مجلة المقتبس/العدد 46/شذرة ذهب
→ كتاب العرب | مجلة المقتبس - العدد 46 شذرة ذهب [[مؤلف:|]] |
استعمار الهند ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1909 |
من فن الأدب
من كلمات اللغة العربية ما يدل عَلَى أصل المعنى. ومنها ما يدل على المعنى نفسه مع زيادة قيد أو شرط أو وصف حالة. مثال الأول أن تقول (افتخر) زيد فإنه يفيد أصل معنى الافتخار. ومثال الثاني أن تقول (تنفخ) زيد فإن معناه الافتخار وشيء آخر زائد: وهو أن يفتخر الإنسان بما ليس عنده أو بصفة ليست فيه. أو يفتخر أحياناً بأكثر مما عنده. فيكون كريماً بالجملة مثلاً ثم يصف من كرمه وجوده أكثر من الواقع ومما يعلمه الناس فيه. فحينئذ يقال عنه أنه تنفخ. وقريب من معنى المتنفخ (الفتحة) ـ بضم الفاء وفتح التاء. وقالوا في معناه أنه الرجل الذي يتنفخ في المجالس ويكثر من ذكر ما أُوتيه من ملك وأدب يتطاول بذلك عَلَى الحاضرين.
ومثل (تعلم) فإنه يفيد أصل التعلم. أما إذا قلت (أَخصى) فإنه يفيدنا زيادة معنى في التعلم. هو أنه تعلم علماً واحداً كأن يتعلم فن الطب وحده أو الكيمياء وحدها ولا يلقى باله إلى غيرها من العلوم.
مثل هذه الأوصاف أو الأفعال التي تدل على معنى مركب يجب أن نعنى بها ونجمع منها طائفة للقارئ والكاتب.
قد تريد أيها الكاتب أن تصف إنساناً بكونه متقلباً لا يثبت عَلَى رأي واحد فتارة يتبع رأي هذا. وطوراً رأي ذاك. فتفكر كثيراً في كلمة تدل عَلَى هذا المعنى المركب. ولكنك إذا حفظت كلمة (إمعة) ـ بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة ـ فإنك تستعملها وتقول. فلان لا بأس به ولكنه إِمعة تريد أنه لا رأي له وإنما يتابع كل إنسان عَلَى رأيه.
وقد تريد أن تصف صاحبك بأنه لا يثبت عَلَى صداقة أحد فهو يؤاخي هذا يوماً ويمله. وينتقل إلى مؤاخاة الآخر وهكذا. تريد وصفه بذلك فيعيبك الأمر وربما سردت لبيان هذا المعنى جملاً طويلة عريضة ولكن العرب يقولون لا تثق بفلان فإنه مقطاع أي لا يثبت عَلَى مؤاخاة أحد.
وقد تحاول وصف بعض معارفك بأنه كسول لا ينشط إلى الكسب ولا يسعى في طلب معاشه فيضيق عليك الوصف أما إذا تعلمت كلمة (لبد) عَلَى وزان (كتف) فإنك تصف وتقول أن صاحبي فلان لبد لا يبرح منزله ولا يطلب معاشاً لنفسه وقريب من كلمة (تنفخ) التي معناها افتخر بما ليس فيه كلمة (ابتهر) هو أن يقول المرء فعلت كذا وأفعل كذا وهو لم يفعل شيئاً مما ادعى. وكثيرون يدعون فعل مالم يفعلوا فيضيق المرءُ ذرعاً بالواحد من هؤلاء ويريد أن يوجز في وصفه وفي الأخبار عنه بكلمة واحدة فأرى له أن يقول: دعونا من فلان فإنه يبتهر في كل ما يقول.
أما إذا كان المرءُ يقول فعلت الشيءَ ويكون قد فعله صدقاً. فهل من كلمة تدل عَلَى هذا المعنى؟
تدل عليه كلمة (الابتيار): فإذا قلنا فلان يبتار كان معناه يقول ويفعل لا كصاحبنا الأول الذي يبتهر ابتهاراً. وقد جمع الأعشى الشاعر الكلمتين في قوله:
قبيحٌ بمثلي لفت الفتا ... ة إِما ابتهاراً وإما ابتيارا
يقول أنه لا يليق بأدبه أن يعرض بالفتيات ويأخذ في سرد حوادثه مع أوانس الحي: فيقول كان من أمري مع فلانة كذا وخبري مع فلانة كذا: فهو لا يبتهر ولا يبتار ولا يقول عن الفيثات شيئاً صادقاً أو كاذباً.
فليتق الله ازيار النساء وليأنسوا بالأعشى فإنه موضوع للأسى.
ويعرض لك أحياناً أن تقول: إن القاضي كان يكلم المدعى عليه أثناء المحاكمة بغيظ وغضب. فبدل أن تأتي بكلمتين تقول كان (يدمدم عليه) أي يكلمه بغضب واراك تتهيب استعمالها لأول الأمر ثم لا تلبث أن تأنس بها ويألفها سمعك فتشيع وتروج بين الكتاب.
وإذا مات امرؤ في ميعة الشباب وصحة الجسم وأردت أن تخبر بذلك فقل مات فلان عبطة. أي شاباً صحيحاً. واعتبطه الموت. وقد تعيب آخر بكونه يشبه النساء في شدة تزينه وتنعمه فتأتي في وصفه بكلام كثير. والأجدى لك أن تقول لا يعجبني فلان فإنه يتزلق. قالوا ومعناه أن يتزين وينعم حتى يكون الونه وبيض أي لمعان ولبشرته بريق.
وإذا أردت أن تثني على صديقك بأنه ينفق عَلَى ذوي رحمه الفقراء ويكفيهم ذل السؤال تقول أنه (يعوله) ولكن هناك كلمة أخرى لا أرى بأساً في استعمالها وهي ن تقول أنه (يقعدهم) ـ بتشديد العين ـ أي يقوم بأمرهم ويكفيهم مؤونة الكسب وأحسبك تفضل (يعول) عَلَى (يقعد) وتقول أنها أخف منها على السمع. نعم ولكن الاستعمال كفيل بصقلها وإدنائها من الذوق.
والمرأة التي تبغض زوجها ماذا يقال لها؟
يقال لها (فارك) أما إذا كانت تحبه فتسمى (العلوق) وقالوا أنها التي لا تحب غير زوجها.
وإذا مر موكب في الشارع ورأيت امرأة تنظر إليه من نافذة بيتها وتمد عنقها مبالغة في المد فقل أنها (تتلع) أي تمد عنقها متطاولة. وإذا رأيت صاحبك يمشي الهوينا وينسحب انسحاباً وأردت أن تحكي عنه تقول أني رأيته (يتخزل) أي يمشي وهو متثاقل في مشيته. وإذا كان صاحبك المذكور مولعاً بمعاشرة النساء والجلوس أليهن فقل عنه أنه (عل). وقالوا في تفسير أنه الذي يكثر زيارة النساء. والراهب لا تعرف له اسماً غير اسمه هذا ولكنني أذكرك باسم آخر ربما فاقه رشاقة وحسناً وهو (الابيل) وقالوا في معناه أنهُ الراهب المنقطع عن النساء. ومن كلامهم فلانة لو أبصرها الابيل لضاق به السبيل وما أحلى ما قاله محي الدين بن العربي في هذا المعنى:
لو أَنها برزت لأشمط راهب ... فاق العباد عبادة لو أنها
واتت لتطلب منه ما خلقت له ... متذكراً نهي المسيح لما انتهى
لم يدع ابن العربي وجهاً من أوجه الحسن اللفظي والمعنوي إلا أودعه بيتيه هذين: وقوله لو أنها في آخر البيت لأفادة استبعاد أن تبرز تلك الفتاة من خدرها وهذا يستلزم أن تكون حصاناً عفيفة. وقوله لتطلب منهُ ما خلقت له غاية في نزاهة التعبير ولطف الإشارة. وقوله متذكراً نهي المسيح مما يؤكد حسن تلك الفتاة فضل تأكيد. وأن جمالها يملك النفس ويخدر الحس.
ويوجد أناس يتركون اللحم فلا يأكلونهُ. فإذا أردت أن تخبر فلاناً من هؤلاء القوم. وبحثت عن كلمة واحدة تؤدي هذا المعنى المركب دللتك عَلَى قولهم فلان (يتنحس) بالحاء المهملة عَلَى وزن يتكلم أي ترك أكل اللحم.
وإذا ترك التلميذ المذاكرة ومطالعة دروسه ومال إلى البطالة والكسل ماذا تسمي عمله هذا؟
تسميه (تناوة) وقالوا في تفسيرها أنها ترك المذاكرة وهجران المدارسة.
وإذا كان التلميذ نفسه قد اعتاد عادة قبيحة وهي أن يغمض عينيه ويفتحهما دواليك وأردت أن تنهاه عن ذلك فقل له دع هذه العادة يا بني ولا ترضك عينيك أي لا تغمضهما وتفتحهما. وهو رباعي وماضيه أرضك عَلَى وزن أكرم.
وإذا لامك لائم على شيء لم تفعله فقل أنهُ (يتذقح) لي أي ينسب إلي ذنباً لم أفعله ومثله (يتجرَّم) وكلاهما عَلَى وزن يتكلم ومثلهما يتجنى فلان عَلَى فلان.
وإذا وقح الرجل وقل حياؤه فلم يعد يبالي ذمهُ الناس أو مدحوه. رضوا عنهُ أو سخطوا عليه. فذهب في ارتكاب المآتم واجتراح السيئات كل مذهب ماذا تسميه؟
يسمونه (مستولغ) وفسروها بأنه الرجل لا يبالي ذماً ولا عاراً. وهناك تعبير آخر يفيد هذا المعنى. وهو قولهم أن فلاناً (يلحم الناس عرضه) أي يمكنهم من عرضه بما يفعله من المقاذر والمخازي فيقعون فيه ويطعنون عليه. فكأنه بذلك جعل عرضه لحماً أطعمهم إياه. وأكل لحم الغير كناية عن اغتيابه والنيل من عرضه. ومنه قوله تعالى (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً). وإذا مهدت لك أسباباً حملتك بها على سب فلان وشتمه كنت قد ألحمتك عرضه. وورد (إن الله يبغض البيت اللحم) بكسر الحاءِ على وزن كتف. وفسروه بالبيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بغيبتهم والاستطالة في أعراضهم. وكان للوليد بن عبد الملك ولد يقال له العباس. ولم يكن في أطواره وأخلاقه كشبان بني مروان بل كان امرأَ صدق يتشبه بعمر بن عبد العزيز فقال يخاطب قومه ويحثهم عَلَى الاتحاد والإقلاع عن الفجور ومخالفة الدين.
ان البربة قد ملت سياستكم ... فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لاتلحمن ذئاب الناس عرضكمو ... إِن الذئاب إذا ما أُلحمت رتعوا
فقوله (لا تلحمن) بضم التاءِ وكسر الحاء وتشديد الميم المضمومة خطاب للجميع وقد حذفت واوه لاتصالها بنون التوكيد. أي أن الناس كالذئاب فإذا مكنتموهم من الوقيعة فيكم لا يقصرون كما الذئاب إذا رأوا فريسة أغروا بها ونهشوا منها.
ومن الناس من يقابل الآخرين بذكر ما يؤلمهم ذكره. ويصف من أحوالهم ما يحملهم به عَلَى كره الحياة بل كراهة أنفسهم. فهذا الرجل الذي يفعل بالناس كذلك يسمى (أَجوم) عَلَى وزن جسور ويقال أنه يؤجم الناس ـ بتشديد الجيم ـ أي يكره إليهم أنفسهم. وهو مشتق من أجم الطعام وغيره إذا كرهه ومله.
وقد قام في زماننا قوم ينقصون العرب. ويصغرون من شأنهم وآخرون يفعلون كذلك بالمسلمين فماذا تسمي الأولين؟ وماذا تسمي الآخرين؟ الأَولون يسمون (شعوبية9 والواحد منهم (شعوبي) وقالوا في تفسير الشعوبية أنهم الذين يحتقرون العرب.
والآخرون يسمون (دققة) ـ بفتح القافين ـ وقالوا أنهم الذين يظهرون عيوب المسلمين.
أما (دققة) فطاهر أنه مشتق من دقق نظره في الشيء إذا تأمل فيه. وبحث في ما خفي عليه من أمره. ومن يكره المسلمين يفعل ذلك وينقب عن مساويهم ليشهر بها ويشنع عليها.
وأما الأولون مبغضو العرب فلماذا سموا (شعوبية)؟
سموا بذلك نسبة إلى الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو الجماعة الكبيرة من الناس غير العرب. أما الجماعة الكبيرة من العرب فتسمى قبيلة كما أن الجماعة الكبيرة من بني إسرائيل تسمى سبط. فالقبائل للعرب. والأسباط لليهود. والشعوب لغير هؤلاء وأولئك. ومنه قوله تعالى في صدد الامتنان عَلَى البشر (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). وكتب المعتمد بن عباد أحد ملوك الأندلس إلى يوسف بن تاشفين ملك المغرب يستنجده عَلَى الاسبانيول ـ (فأنا نحن العرب في هذه الأندلس قد تلفت قبائلنا. وتفرق جمعنا. وتغيرت أنسابنا. فصرنا فيها شعوباً لا قبائل. وأشتاتاً لا قرابة ولا عشائر) الخ. فانظر كيف قال أنهم تلفت قبائلهم فلم يعودوا قبائل وإنما أصبحوا شعوباً أي جماعات أعجمية. وذلك بسبب فقدهم مزايا العرب وكريم خصالهم التي منها النجدة والنعرة في حماية الذمار. والدفاع عن الجار.
أما الكتاب اليوم فقلما يفرقون بين (الشعوب) و (القبائل) وإنما يستعملونها في مطلق الجماعات من أي جنس كانوا.
ولما كانت شعوب الأعاجم تحط من قدر قبائل العرب عادة سمي كل من يحتقر أمر العرب (شعوبي).
اسكلة طرابلس الشام
المغربي