مجلة المقتبس/العدد 72/هل تسترد اللغة مجدها القديم
→ ملقى السبيل | مجلة المقتبس - العدد 72 هل تسترد اللغة مجدها القديم [[مؤلف:|]] |
النهضة الفكرية في سورية ← |
بتاريخ: 1 - 2 - 1912 |
يستطيع التاريخ الأدبي أن يبين حدود النشأة الحقيقية لكثير من اللغات الميتة والحية ولكنه لا يستطيع أو عَلَى الأقل لم يستطع إلى الآن أن يبين شيئاً من ذلك بالقياس إلى اللغة العربية التي ينطق بها من أهل الشرق الخلق الكثير.
ولا شك في أني قد خصصت جزءاً من هذه المحاضرة للإشارة الموجزة إلى تكلم الظلمات الكثيفة التي حجبت لغتنا الشريفة عما يشرف به التاريخ عَلَى الأشياء من بصيرة ثاقبة ونظر بعيد ولكنني لم أستطع أن أخصص جزءاً منها لإيراد الأعاجيب والمضحكات التي يوردها أكثر الخطباء في خطبهم لأني لا أطمع فيما يطمعون فيه من التصفيق الحاد والإعجاب الشديد فإليكم أتقدم بالمعذرة ومنكم ألتمس المغفرة وأظنكم لم تجتمعوا في هذا النادي لتضحكوا أو تصفقوا فإني لم أر بلداً أهله أحوج إلى قلة الضحك وكثرة البكاء من هذا البلد. . . ولولا ثقتي بأنكم تعلمون من الأمر ما أعلم وتشعرون بالواجب كما أشعر لقلت لكم مقالة النبي ﷺ لأصحابه في بعض خطبه لو تعلموا ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
أجل إنا قد أسرفنا في الهزل والمجون وقصرنا في الجد والعمل وكان حقاً علينا لو أنصفنا أنفسنا أن نقتصد من الهزل ما ننفقه في الجد ومن الفراغ ما نستعين به عَلَى العمل قبل أن يعضل الداء ويمتنع الدواء ونقضي ضحايا التقصير واللهو الكثير وهنالك لا ينفعنا الندم ولا يعذرنا التاريخ.
قدم عهد اللغة العربية
نشأت لغتكم أيها السادة والإنسان طريف عهد بالوجود لم يبلغ أشده ولم يستكمل قوته بل كان طفلاً ناشئاً حديث السن ضيق الفكر صغير العقل ولست أقول هذا القول يدبيجاً للفظ أو مبالغة فيه وإنما هي الحقيقة الثابتة التي ليس فيها مجال لشك ولا جدال فإن هذه اللغة هي أول غصن نبت من لغة سام بن نوح عليهما السلام وقد قطعت مع الإنسان هذا القدر من الزمان وعمرت معه منذ كان طفلاً إلى أن صار كهلاً وها أنتم أولاء تسمعونها مني فتشعرون بأنها لا تزال حية قوية تثبت بأجلى بيان أنها أطول اللغات عمراً وأشدها أسراً وأعظماه قوة عَلَى الخطوب وصبراً عَلَى الأحداث.
فكم ماتت اللغات وهي حية وفنيت اللهجات وهي باقية وكم حاربها الدهر فحربته وغالبها فغلبته ورامها بالسوء فامتنعت عليه.
وقد أدركت هذه اللغة نضرة اللغات وذبولها وإشراقها وأفولها وشهدت مصارع أخوتها الساميات وهن يتفانين سراعاً ويتهاوين تباعاً حتى عمهن الموت وشملهن الفناء هنالك عاشت فذة فريدة تتمثل قول شاعر أبناءها المجيدين
ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيوف فردا
أجل وقد أدركت هذه اللغة هوي الأمم الهاوية ورقي الشعوب الراقية فشهدت عظمة بابل وآشور ومصر وأشرفت عَلَى نهضة إسرائيل ورأت مجد اليونان والرومان والفرس والهند وكانت خليقة بعد هذا كله أن تروي لنا التاريخ العام لمثل رواية وتحدثنا عنه اصدق حديث لولا جهل السالفين وضعف الخالفين من أبنائها فما أقدر هذه اللغة عَلَى الحياة وما أصبرها عَلَى الخطوب.
صعوبة البحث التاريخي عن نشأة اللغة العربية
ذلكم أيها السادة أول عهد اللغة بالحياة ولكن في أي قرن ابتدأ هذا العهد. .؟ وكيف كان ابتداؤه. .؟ وما هي الأصول الحقيقية للغة السامية التي اقتطعت منها هذه اللغة وكيف كان اقتطاعها.؟ هذا ما لم يعرفه التاريخ إلى الآن وقبل أن أُشير كما وعدت عَلَى أسباب ذلك يجب عَليَ أن أبطل مذهباً يلهج به بعض الكتاب الذين كثير عليهم العلم حتى ضاقت به صدورهم فأخذوا يقذفونه في الصحف من غير حساب ويبيعونه عَلَى الناس من غير ثمن وينتحلون به لأنفسم ألقاب العلماء والمؤلفين. .؟!
زعموا أن اللغة العربية نشأت كما تنشأ لغة الطفل فكانت في أول أمرها أصواتاً أحادية المقطع لا يزيد اللفظ منها عَلَى حرف متحرك كباء الجر ولامه وكاف التشبيه وأحرف القسم وهمزة الاستفهام.
ثم تركت هذه الألفاظ بتركب معانيها ومرونة الألسنة عَلَى النطق والحركة فبلغت مقطعين وثلاثة إلى أن استقرت في نصابها المعروف فلم تنقص في الاسم والفعل عن ثلاثة أحرف أصول لم تزد في الأول عن خمسة وفي الثاني عن أربعة إلا بحروف غير لازمة وهي الزوائد عَلَى أن هذه الحروف لم تستطع أن تبلغ بالفعل أكثر من ستة وبالاسم أكثر من سبعة غير الحركات التي لا تحسب عند العرب حروفاً كما تحسب عند غيرهم من الفرنج. .
والحقيقة أن هذا المذهب لا يصح إلا إذا قلنا أن العرب ليسوا من بني آدم أبي البشر وإنما هم أبناء رجل آخر نشأ في جزيرة العرب من غير أم ولا أب ونشأت منه زوجة واستقر نسلهما في الجزيرة لا يخالط الناس حتى تكونت لغته وضمنت لنفسها عدم التأثر بالأجنبي والدخيل.
أما والعرب من أبناء سام بن نوح وبعبارة أوضح من أبناء آدم فليس لهذا المذهب من الصحة نصيب قليل ولا كثير.
إنما تنشأُ اللغة هذه النشأة إذا اقتطعت من الطبيعة مباشرة من غير أن يكون لها مثال تحتذيه أو منوال تنسج عليه فأما اللغة التي لها أصل ثابت معروف كاللغة العربية فليس من المعقول أن يطرد فيها هذا المذهب وعَلَى هذا نستطيع أن نقول أن هذا المذهب يصح بالقياس إلى لغة واحدة وهي لغة الإنسان الأول التي اقتطعها من أصوات طبيعية وكما أن أُسرة الإنسان الأول قد تفرعت إلى أسر مختلفة ثم كانت منها أُمم وشعوب فإن لغتها الأولى قد تفرعت إلى لهجات متباعدة ثم كانت لغات متباينة وعَلَى هذه القاعدة استطاع الفرنج أن يترجموا كثيراً من اللغات الدارسة.
أما الأسباب الحقيقية التي نشأت عنها صعوبة البحث التاريخي عن اللغة العربية حتى عميت علينا أسرارها وأسدلت دوننا أسرارها فوقفنا موقف الحائرين الذاهلين بغزاء كثير من ألفاظها لا نعرف لها أصلاً ولا نتميز لها اشتقاقاً فهي كثيرة أكتفي بالإشارة إلى ثلاثة منها الآن.
الأول أن معرفة النشأة الحقيقية للغة رهينة بمعرفة أصلها الذي اقتطعت منه فما كنا لنعرف نشأَة اللغة الفرنسية لو لم نعرف اللغة اللاتينية.
كذلك لا نستطيع معرفة نشأة اللغة العربية حتى نعرف اللغة السامية الأولى التي هي أصلها ولكنها مع الأسف قد بادت واندمجت في بناتها قبل التاريخ فلم يبق لنا إليها من سبيل.
الثاني أن ضياع الأصل لا يقطع الرجاء في الوصول إلى بعض حقائق اللغة في نشأتها إذ استطعنا أن نستعين عَلَى البحث بالمقابلة بينها وبين أخواتها من اللغات الأخرى ولكنا مع الأسف لم نفعل شيئاً من ذلك ولم نفكر فيه فقد كان أئمة اللغة رحمهم الله في عصر يمكنهم من ذلك لأن كثيراً من اللغات السامية كانت لا تزال حية عَلَى عهدهم ولكنهم قد عكفوا عَلَى جمع اللغة وتدوينها من غير أن يفكروا في البحث عن أصلها وقد أخذت تلك البقية الباقية تندمج في اللغة العربية بحكم القهر والتغلب الفطري حتى لم يبق لها من الأثر إلا قليل.
ومن الغريب أيها السادة أن علماءنا رحمهم الله بدل أن يبحثوا عن اللغة السريانية من حيث علاقتها باللغة العربية بحثوا عنها من حيث أنها ستكون لغة الأروام وسيكون وأظنكم تضحكون إذا سمعتم قول بعض العلماء
(ومن غريب ما تري العينان ... أن سؤال القبر بالسريان)
(أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني)
هذان بيتان يمثلان ضعف السليقة العربية وفسادها قبل كل شيء أقبح تمثيل ويمثلان سقوط الهمة وانحطاط النفس لأنها قد تركت النافع وبحثت عد ما لا خير فيه.
وأي ضعف للسليقة العربية أكثر من جعل الأقوال التي تسمع بالآذن مرئية للعيون وأي انحطاط للنفس أكثر من أن تترك الحياة وتبحث عن الموت.
ولو أني وكلت بإصلاح هذين البيتين لقلت
(ومن سخيف ما تعي الأذنان ... إن سوءال القبر بالسرياني)
(أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... وهو حديث كذب ومين)
عَلَى أن المستشرقين من علماء الفرنج قد بحثوا هذا البحث الذي تركناه وسلكوا تلكم الطريقة التي أغفلناها فاهتدوا إلى حقائق في تاريخ اللغة العربية لا بأس بها وليس هذا موضع تفصيلها الآن فليس علينا إلا أن نتأثرهم في هذه الطريق فإنهم ليسوا أحق منا بالبحث عن لغتنا والتنقيب عليها.
السبب الثالث أن العرب ولاسيما أهل الحجاز الذين نبحث عن لغتهم الآن قد كانوا أمة بادية لم تشترك مع غيرها من الأمم في تكوين الحضارة الإنسانية اشتركاً حقيقياً إلا بعد ظهور الإسلام فكانت في جاهليتها محتجبة عن التاريخ ولذلك لم يحفظ عنها إلا أساطير حظ الظن منها أكبر من حظ اليقين.
اللغة العربية في الجاهلية نشأت هذه اللغة وتكونت ألفاظها وأساليبها وهي بمعزل عن الناس قد جعلت البداوة بينها وبين التاريخ حجاباً مستوراً وكأنها قد سئمت الخفاء والاحتجاب ورغبت في الظهور ومجاراة اللغات الحية وظهرت للتاريخ في القرن الخامس لميلاد المسيح ومنتصف القرن الثاني قبل الهجرة فإذا لغة ضخمة الألفاظ فخمة المعاني متينة الأساليب رصينة التراكيب قد تم خلقها وكملت قواها فأصبحت قادرة عَلَى البقاء مستعدة للنماء وقد سلكت في الآداب الوجدانية كل مسلك فمدحت الخير والفضيلة وذمت الشر والرذيلة وأخذت بنصيب موفور من المدح والهجاء والوصف والرثاء والتشبيب بالنساءِ والفخر بشرف المناسب وكرم المناقب واشتملت عَلَى الجم الكثير من الحكم البالغة والأمثال السائرة ومن الخطب الرائعة والأسجاع البارعة ولم تدع فناً من فنون الأدب الوجداني إلا ضربت فيه بسهم وفازت منه بنصيب.
إذ صح ما يقولون من أن مقاييس الرقي الأدبي لكل أمة من الأمم هي أشعارها وأمثالها وأغانيها لأن الأشعار مرآة النفس والأمثال صور الفكر والأغاني لغة القلوب.
أقول إذا صحت هذه القاعدة وقسنا رقي العرب في جاهليتهم بهذه المقاييس الثلاثة كانت النتيجة مؤلمة جداً لأننا لا نستطيع أن نتردد لحظة واحدة في الحكم بأن العرب الجاهليين الذين لم يؤدبهم أستاذ ولم يثقفهم كتاب ولم يصلح أخلاقهم دين أرقى منا أنفساً وأذكى قلوباً وأبعد منا هماً وأصدق عزماً والدليل عَلَى ذلك سهل ميسور تعالوا نقارن بين أشعارنا وأشعارهم وأمثالنا وأمثالهم وغنائنا وغنائهم ثم نستخلص من هذه المقارنة نتيجة الحكم فأي الفريقين كانت له النتيجة فهو صاحب الغلب والفوز.
غير أني أيها السادة أستحي أن أقارن بين قول امرئ القيس في التوصل عَلَى حبيبته
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً عَلَى حال
فقالت حبالك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها ... عليه القثام سيء الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرءُ ليس بقتال
أيقتلني والمشر في مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال أستحي أن أقارن هذا الشعر الفخم الذي يمثل القوة والعزم ويظهر قائله مظهر المتسلط القاهر وبين ذلكم الغناء المصري القائل - يالموني يالموني ياللي في حبك ظلموني - يالموني وأنا أحب الخص يالموني ولا آكل الخص يالموني وحبيبي في مصر يالموني عَلَى مين يجيبولي. . .
قفوا أنفسكم أيها السادة موقف الحاكم الفاصل بين الحق والباطل وحدثوني أي معنى لنداء الليمون في هذا الغناء وهو الذي ظلم هذا العاشق في حبه وما هي العلاقة بين أكل الخص وبين الحب ومن ذا الذي يستطيع أن يكون قواداً لهذا العاشق بعد أن قعد به العجز وضعف الهمة عن أن يصل إلى حب حبيبه إليه وأكرم كريم عليه.
لندع ذلكم الشعر والغناء ولننتقل إلى شعر وغناء آخرين.
هل تستطيعون أن تقارنوا بين قولكم ذلكم الشعر الجاهلي في عتاب حبيبته
فإني لو تختلفني شمالي ... خلافت ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني
وبين هذا الغناء المصري القائل
ارحم متيم له أحوال لما رآك تهدى خلافه صعبان عليه. . .
حدثوني أيها السادة عن مقدار الفرق الكبير بين ذلكم الشاعر الجاهلي الذي يخاطب حبيبته بهذه اللهجة القاسية وهذا الشاعر المصري الذي عرف أن حبيبه قد هجره واستبدل به غيره فلم يستطع أن يعانيه بأكثر من قوله أن هذا صعب عليه بل إنه لم يستطع أن يقول هذه الكلمة إلا بعد أن قدم بين يديها مقدمة طويلة في الشكوى والاستعطاف.
ستقولون أن هذا الفرق بين الشاعرين أثر من آثار الفرق بين البداوة والحضارة فذلك شاعر هيأت له بداوته أن يخاطب حبيبته بذلك الجفاء وتلك الغلظة وهذا شاعر هيأت له الحضارة أن يعاتب حبيبته بهذا الرفق واللين.
كلا أيها السادة ليس تأثير الحضارة والبداوة في هذا الأمر كبيراً فإن الحضارة الصالحة لا تقتل عاطفة الغيرة من قلب الإنسان ولعلكم سمعتم خبر ذلكم الشاعر العباسي الناشئ في الحضارة إذا اشتدت به الغيرة عَلَى حبيبته حتى أشفق عليها من الهواء فقتلها وقال يرثيها
يا طلعة الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الردى بيديها حكمت سيفي في مجال وشاحها ... ومدامعي تجري عَلَى خديها
رويت من دمها الثرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها
فوحق نعليها ما وطئ الثرى ... شيءٌ أعز علي من نعليها
كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن ضنت عَلَى العيون بحسنها ... وأنفت من نظر الحسود إليها
نعم إني لا أريد أن يكون الناس غلاة في الغيرة كهذا الشاعر ولكني أُريد أن أبين لكم أن هذا الفرق بين الشاعرين ليس من آثار البداوة والحضارة وإنما هو من آثار الفرق بين العزة والذلة فلكم شاعر أبي النفس حمي الأنف لا يقبل الضيم ولا يرضى العار وهذا عاشق ضعيف مستكين قد رضي بالدون وقنع بالقليل واطمأن إلى الهوان.
ستقولون مالك تقارن بين الجيد من الشعر العربي والرديء من الكلام البلدي وتترك الشعر والنوابغ الأفذاذ والشعراء المفلقين أمثال شوقي وحافظ صبري.
والحقيقة أيها السادة أن هذا الاعتراض محرج جداً لأنه يتعجلني في الحكم عَلَى هؤلاء الشعراء وقد لا أستطيع أن أرضيكم بهذا الحكم ولكني أقول أن هؤلاء الشعراء ليسوا في الحقيقة شعراء مصر وإنما هم بين رجلين رجل نهج منهج الفرنج فهو يعبر عن أذواقهم وأخلاقهم وعَلَى مناهجهم وأساليبهم وهذا لا ينبغي أن يحب عَلَى مصر وإنما يجب أن يلحق بأوربا ورجل نهج مناهج العرب القدماء فهو يكرر ما قالوه ويردد ما نطقوا به مع قليل من التغيير في اللفظ فهو يشبه القطا والظليم وهذا لا ينبغي أن يكون من شعراء مصر وإنما ينبغي أن يكون من شعراء القبور.
لندع الشعر والغناء الآن فهذا مقدار يكفي للمقارنة بينهما ولنتقل إلى الأمثال فهل تستطيعون أن تقاربوا بين ذلكم المثل العربي القائل كل فتاة بأبيها معجبة.
وهذا المثل المصري القائل الخنفسة عند أمها عطارة والقرد عند أمه غزال.
كفى كفى أيها السادة فقد أثبتت المقارنة بالدليل والبرهان إنا لم نصل من الرقي الأدبي إلى ما وصل إليه أولئكم الأعراب وإن كنا أولي حضارة ومدنية وأصحاب علوم وآداب وذوي شريعة ودين.
آداب اللغة العربية ومادتها في الجاهلية ارتقت آداب اللغة العربية في السادس لميلاد المسيح بمخالطة العرب لأهل العراق والشام فقد أخذوا عنهم يهودية موسى ونصرانية المسيح وربما انتقلت إليهم بعض الآراء الفلسفية التي أدخلها القسيسون في الديانة المسيحية كما في قول الأعشى
استأثر الله بالبقاء والعد ... ل وولى الملامة الرجل
وكذلك أخذوا عنهم عقائد الصابئة وشيئاً من مذاهب المجوس ونقلوا عن حضارة الروم والفرس كثيراً من الأدوات التي لم يكن لهم بها عهد من قبل وتبع ذلك نقل كثير من الألفاظ الفارسية والروسية ولاسيما فيما يتعلق بالنبات والسلاح وأدوات اللهو والطرب وأنواع الدواء والعقاقير وفي أثناء ذلك كان الجيش قد احتلوا بلاد اليمن فأدخلوا فيها كثيراً من لغتهم وكانت التجارة بين الهند واليمن فاستتبع ذلك انتقال كثير من الألفاظ السنسكريتية إلى لغتها ولاسيما فيما يتعلق بأنواع التجارة وأظن هذا المقدار من الوصف قد مثل لكم اللغة العربية تمثيلاً حسناً فأنتم ترونها الآن جميلة رشيقة ولكن صدق المثل العربي القائل لا تعدم الحسناءُ ذماً.
فإن تلك الجميلة الحسناء لم تخلُ من عيوبٍ فقد كانت لغة قوم متوحشين يزعقون الأنفس ويهدرون الدماء ويعيشون من النهب والسلب ويستبيحون لأنفسهم بيع السير والعبث بأعراض العدو والتمثيل بالمغلوب حتى أن أحدهم لينحصف نعله بإذن عدوه إن ظفر به أو قدر عليه.
وهم عَلَى ذلك أولو شظف بالعيش وخشونة في الحال يسكنون الجبال والرمال وربما أكلوا الخنافس والضباب وغذوا أنفسهم بدماء الإبل وأوبارها فنشأ من ذلك في لغتهم حوشية الألفاظ وتنافرها وجفوة المعاني وتعقيدها وقد كانوا فوق ذلك متنافرين متدابرين قلما تطمئن قبيلة منهم إلى الأخرى فلم يكن من سبيل بينهم إلى التعارف وبعبارة واضحة لم يكن من سبيل إلى اتفاقهم في المنطق فقد تباعدت اللغات واختلفت اللهجات لتعدد الأوضاع وتباعدت الأصقاع حتى أنهم كانوا لا يفهم بعضهم بعضاً.
وقد وفد أعرابي عَلَى ملك من ملوك حمير فقال له الملك ثب يريد الجلوس فظن الأعرابي أنه يأمره بالقفز كما هي لغة الحجاز فوثب من أعَلَى الجبل حتى تردى في أسفله فلما سأل الملك عن ذلك واطلع طلع الرجل قال من دخل ظفار حمر. . .
وقد أحس العرب من أنفسهم هذا الداء في أواخر القرن السادس لميلاد المسيح فأخذوا يطبون له وبعبارة جلية أخذوا يتهيئون لنهضتهم الجديدة في اللغة والدين والاجتماع فماذا صنعوا. .؟
مقدمات النهضة العربية
أقاموا بالقرب من مكة أسواق ثلاثاً كانوا يقضون فيها كل عام شهراً كاملاً من الأشهر الحرم وهو ذو القعدة ولم يكن لقبيلة أن تتخلف عن هذا الاجتماع فكانوا يبيعون ويشترون ويتقاضون ويتخاصمون ويتنافرون ويتناشدون حسان القصائد ويتبادلون متان الخطب وكان يجلس لهم قضاة يفصلون الخصومة فربما أعلن قوم الحرب عَلَى آخرين فردهم القضاة إلى السلم وربما ظفر الرجل بقاتل أخيه أو أبيه فألزمه القاضي أن يطلقه ويقبل منه الفداءَ وكان يجلس للشعراءِ خاصة قضاة ناقدون يفضلون بعضاً عَلَى بعض ورئيس هذه الطائفة من القضاة هو نابغة بني ذبيان.
وقد نتج من هذه الأسواق الثلاثة نتائج كبرى: الأولى - شعور العرب بحاجتهم إلى السلم واتفاق الكلمة واجتماع الرأي وائتلاف القلوب ولعلكم ترون ذلك ظاهراً في معلقة بن أبي سلمى حين يدعوا عبساً وفزارة إلى الصلح.
الثانية - تهيؤُ قلوبهم لقبول الوعظ والدين واستعداد نفوسهم للبحث النظري عما اشتمل عليه هذا العالم من نظام بديع ولعلكم تجدون ذلك جلياً في شعر زهير وخطب قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي وفي شعر لبيد بن ربيعة الذي قاله في الجاهلية.
الثالثة - تقارب اللغات المتباعدة وائتلاف اللهجات المختلفة وتغلب لغة قريش عَلَى اللغات الأخرى.
وإذا كانت الحوادث في هذا العالم إنما تحدث متوالية متتابعة وينتج بعضها من بعض كان حقاً علينا أن ندع هذه النتائج الآن حتى نصل عملها في الوجود لنجني ثمرها بعد حين.
الشعر
في ذلك العصر التهبت جذوة الشعر واستطار شرره فالتهم كل شيءٍ واحتكم في كل إنسان ولم تكن حكمة الإله ولا رأي الاع + ولا اعتماد إلا عليه وكان يكفي للشاعر أن يمدح الوضيع فيرفعه أو يذم الرفيع فيضعه أو يغري بالحرب فتتهالك النفوس وتتفانى القوى أو يدعوا إلى السلم فتصبح الضغائن والأحقاد نسياً منسياً.
اختلفت قبيلتان من قبائل العرب عَلَى بئر من الآبار حتى ذكت بينهما نار الحرب فلم يكن إلا أن وقف شاعر أحدهما وقال:
كلا أخو بنا أن يرع يدع قومه ... ذوي جامل دثر وجيش عرمرم
فما الرشد في أن تشتروا بنعيمكم ... بئيساً ولا أن تشربوا الماء بالدم
هنالك ردت النفوس إلى أغمادها والسهام إلى كنائنها وأصبح القوم صديقاً متحابين بعد أن كانوا عدواً متباغضين.
كان لعمرو بن عدي كرب الزبيدي أخت يقال لها كبشة وكانت متزوجة في بني مازن وكان لهما أخ يقال له عبد الله فزار عبد الله أخته ذات يوم فبينما هو جالس مع بني مازن يشاربهم الخمر وثبوا عليه فقتلوه ثم أفاقوا من سكرهم فاستشعروا الندم وذهبوا إلى عمرو بالدية معتذرين فعفا عمرو وقال: إحدى يدي أصابتني ولم ترد.
فلما بلغ الخبر كبشة صبرت إلى يوم عيد من أعيادهم ثم خرجت وقد شقت ثيابها ولطختها بالدم وهي تقول:
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تقبلوا منهم أنالاً وأبكراً ... وارتك في بيت بصعدة مظلم
ودع عنك عمرواً إن عمر مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
فلما سمع عمرو الأبيات ثارت في رأسه الحمية فغزا بني مازن وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ولقد كان للشعر عند اليونان إله معروف هو أبولون وأما العرب فقد كان للشعر عندهم شياطين لا تحصى وكان لكل شاعر منهم شيطان عَلَى الأقل وربما كان له أكثر من ذلك ولم تذهب هذه الخرافة بظهور الإسلام بل بقيت بعده وأيدها علماء المسلمين في القرن الرابع للهجرة وقد حدث صاحب الأغاني في كتابه أن بشر بن مروان كان يحب الإفساد بين الشعراء فلما ولي العراق أمر سراقة البارقي أن يهجو جريراً ويفضل عليه الفرزدق فقال أبياتاً منها:
إن الفرزدق برزت أحسابه ... عفواً وغودر في الغبار جرير
فأمر بشر أن تكتب هذه البيات إلى جرير وأن يؤخذ بالإجابة عليها فلما وصلت الأبيات إلى جرير خلا إلى نفسه سواد الليل فلم يصنع شيئاً فلما كاد يأخذه اليأس سمع قائلاً يقول في زاوية من زوايا البيت ويحك يا جرير غبت عنك ليلة فلم تصنع شيئاً هلا قلت
يا بشر حقاً لوجهك التبشير ... هلا انتصرت لنا وأنت أمير
فقال له جرير حسبك حسبك ثم أتم القصيدة والآن أظنكم قد عرفتم مقدار ما كان للشعر في جاهلية العرب من مكانة سلمية ومنزلة عالية ومن استئثار بالقلوب واقتدار عَلَى الألباب ولم تكن الخطابة بأقل منه وحسبكم أن تعلموا أن القبيلة كانت لا تشرف ولا ينبه ذكرها إلا إذا كان لها شاعر وخطيب. الباقي للآتي