مجلة المقتبس/العدد 47/الشعرى
→ الإسلام والمدنية | مجلة المقتبس - العدد 47 الشعرى [[مؤلف:|]] |
أمالي تاريخية ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1910 |
إذا غابت الشمس ساعة في هذه الأيام سرح طائر نظرك عَلَى منفسح الأفق تر كوكباً متوقداً يرتفع شيئاً فشيئاً بأبهةٍ وجلال وهو يزيد تأَلقاً كلما زادت الظلمات حلكةً ويرتفع في القبة الزرقاءِ في جهة الجنوب الشرقي. فهذا الكوكب هو الشعرى العبور وهي التي ترصع جهة الرقيع بهذا الفص البديع بحيث يصدق ما قال فيها عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر وهو من ظريف ما قيل فيها:
واعترضت وسط السماءِ الشعرى ... كأَنها ياقوتة في مدري
وقال فيها ابن المعتز:
شربتها والديك لم ينتبه ... سكران من نومته طافح
ولاحت الشعرى وجوزاؤُها ... كمثل نرج جرَّه رامح
وشبه أبو نؤاس الدرهم بها فأنشد:
أنعت صقراً بغلب الصقورا ... مظفراً أبيض مستديرا
تخاله في قده العبورا
فهذا الكوكب لحسنه عبده قوم من العرب في الجاهلية وإليه الإشارة في سورة النجم وإنه هو رب الشعرى وكان العرب قد أخذوا هذه العبارة عن جيرانهم المصريين الذين كانوا قد أَلهوها لأنهم كانوا ينسبون إليها فيضان النيل. وقد زادت شهرتها لهيام شعراءِ الأمم كلها بحسنها ونقاءِ ضيائها الأزهر. وأنبت لهم الخيال أجنحة طاروا بها في عالم المحال. لا رادع لهم يردعهم ولا وازع لهم يزعهم فكم من شاعر ذهب إليها بالوهم فسكن فيها ونظر منها إلى الأرض بل وكم منهم من تعود هذه الفعال بدون أن يتروَّ في ما يقوله من المجال. فهذا فلتير قد وضع أحدوثة اسمها الصغير الكبير (مكروميغاس) جعل المروي عنه واحداً من سكان الشعرى. ثم بنى عَلَى هذا الوهم ما بنى ومثله فعل رنان فإنه قال: إذا أراد الإنسان أن يرى محاسن الأرض فليرق إلى الشعرى فإنه يجد فيها أحسن مرقب يرقب منه هذه الحبة الخضراء المعروفة عندنا باسم الغبراء ولا يخفى ما في ذلك من الوهم المستحيل لأن شدة الحرارة الشعرى تمنع أياً من كان من أن يدخلها إذا ما بلغها. بل تميت أياً من كان قبل البلوغ إليها.
فلندع إذاً أهل الخيال في جوهم يسبحون وأهل المحال في ميدان تصوراتهم يمرحون ولنأْت إلى مجالسة أهل العلم من العصريين ولنسأَلهم عما كشفوا لنا من الأنباء ولنطلب إليهم أن يهتكوا لنا شيئاً من استثار مظاهر الخفاءِ ولنسمع ما يرويه علينا أحد أكابر الفلكيين وهو العلاّمة شارل نوردمان من جلة علماء باربزاد يقول:
إننا نرصد كل مساء الشعرى العبور ونتثبت بواسطة المرقب نورها فنحلله تحليلاً ينبئنا عما هنالك من الغرائب والأسرار الغامضة وتروي لنا هذه الرسول الصغيرة في أعيننا حقائق ودقائق تأخذ من قلوبنا أي مأْخذ حتى أنها ترفعنا إلى أعالٍ لم يرق إليها الخيال بأجنحته الذهبية.
والشعرى تبعد عنا نحواً من خمسمائة مرة من بعد الشمس عنا. ونورها إلينا لا يصل إلا في مدة تسع سنوات. أي أنك إذا رأَيت نورها اليوم فهو لم يشرق عليك إلا قبل تسع سنوات والذي تراه اليوم كان قبل تسعة أعوام. وإذا حدث فيها حادث جديد في يومنا هذا فلا يمكنك أن تراه إلا بعد أن تمشي عليه هذه المدة المذكورة لأن النور يقطع في الثانية ثلثمائة ألف كيلومتر. فالظاهر إذاً أن الشعرى اليمانية بعيدة عنا بعداً عجيباً ومع ذلك فهي قريبة منا بالنسبة إلى سائر الكواكب التي قد ذر قرنها منذ ألوف من السنين ونورها إلى اليوم لم يبلغنا. ونحن نعلم اليوم أن الشمس والشعرى ليسنا إلا كقطرتين من بحر عجاج متلاطم بأمواج الأنوار ذاك البحر الذي نسميه المجرة والحال أن النور لا يقطع عرض المجرة إلا في مدة خمسة وعشرين ألف سنة. والشعرى مع هذا هي إلينا أقرب هذه الكواكب المنتشرة على بساط المجرة من سواها وعليه فرصد الأرض من علو الشعرى لمن التخيلات المتوغلة في المحال. وقد أتيح للفلكي المذكور أن يقيس بوسائط مذكورة في علم البصريات ليعرف درجة حرارة جو الشعرى فوجده لا يقل عن 12000 درجة. ولا يستطيع أن يتصور علو هذه الدرجة البعيدة في الحر إلا إذا قابلنا حالتنا في أيام الصيف عندما يشتد أعظم الاشتداد فلا نستطيع أن نتنفس ولا نتحرك ومع ذلك لم يبلغ الحر إلا 40 ـ 50 درجة. ثم ما الحال لو قابلنا تلك الحرارة بدرجة غليان الماء وهو لا يكون إلا في مائة درجة. وما عسى تكون تلك المقابلة لو علمنا أن أعظم حرارة بلغ الإنسان إلى الحصول عليها عَلَى الأرض هي 3500 درجة وذلك في القوس الكهربائية. وإن حرارة الشمس نفسها لا تزيد على 5300 درجة في جوها المعتدل. وعليه فتكون حرارة الشعرى أقوى من حرارة الشمس ثلاثة أضعاف تقريباً. ومع ذلك فيوجد كواكب أخر أحر جواً من الشعرى وذلك في صورتي الثور وحامل رأْس الغول المعروف أيضاً باسم سياوش. فكيف بعد ذلك يمكننا أن نسمع ظلامات شعرائنا الذين يقولون ببرودة الكواكب والنجوم. نعم إنهم مصيبون إذا أرادوا بذلك أن الكواكب لا تجيبهم بكلمة إذا ما شكوا لها ضيمهم وإلا فلا. والأولى بشعرائنا العصريين أن يستعيروا لهم برودة غير برودة الكواكب.
هذا وقد أدت الحسابات اليوم لا بل وأَبسط الحسابات أن الشمس لو كان لها جوّ مثل جوّ الشعرى لما كانت الحياة ممكنة عَلَى الأرض لتحول إلى البخار جميع العضويات الحية الموجودة عَلَى الأرض. ولما أثر ذلك شيئاً في سير سائر النجوم والكواكب.
وضياء الشعرى يضاهي حالة جوها غرابة وعجباً. فإن فلكينا الباريسي نوردمان قد أثبت بأنها تنير الكون بنور أقوى من نور الشمس خمسة وعشرين ضعفاً فيكون نور الشمس بالنسبة إلى نور الشعرى نسبة شمعة إلى مصباح زاهر أو بعبارة أخرى أخصر وأصح: يجب وضع خمس وعشرين شمساً من شمسنا لنحصل على ضياءٍ يشابه ضياء الشعرى. وإن شئت تعبيراً علمياً فقال: إن كل سنتيمتر مربع من وجهها يبرز نوراً ما يوازي تقريباً ستة ملايين من الشموع العشرية.
كل هذه الحقائق المقررة قد أثبتت بوسائط علمية حديثة في منتهى السذاجة لا محل لذكرها هنا لأن العين لا تستطبب نظر بناية فخمة جديدة إذا كنت تراها مدعمة بأخشابها والأجدر والأحسن أن تنتزع قبل أن ترمقها الأعين لتبدو بهجة منظرها.
ثم إن منظر طيف الشعرى كشف لنا أيضاً أموراً ما كان ليكشفها لنا غيره وهي في منتهى الغرابة أيضاً. فإن المنظار المذكور أظهر لنا أن في الشمس أغلي معادننا الأرضية وأما في الشعرى فإنه كشف لنا عن جو مركب كله تقريباً من كتلة عظيمة من الهدروجين وهو من أخف الغازات المعروفة. فيجب أن نستنتج من ذلك أن سائر العناصر الكيماوية التي هي أثقل قد تفككت وتحولت إلى هدروجين بقوة الحرارة الشديدة حرارة الشعرى. فإذا كان الأمر كذلك فحينئذ عند مرور الأعصار وكرور الأدهار لما يبرد الكوكب وينتقل من حالة الشعرى إلى حالة الشمس كما تحقق هذا الأمر عند جمهور العلماء يجب علينا أن نسلم أن الهدروجين في برودته يسير سيراً معاكساً أي إنه يتخثر رويداً رويداً فتتكون منه سائر المعادن. ومن ثم فإن الكواكب تكشف لنا عن سر طالما كان غامضاً عَلَى أهل العصور الوسطى ألا وهو سر علم الصنعة الذي ترمي غايته إلى تحويل المعادن بعضها إلى بعض وعلمه فوق كل علم بغداد
ساتسنا.