مجلة المقتبس/العدد 47/الإسلام والمدنية
→ المرأة | مجلة المقتبس - العدد 47 الإسلام والمدنية [[مؤلف:|]] |
الشعرى ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1910 |
إذا كان المرء ساعياً في إصلاح داره يجب في الأكثر أن يسترشد بآراءِ من سبقوه إلى إصلاح دورهم ليضم اختباره إلى اختبارهم ويقتصر عليه مسافة عمله وربما أتى ببعضهم وأراهم ما هو آخذ بسبيله فإن قدر أن يعمل بآرائهم كلها إن كانت صائبة وإلا فلا أقل من أن ينتفع ببعضها.
أولع الغربيون منذ حدث انقلابنا العثماني الأخير بالبحث في شؤوننا بعد أن كانوا يئسوا من إصلاحنا فصار بعض خاصتِهم يزورون العاصمة وبعض الولايات ويكتبون تصوراتهم عن السلطة العثمانية ويقيسون الحاضر بالغابر فبعضهم يستهزيء بنا وبانقلاباتنا وهم في الأكثر أرباب الأغراض السياسية وفريق يتوسط فيمزج استحسان ما يستحسنه باستهجان ما يستهجنه ومن هذا الفريق المسيو مارتين هرتمس أحد علماء المشرقيات في برلين. وهو من الذين قضوا سنين طويلة في سورية وعرف طبائع المملكة العثمانية واشتهر بمعرفة العربية من تآليفه التي نشرها وهو يجيد الكتابة والفهم بلغتنا كأَحد فضلاءِ كتابنا في أحوال المسلمين ولا سيما في البلاد العثمانية والتركتان الصينية.
زار هذا المستشرق عاصمة السلطنة وبعض قواعد بلاد الروم ايلي فكتب كتاباً بالألمانية وصف فيه ما شاهده في رحلته وقد اطلعنا عَلَى زبدة من كتابه في مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية فآثرنا الإشارة إليها ثم نعلق عليها ما آخذناه به من حكمه عَلَى المسلمين والإسلام ليرى أهل هذه الديار ما ينصح لنا به جيراننا لإصلاح بيتنا قالت المجلة: أراد بكتابه أن يعرّف ما رآه وما سمع به مدة مقامه في البلاد العثمانية فأورد ما انتهى إليه من المواد عَلَى علاته ولم ينظر فيه نظرة أخيرة ومهما يكن فإن كتابه يتلى بإمعان وفائدة لأنه من أفيد ما ظهر من الأسفار عَلَى البلاد العثمانية حديثاً وربما ظهرت على كلام المؤلف رشاشة من سوءِ النظر في العواقب ولكن ما لا مرية فيه أنه كفوءٌ في الموضوع الذي خاض غماره لا غرض له بل هو نظار جدير أن يحل كلامه موقع الاعتبار.
ربما قيل للمؤلف أن مقامك قليل في تلك البلاد فكيف ساغ لك أن تحكم بهذه السرعة فقد رأينا من يطيلون مقامهم في بلد يبالغون بمنزلة المسائل الرسمية والحياة الإدارية متسرعين ويطرحون النظر في حياة السواد الأعظم من العامة فيفوتهم كثير من المسائل الاجتماعية ذات الشأْن العظيم عَلَى أن السائح قد يلاحظ هذه المسائل أحسن من المقيم.
وهناك اعتراض آخر وهو أن المؤلف قال إن كتابة عبارة عن سلسلة رسائل غير سياسية والناظر فيها تتجلى له السياسة من أعطافها وأطرافها لأول وهلة. ويرد هذا الاعتراض بما هو معروف عن المسيو هرتمن من عدم التحزب لفئة وأنه يحاول أن ينصف الكل فهو لا يبغض أحداً ويرمي إلى أن تعمل كل أمة وكل جماعة وكل شخص في خدمة المدنية والحضارة ما ساعدتها أسبابها. فقد رأَيناه يأسف عندما يرى العنصر الإسلامي وهو ممن يحبه لا يسير إلى هذا الغرض لأن الجمع بين الشريعة وبين مطالب الحياة الحديثة لا يخلو من تناقض. وهو يرى أن فكر الارتجاع في الأستانة والمدن الكبرى في الولايات غير موجود ولكن إذا انقضت أيام السياسة الحميدية فإن نتائجها ما انقضت.
قالت المجلة ولو قلنا في العام الماضي أن عَلَى الحكومة العثمانية إذا أرادت الاستمتاع بالبذور التي يحويها القانون الأساسي في مضاويه أن تربي الأمة تربية دستورية ديمقراطية فهذا مما تشتد حاجتها إليه. أَيد المسيو هرتمن هذا الرأُي فقال أن الانقلاب العثماني لا يشبه الانقلاب الفرنسوي فقد كانت الأمة في فرنسا تتبع القائمين بالثورة متحمسة وتشاركهم في آرائهم أما الشعب العثماني فلا يزال عَلَى آرائه القديمة ولذلك أراده المؤلف أن يرجع عنها وأقسم عليه أن ينظر للأمور نظراً صحيحاً لأن ارتفاع كلمة العثمانية معلق عَلَى اعتدالهم ويمكن أن يكون للنساء العثمانيات عمل عظيم في النهضة الوطنية.
وقد درس المسيو هرتمن حالة الاتحاديين السياسية في سلانيك ولا سيما تأْثيرات طائفة الدنمة وفيها وهم شعب إسرائيلي دا ـ بالإسلام. وجاءَ الأستانة يبحث عن كل شيء من سياسة ودين وأدب وصحافة وحياة اجتماعية وعقلية واقتصادية. وانتقد الإسلام انتقاداً شديداً فقال أنه يراه عقبة في سبيل الإصلاح فلا رجاءَ معه لتنظيم الإدارة. والطرق الدينية في الإسلام تختلف عن الطرق الدينية في النصرانية لأن لها تأْثيراً سيئاً وأن ما يظهر من أمرها يفسد الدين ويقلل من اعتباره. فأهل الطرق البكداشية والملامية والمولوية والنقشبندية والقادرية على اختلاف أسمائهم. هم خطر عَلَى الأمة مهما كانت مكانتهم وإن اتفقوا مع أهل التربية الحديثة من العثمانيين وهؤلاءِ ملاحدة يعرفون كيف يتظاهرون بالدين واحترام الشريعة. ورجال الدين عَلَى الجملة هم قوة عاملة محترمة وإن قلَّ التسامح فيهم.
يقول المؤَلف أن تسعة أعشار رعايا المملكة العثمانية متعصبون فالأكراد أكثر تعصباً من غيرهم ويقل تمسك العرب بالدين في باطنهم فهم أقل تعصباً وليس المسلمون من الألبانيين من التسامح على جانب عظيم وأهالي البوسنة الذين انفصلوا حديثاً عن المملكة العثمانية موغلون في التعصب وأدعياءُ للغاية. ومن الأسباب التي تساعد عَلَى بقاءِ الحمية الدينية مظاهر شهر رمضان المنوعة فالدين عليه الحكومة ويصعب الآن أن يكون من الأعمال الخاصة بالنفس.
تدخل الأفكار الغربية البلاد العثمانية ببطءِ فالاشتراكية التي ينشرها البلغاريون خاصة في البلاد ومنهم رئيس منتدى سلانيك حيث تقرأُ المطبوعات الفرنسوية والألمانية في هذا الموضوع ولهم أشياع من الروم وتصدر في أزمير جريدة اشتراكية رومية كما تصدر جريدة إسلامية اشتراكية وإذا كان قراؤها على ما هو معلوم من حالتهم صعب أن يكون ارتقاؤُها سرياً بين المسلمين. فليس في البلاد العثمانية طبقة وسطى كما في سائر ممالك أوروبا.
ويتيسر للمرأَة العثمانية أن تكون ذات نفوذ فقد رأَيتها في سلانيك ترقى بسرعة خارقة للعادة. ولكن ارتقاءَها في البلاد الأخرى بطيء جداً. ويمكن أن يقال أن حالة المرأَة العثمانية أحط من المرأَة المسلمة في روسيا التي تستمتع بحرية عظيمة فيتيسر لها أن تدرس في المدارس الثانوية وهم يهتمون بما يجري في آسيا الوسطى والشرق أكثر من كل بلد سواه وربما كان المسلمون في روسيا غالباً أثقب أذهاناً وعقولاً من حكامهم الصقالبة أه.
هذا ملخص كتاب الباحث الألماني وفيه الجيد ولكن فيه مغامز كثيرة لا نحب أن يفوتنا النظر فيها نعرضها عَلَى المؤلف وعلى القائمين بمذهبه وأولها وهو ما كنا نرجو أن لا يقع فيه أمثال الأستاذ هرتمن قوله أن الجمع بين الشريعة وبين طلب الحياة الحديثة لا يخلو من تناقض وأن الإسلام عقبة في سبيل الإصلاح ولعل المؤلف يقصد من ذلك الشريعة النافذة في بلاد الياسمين اليوم وبعضها مما يخالف الأصول الصحيحة وهدي الشارع وأصحابه وتابعيه والأئمة المهديين والعلماء العاملين.
لا جرم أنه دخلت بدع وخرافات وموضوعات عَلَى الإسلام عبثت بجماله وكادت تضيع به أصوله لو لم يقيض له في كل زمن مجددون ومصلحون يدعون الأمة إلى الوقوف عند حد الكتاب والسنة وطرح الزوائد التي تضر ولا تنفع وأكثرها مما تسرب إلى الدين من الوثنية الأصلية وسرى إلى الإسلام كما سرى إلى اليهودية والنصرانية من قبل.
فالإسلام دين التوحيد وهو أكثر الأديان تشديداً فيه وحرصاً عليه ومع هذا نرى بدعاً دخلت عليه تكاد تقربه من الوثنية لولا سلامة الأصول المحررة المعتبرة وقيام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل مصر وعصر.
لم يعهد المسلمون أيام كانوا يدينون بالإسلام الحقيقي أن دينهم كان مانعاً لهم من الرقي الاجتماعي والأدبي والعلمي والسياسي فالدين الذي جعل من أموال الأغنياء صدقة للبائسين والمعوزين قد فرض عَلَى منتحليه ما يسمونه بالتضامن والتكافل فلم تنشأْ فيه الاشتراكية المتطرفة التي تهتز لها أعصاب المفكرين في الغرب اليوم. والدين الذي يأْمر كتابه في الزواج بقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وأن خنتم أن لا تعدلوا فواحدة إلى أن قال ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم قد قلل من العهر والفجور وحفظ نظام البيوت أحسن حفظ وراعى حقوق المرأة ومن سنة الطلاق لزوجين لم يتأَت أن يتعاشروا بالمعروف ليس فيه ما يؤخر المدنية ويحول دون سعادة أهله ولكن خلف بعد السلف خلف أضاعوا الأصل والفرع وانتهكوا حرمات الله وجهلت الأمة فأغلطت حجاب المرأَة بعد أن كان رقيقاً معقولاً حتى منع الرجال من الاختلاط ببنات حواء فنشأَت عن ذلك مضار ومنافع والمضار أكثر ولو وقف الحجاب عند حد ما رسمته الشريعة من أن لا يبدي النساءُ زينتهن إلا لبعولتهن ويضربن بخمرهن عَلَى جيوبهن لكان نظام البيوت في المسلمين اليوم أرقى مما هو وخلصوا من معاكسة الطبيعة في رغائب النفس ولتفاهم الجنسان أكثر من الآن ولما أصبحت حياة رجالنا وحياة نسائنا لا تخلو من نغص وغصص.
والدين الذي يأْمر صاحبه أصحابه أن يتعلموا لغة اليهود والحبشة ويحث عَلَى تفهم أسرار الكون من طرقها حتى لم يأْت عَلَى الإسلام قرنان ونصف إلا وقد تناول أهله بمعونة الخلفاء وما عرف من علوم البشر وتداولوه بينهم وصبغوه بصبغتهم حتى أنشؤُا لهم مدنية لو لم يكتب لها القيام لانقطعت من العالم سلسلة علوم المصريين واليونانيين والرومانيين والفرس والهنود ولاضطر أهل المدنية الحديثة أن يرجعوا مبتدئين بالعلوم بحيث لا يتيسر لهم تأْسيس المدنية التي أسسوها في ثلاثة قرون إلا أن تؤسس في عشْرين أو ثلاثين قرناً ـ إن ديناً هذا شأْنه وهو لم يمنع أيضاً من تعلم العلم والفلسفة ليس من الأديان التي لا تنطبق مع روح هذا العصر.
والدين الذي انتشرت كلمته في الآفاق وسلاحه الهداية والرفق بالمستضعفين وحماية العاجزين وجهاد المنافقين والخائنين حتى دانت به أمم كثيرة عن رضى هو دين لم يخرج عن المعقول من استتباع الناس وإرشادهم ومعظم الفتوح التي ينتقدها عليه الناقدون هي للاستعمار ومع هذا لم يحدث فيها من الويلات ما يحدث لأكثر دول التمدن الحديث عندما تهمُّ أن تستعمر قطراً من أقطار الشرق.
وإنا لنرى الغربيين في أحكامهم عَلَى الشرق يخالفون ما يجرون عليه في بلادهم فترى الدول الراقية منهم في آدابها هي التي تحافظ عَلَى دينها فقد رأينا ألمانيا قد احتفظت بالنصرانية المشربة أي البروتستانية ولم تعقها عن سيرها في مدارج الكمال العلمي والصناعي والاجتماعي وكذلك نرى انكلترا تحرص كألمانيا عَلَى تقاليدها القديمة حتى عد الاجتماعيون من حملة ارتقائهم أنهما لم ينبذا الدين كما نبذه رجال فرنسا فكان منه الويلات حاضرها ومستقبلها. وما نظن النصرانية لو أنصفنا أكثر انطباقاً عَلَى قوانين العلم من الإسلام.
ولو قال الأستاذ هرتمن أن حالة المسلمين اليوم لا تنطبق عَلَى الإسلام أمس ولذلك يصعب قيام الإصلاح بينهم لأصاب الغرض بعض الشيء فقد ذكر الطرق الدينية التي تفسد الدين وتقلل من اعتباره في الأنظار ولو أنصفنا ونظرنا إلى من أسسوا تلك الطرق لرأَيناهم عَلَى جانب من الأخلاق الفاضلة والتدين الحقيقي وأكثرهم كانوا من جملة علماء الإسلام العاملين لا المعطلين الجامدين.
وهذا الجمود لم يحدث إلا في القرون المتأخرة بصنع أناس لأخلاق لهم من الملوك أملوا لرؤساء المذاهب والطرق ليتخذوهم ذريعة إلى السياسة كما اتخذ الشاه عباس الصفوي من مذهب الشيعة مستنداً له في سياسته فاستعمل العلماء واسطة للتفريق بين أجزاء الأمة ونشط كل ما أملاه التعصب الذميم وسكت عن كل قصور وكذلك فعل السلطان سليم العثماني وقتل من الشيعة أربعين ألفاً في وقت واحد في الأناضول بحجة دينية والحقيقة أنه لا يقصد غير السياسة.
فالملوك المتأخرون استعملوا الدين ذريعة إلى الدنيا وعبثوا أسراً بحرم الله وأدخلوا في الدين ما لبس منه وجعلوا العامة مسيطرين عَلَى الخاصة ففسد النظام وعاق ذلك سير الإصلاح في القرون الجامدة وإلا فأي مانع اليوم يمنع العثمانيين ولا سيما المسلمين منهم من الرقي وقد ارتفعت أكثر الحواجز والقيود بفضل القانون الأساسي الذي لا يناقض أصلاً من أصول الشريعة وإذا رأَينا بعض تناقض وجب علينا أن نفسر الشريعة لنطبقها عَلَى العلم كما يأْمر بذلك العلماءُ الراسخون.
أما اغتباط الأستاذ هرتمن بحال المسلمات في روسيا من أنه يباح لهن الدرس في المدارس الثانوية والعالية مع الفتيان فهذا عَلَى إطلاقه لا يصح أن يكون حجة عَلَى المسلمات العثمانيات والاختلاط إلا إلى حد محدود لا يخلو من مفاسد يعرفها علماء الأخلاق في الغرب وهم منها أكثر شكاية منا ويرجى بفضل الأفكار الغربية التي تدخل ببطءٍ إلى بلادنا كما قال المؤَلف أن تكون بعد اليوم حال المرأَة المسلمة أكثر انطباقاً مع المدنية والعقل والشرع فليس كل ما نراه هو ما كان عليه السلف الصالح كما قلنا.
وإن معظم ما نشكو منه من أمراضنا الاجتماعية ليس الدين منشأُوه بل الجهل بأمور الدنيا فينبغي لنا تهذيب نسائنا وتعليمهن عَلَى الأصول الدينية والمدنية ورجالنا كذلك وعندئذ لا يرمي مثل المسيو هرتمن أهل هذا الدين كله بما رماهم به ونحن نرى اليابان وهي الدولة الوثنية من أرقى دول الحضارة الحديثة ولم تعقها وثنيتها عن ذلك ونظن المؤلف يوافقنا عَلَى أن الإسلام بما دخله من خرافات المتأَخرين أكثر اتفاقاً مع المدنية من وثنية يابان.
فحياة الأمم بالدين الذي لا يمازجه تعصب أكثر منها بالانحلال من كل دين وأمة لا قديم لها يصعب عليها الارتفاع بحديثها كما فعلت فرنسا فأرادت نبذ كل قديم وإحلال الحديث مكانه فخسرت الصفقتين أو كادت ولو ربي شعبها تربية دينية خالصة مع ما يلقنه من التربية العصرية لما شكت فرنسا من زيادة العهر فيها وقلة نفوس سكانها سنة عن سنة وإنا لنعتقد أن قلة التسامح الذي نراه في الجامدين من أهل الطرق وأدعياء الدين يقل جداً من السلطنة يوم نعلمهم أو نعلم أبناءهم التعليم الوسط المنظم دع عنك العالي وحياتنا مناطة باستنارتنا ولا جمود إلا مع الجهل. وطريقة دينية عَلَى أصولها يدخلها النشوءُ والإصلاح بحسب سنة النمو والتدريج أنفع من طريقة دنيوية لا تتشربها نفوس من تعرضها عليهم ولا تناسب تقاليدهم وأوضاعهم.