين تعمل رؤوس أموال شركاتهم ومعارف أوربا في تجويد الزراعة وفي مزارع الوطنيين غير المسلمين يعمل حب الترتيب وحسن التربية وإرادة الكسب والرفاهية فقط.
وبعد فكلما تقم السائر من بعد قرية الرامة يتراءى له انحطاط الزراعة وإهمال الفلاح المسلم لزيتونه وتينه وكرمه بل لغلاته السنوية بحيث أصبح دون مواطنه الدرزي وللدروز عناية في الجملة بأراضيهم وغرسهم ومنهم في بعض قرى عكا ومنهم في قضاء صفد وبلادهم جبلية كما هي العادة. وأهم ما شهدناه قبل صفد بساعتين شلال ماء يسقي إحدى القرى هناك يجري من شاهق جبلٍ عالٍ ويضيع بين الصخور في الطريق وهو بمائه دون شلال تل شهاب في حوران إلا أنه يمكن استخدامه فيما نحسب لتنوير عكا وحيفا بالكهربائية وتسيير ترام كهربائي فيهما.
وقد أصبحت بلاد صفد وهي 49 قرية ومزرعة جرداء من غاباتها بفضل الإهمال وكانت منذ عشرين سنة كثيرة ومنها الضخم تسد الحاجة وتلطف الهواء وتعد نزول الأمطار حتى أن القوم هنا يبحثون عن جذوع الحراج للوقود والتدفئة الآن وما ندري بم يصطلون ويوقدون بعد سنين.
ومدينة صفد تربو نفوسها عَلَى ثلاثين ألفاً نصفهم من الإسرائيليين وهي عَلَى عدة قمم وآكام عالية وفيها المياه مثل مدينة مرجعيون وقد جلب الماء في أنابيب حديد إلى أكثر أحياءها من جبل بيرية الواقع جنوب صفد عَلَى نصف ساعة منها فكلف نحو ألفي ليرة خفف عَلَى السكان بعض العناء في الاستقاء وحفظ ماءهم من الكدر ولو صرفت إدارة النافعة خمسة آلاف ليرة عَلَى طريق يربط صفد بطبرية والمسافة بينهما خمس ساعات أيضاً لاتصلت صفد بالخط الحجازي وأصبح ابن دمشق يأتي إلى صفد في يوم واحد خصوصاً والعلائق التجارية والزراعية مستحكمة بين الصفديين وأهل ولاية سورية المتاخمة قضائهم لقضاء القنيطرة حتى أن في صفد حياً خاصاً بالأكراد كما لهم في صالحية دمشق.
وطول جبل الزابود المشهور في كتب وصف البلدان نصف ساعة من شمال ميرون للغرب وفي قمته مياه عذبة ويناوحه من الجهة الثانية جبل كنعان وهو أخصب وأمرع وأنقى هواء فصفد بين منفرج هذين الجبلين ولكنها هي أيضاً مبنية عَلَى رؤوس جبال أشبه بمدينة الآستانة ويذكرون أن في رأس وادي الطواحين غربي صفد عيناً اسمها عين جن يتجبس منها ماء وينقطع في الساعة ولا تزال كذلك عَلَى الدهر وماؤها يدير مطحنة.
والطريق من صفد إلى طبرية كله انحدار قوي حتى يصل إلى بحيرة طبرية والهواء يختلف في الحال من البرودة إلى الحرارة لوقوع صفد في رؤوس الجبال وارتفاعه 838 متراً عن سطح البحر وهو أعلى ارتفاع في أرض الجليل ولانحطاط طبرية عن سطح البحر 208 أمتار. ولئن كانت صفد تعد من المدن المقدسة عند اليهود وينزل المسيح إلى الأرض منها بحسب رأيهم فإن المستعمرين من الإسرائيليين لم ينزلوها إلا في القرن السادس عشر وقد استولى عليها الصليبيون واستخلصها منهم صلاح الدين يوسف ثم سقطت في يد الظاهر بيبرس واحتلها الفرنسيس سنة 1799 مدة قليلة وفي سنة 1837 أصابها زلزال جعل عاليها سافلها ولم يعد إليها بعض الرونق إلا في العهد الأخير. ويقل الزيتون في قضاء طبرية اللهم إلا ما كان في قريتي حطين ولوبية وعدد قرى هذا القضاء 26 أكثرها ملك للصهيونيين ويوشكوا أن يبتاعوا البقية الباقية فيحيونها بعد مواتها.