مجلة المقتبس/العدد 46/استعمار الهند
→ شذرة ذهب | مجلة المقتبس - العدد 46 استعمار الهند [[مؤلف:|]] |
الألبان ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1909 |
معربة عن المجلة الزرقاء الفرنسوية
أحدث ما يقوم به الهنود في العهد الأخير م مقاومة حكومتهم قلقاً وهلعاً وذلك أن الثورة تضطرب لهزتها أعصاب إمبراطورية الهند والقوم هناك يدعون إلى الاستقلال جهاراً حاملين العلم الأحمر ويقوم الدعاة من كل مكان يوقدون جذوة التعصب والتحزب ولا يستنكفون من إتيان كل منكر من قتل النفوس وإهراق الدماء.
قويت هذه الحركة وامتدت دون أن يعوقها عائق لأنه لم يهتم بها أحد في مبدأها لغرابة أمرها ولأنها ظهرت غير متناسبة مع حال العقول في الهند. ولئن كان جمهور موظفي الحكومة الإنكليزية هناك عَلَى جانب من طهارة الوجدان والعلم والتهذيب والتجارب إلا أنهم لم يحسبوا لهذه الحركة حسابها ووهموا في نتائجها وفلتهم عَلَى ما عرفوا به من الذكاء إن ما دعا إلى ذلك غلطات لهم ارتكبوها فنشأ عنها ما نشأَ. وللوقوف عَلَى الصلات المتبادلة بين الحكام الانكليز والمحكومين الوطنيين من الهنود يجب أن نبين الأسس التي قامت عليها الإدارة البريطانية في شبه جزيرة الهند فنقول:
إن الهند أوسع من أوربا فمساحتها 4، 894، 000 كيلو متر مربع وسكانها 266 مليوناً وأهلها خليط من الناس ما كانوا ولن يكونوا أمة برأسها. قال الفرد ليل: كل من أراد أن يحكم عَلَى امرئٍ بالحكومة التي تحكمه والبلاد التي ينزلها لا يكون حكمه إلا ناقصاً إذ يجهل بذلك طبيعة الحكومة التي تحكمه لا يفيد شيئاً في معرفته نفسه لأن الحكومة نتيجة أحوال عارضه وتدبير موقف اه.
لما استولى الانكليز عَلَى الهند عقيب أن دالت دولة المغول ورفع عن بعض ارجائها علم الفرنسيين لم يجدوا أمامهم حكومة وطنية في البلاد ولا جماعة اجتمعوا لتدبير شؤونهم تربطهم المصلحة المشتركة بها بل رأوا هنا وهناك عصابات غير طبيعية نشأت بالاتفاق بطبيعة الفنح وظلت بطبيعة الحال عبارة عن مجتمعات منفصمة العرى تجمع تحت لوائها ملايين من الناس في أماكن متباينة وكان لهذه الأنوام بحسب مكانتها زعماء يقودونها اسموا أنفسهم أمراء وراجات ونواباً وسلاطين وامبراطرة ولم تتغير هذه الصورة من الحكومة منذ الأعصر التي استولى فيا الفرس والمقدونيون والبارثيون والتتار والمغول وغيرهم عَلَى تلك القارة.
ومع ما نراه من حال ذاك الشعب المهزع المنتشر الأطراف الخالي من كل جامعة قد انشأ له مدينة باهرة دامت قروناً تنير العالم بدائعها وظلت إلى يوم الناس هذا لم تمسها يد بسوءٍ. فارتبط الهنود من الشمال إلى الجنوب من جبال حملايا إلى رأس كومور برباط واحد وعملوا بقلب واحد وتبعوا بروح واحدة تدفعها الثبات الذي لا يوصف والغاية المشتركة التي وجهوا كلهم وجهتهم إليها وذلك أنهم لم يرموا إلى غرض سياسي ولا إلى غرض اقتصادي بل لأن المجتمع الذي ألفوه ورتبوا درجاته لم تكن غايته زمنية دنيوية بل كانت دينية فاستقام الأمر للمستعمرين لأن القوم لا تهمهم السياسة ولأن النواب والراجات المغلوبين عَلَى أمرهم ليست لهم أصول راسخة في البلاد ولا منزلة في قلوب الأمة فكان الدين هو الذي يحرص القوم عَلَى بقائه والانكليز أحرص الناس على احترامه ولا سيما بين طبقات البراهمة التي كان لها تأثير شديد في العامة.
أدرك الانكليز في الحال صراحة بأنهم في حلّ من أن يؤسسوا في الهند الحكومة التي تروقهم من حيث الإدارة والنظام السياسي والتشريعي على أن لا يمسوا المعتقدات ولا رجال الدين بسوء فانشأوا حكومة جديدة سموها حكومة الاستقلال ولم يراعوا في تأسيس هذه الحكومة أصول الشعوب إذا كان هنا البنغاليون الجياع وهناك الباهراتيون الشجعان وفي مكان أبعد سكان ميزور وفي المقاطعات الأخرى السيخيون النشيطون فتجد الفلسفة العالية والتصوف البديع إلى جنب الخرافات المستحكمة والتعصب الشديد بل راعوا اختلاف طبائع الأقاليم من حيث وضعها الطبيعي عملاً بما قاله أحد رجالهم من أن الاختلاف في أصقاع الهند أشد مما تراه في ظاهر أرضنا وسياراتنا من المشاهد. ولم ير المستعمرون من مصلحتهم أن يؤلفوا وطنية هندية فيكون لسكان بنجاب وبنغل وطنية خاصة بل عزموا عَلَى توسيع الاختصاص وتقسيم البلاد في إدارتها عَلَى خلاف ما جرت عليه فرنسا في ربط البلاد كلها بالعاصمة مباشرة لأنها ترمي إلى تجنيس أهل البلاد المستعمرة بالجنسية الفرنسوية. وبعد تجارب طويلة تمت لانكلترا سنة 1861 صورة الهند وكانت هذه الصورة معدلة منظوراً فيها وهي الصورة التي جرت عليها شركة الهند الشرقية سنة 1773 واستصدرت بها قانوناً من مجلس النواب فقسمت الهند أولاً إى ثلاث ولايات بنغال ومدراس وبومباي دعوها رئاسات لأن إدارتها كانت بيد مجلس ينشر القوانين وينفذ القرارات وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهو دور الحروب والمنازعات الهائلة رأت انكلترا من الضرورة أن توحد الإدارة السياسية مع الإدارة الحربية لتقوية كل منها فعهدت سنة 1773 بولاية الهند لحاكم بنغال بحيث يكون له التقدم عَلَى حاكمي مدراس وبومباي ولكن ولايته اسمية لا فعلية فأخذت الولايات الثلاث تضيع الوقت في الأخذ والرد والإدارة مختلة الأساليب لا ترجع إلى يد تضم شملها حتى إذا كانت ثورة السيباي سنة 1857 وهي التي كادت تخرج انكلترا من الهند وضعت الحكومة صورة إدارة كانت أساساً للإمبراطورية الهندية وهو عمل إداري لم توفق إليه أمة ولم يخطر في خاطر حاكم.
فقسمت أراضي الهند إلى طبقتين جوهريتين أراضي السلطنة البريطانية أي البلاد التي تحكمها انكلترا مباشرة وهي عبارة عن ولايتي مدراس وبومباي اللتين بقيتا عَلَى ما كانا عليه في حدودهما وولاية بنغال وقاعدتها كلكوتا جعلت عاصمة المملكة وقسمت إلى ثماني مقاطعات لها حق الانتخاب. والطبقة الثانية إمارات الوطنيين التي تركت تحت سلطة الراجات الاسمية أو الفعلية فقسمت إلى قسمين في وضع الحماية الانكليزية عليها وبذلك صار الحكم للوالي العام والرئاسات وحكومات الولايات والإمارات الوطنية.
ولحاكم الهند أو نائب ملكها مجلس مؤلف من ستة وزراء لهم معاونون وفي بعض الأحيان ولا سيما عند سن القوانين يضطر إلى أخذ آراء المجلس وله الحرية أن يعمل بها أو يرفضها وهؤلاء الوزراء يشبهون من وجوه كثيرة وزراء لويس الرابع عشر لا وزراء ادوارد السابع وهم وزير الداخلية والخارجية والمالية والمعارف والتجارة والحربية والعدلية والأشغال العمومية ويحق لواليي مدراس وبومباي أن يحضرا في المجلس عضوين فوق العادة وهذا المجلس الوزاري يجتمع في المكان الذي يستني الحاكم العام فحيثما التأم فهناك العاصمة. ويضاف إلى هذا المجلس بعض الأعضاء فيصبح برلماناً أي مجلس نواب فيكون نصف هؤلاء الأعضاء الإضافيين من الأعيان أوربيين كانوا أو وطنيين عَلَى أن لا يكونوا من موظفي الحكومة يعينهم الحاكم العام فبذلك يصبح العنصر الرسمي في هذا المجلس أكثر من العنصر الأهلي وهذا العنصر قليل العدد ولذلك لا حكم له ومعاونته في الأغلب.
أما المجلس التشريعي فله سلطة واسعة لا يقف أمامها إلا امتيازات البرلمان البريطاني وحقوق السلطنة الانكليزية وتفقد قراراته عند ما يصدق عليها حاكم الهند. وهذه الطريقة التي تسهل إحالة السلطة الإجرائية إلى السلطة التشريعية تحل مسألة تقسيم الإدارة عَلَى ليسروجه في حين تمنحها وحدة الآراء والأميال.
وفي مجلس النواب كما في مجلس الوزراء يعمل كل عضو بما فيه المنفعة العامة وينظر في المسائل التي يحسن معرفتها بخلو غرض ويعطي رأيه حراً وللموظفين ضمانات لا تضر بالنظام ولكنها تقي أشخاصهم كل الوقاية.
وبعد فإن الحكومة العامة تنظر خاصة في المسائل الملكية كالديون العمومية والكمارك والرسوم الأميرية والمقايضات والبريد والبرق ونفقات الحربية والأديان وقانون الجزاء والباتنتا والعلائق الخارجية والحقوق الأدبية وغيرها فتوجه دفة السياسة إلى الوجهة التي تختارها وتوحد بين المصالح العامة والخدم العامة فهي المنظمة والمدبرة وحافظة العهد الدستوري أما ولاة الأقاليم فلكل منهم مجلس خاص ومجلس تشريعي لا تسري أحكامه عَلَى أحكام الحاكم العام كما ن هذا لا يتعدى عَلَى امتيازات الإمبراطورية وما عدا ذلك فالحكومة مالكة حريتها برمتها ولها مطلق التصرف أن تقرر ما تشاء. ويخاطب واليا مدارس وبومباي لندرا مباشرة ويناولان التعليمات بأنفسهما أما سائر الولايات فإدارتها ترجع إلى ولاة وبعضها إلى متصرفين يعينهم الحاكم العام ويتناولون رواتبهم من الإمبراطور ويختارهم من الموظفين الذين قضوا عشر سنين في الهند على الأقل وهم يخابرون كلكوتا في شؤونهم ولكن في الأمور الإدارية ولهم سلطة كسلطة والي مدراس وبومباي ولهم الميزة عليهم بأنهم أكثر خبرة ونفوذاً.
أما الجيش فيؤلف من جيش عامل ن الأوربيين والهنود ويقدر بمائتين وسبعين ألفاً منهم ثلاثة وسبعون ألفاً من الانكليز ومن جيش مساعد تقدمه الإمارات الوطنية المستقلة عدده 380 ألفاً ولكن على الورق فقط وعنده أربعة آلاف مدفع وإذا استثني من الجيش العسكر الانكليزي وبعض الالايات كالسيخيين والباتام والغوركا فالجيش الهندي لا يساوي شيئاً. وإذا استثني من الجيش المساعد فيلق مملكة الكواليور لا يساوي شيئاً أيضاً. قال أحد كبارهم أن هذا الجيش عبارة عن خليط من الأوباش لا علم له بالتدريب الحربي وليس لديه سلاح منظم وإن الايين أو ثلاثة من جيشنا مع بطارية خيالة تمزق شمل خمسين ألفاً من مثل هؤلاء المحاربين فمجموع هذا الجيش العامل وقدره سبعمائة ألف مع الجيش الاحتياطي هو عبارة عن تضليل يزول كالسراب أو كالدخان عند مداهمة الخطر.
وتقسم كل ولاية وارداتها مع الولايات العامة عَلَ نسبة محددة وتقوم بنفقات القضاء والمعارف والأشغال العمومية وإعانة البائسين ولكل ولاية الحق في أن تستلف نقوداً على واردات خمس سنسن تصرفها في الطرق التي تراها نافعة لعمران ولايتها وتقتصد ما تشاء وفي الهند أربع محاكم عالية في بومباي وبنغال والشمال الغربي ومدارس تميز إليها أهم الدعاوي المدنية والجزائية وينتخب أعضاؤها من قبل السلطنة الانكليزية ويقبض كل عضو من مئة إلى مائتي ألف فرنك راتباً سنوياً وفي كل حاضرة ولاية محكمة استئناف ومحكمة جزاء نقالة ثم محاكم المقاطعات ويعمدون تارة إلى استعمال قانون لندرا وإذا وقع اختلاف بين أوربيين من رعايا انكلترا يطبقون عليهم القانون الهندي وأحياناً قانون الجزاء الانكليزي الهندي.
ومأمورو الإدارة الملكية عبارة عن 765 موظفاً فيكون بذلك موظف واحد لكل ربع مليون ساكن وتحت أيديهم صغار الموظفين من الوطنيين. ومن مبدأ انكلترا في الهند أن تبقي جميع الوظائف الكبرى في أيدي الأوربيين وتعطي جزءاً مهماً منها للوطنيين ولا ترى الحكومة أن تقبل أحداً من رعاياها الهنود وتجعلهم انكليزاً في جنسيتهم وهم يهزأون من فرنسا التي جنست رعاياها في بوندشيري بجنسيتها وأعطتهم حق الانتخاب لإرسال نواب واعيان.
أما الإمارات الهندية المستقلة فهي منقسمة إلى طبقتين تقل في الأولى السلطة الانكليزية عليها ومنا الإمارات الإسلامية التي تركت وشأنها لأن ذلك اقصد في النفقة عليها ولكن حالتها إلى الزوال لأدنى إشارة تصدر من الحاكم العام ثم أن أمراء تلك الإمارة الإسلامية هم غرباء ويدينون بدين يكرهه السواد الأعظم من رعاياهم فهكذا تجد في مملكة النظام مملكة حيدر آباد الدكن. تسعة ملايين من البراهمة لقاء مليون من المسلمين وفي سائر الممالك المستقلة خمسون مليون برهمي أما ممالك كواليور واندور وبارودا فليس لها من المهراتية إلا الاسم لأن امراءَها هم دخلاء عليها. أما ممالك الطبقة الثانية من الوطنيين فتختلف عن هذه كثيراً ومن الممالك ميزور وراجبوتانا وترافانكور وجيبور وجوبور وملوكها هم من البراهمة ولئن ترى الحكومة من الحكمة أن تضيق خناقهم وهي لا تخافهم ولكنها لا تركن إليهم إلا قليلا قال جايمس ستيفن:
إن الانكليز في الهند هم نواب تمدن محارب وسلام تدعمه القوة وما من بلاد نظمت شؤونها وحالفتها الدعة والراحة مثل الهند البريطانية ومتى خفت شدة الحكومة يكر نظام الهند كأنه مأخوذ بسيل جارف اه. وتنقسم درجات التعليم في الهند إلى ابتدائي ووسط وعالٍ وهو النقطة الضعيفة من ذاك البناء الانكليزي الهندي البديع.
إن من يسكنون البلاد الواقعة بين نهر الاندوس وشاطئ كورومانديل ويطلقون عليهم اسم الهنود يجب أن يجعلوا م الشعوب التي تشمئز من الغريب وتعاديه شأن كل الشعوب التي لها تاريخ قديم وفلسفة معروفة وتمدن خاص بها وهذا يصدق عَلَى الأكثرية من البراهمة كما يصدق عَلَى الأقلية من المسلمين فالبراهمة يرون من واجباتهم أن لا يحيدوا قيد شبر عن تعليم أولادهم الصنعة التي يعلمها آباؤهم بالإرث وتلقيهم الفروض الاجتماعية والعالمية والدينية التي تصدر عن زعمائهم وإن جزءاً من هذا الشعور ليتعلمه الطفل بالفطرة والتقليد وباقيه يحصله في مدرسة قريته أو يأخذه عن رئيسه الديني مع ما يأخذ من آداب أمته ودينها فيملأ ذهنه بالتراكيب المبهمة والصلوات ولا سيما صلاة الغداة ومعناها: لنعبد النور السامي من هذه الشمس ربة كل وجود في الوجود التي تقود فكرنا كما تقود عين معلقة بقية السماوات.
أما التعليم الحديث فإن رب الأسرة يدفعه عن أسرته مشمئزاً بقدر ما كان يشمئز لاوكون من هدايا اليونان ويرفضها ولذلك يعز عَلَى البراهمة أن يخونوا مبادئهم المقدسة وأكثر ما يحذرونه من الأمور التي يحملها إليهم الغرب المدرسة فإن شيئاً خفياً في فطرتهم يدعوهم في السر: إياكم والمدرسة الانكليزية فهي عدوتكم.
وعَلَى هذا حارت انكلترا في سياسة التعليم التي تجري عليها بين البراهمة لأنها لا تستطيع أن تعلمهم التعليم الأوربي إلا إذا أضرت بمعتقداتهم الدينية ومعتقدهم هو وطنيتهم وهي لا تريد أن يخرجوا عنها حتى إن انكلترا اضطرت سنة 1840 أن تجيب مطالب ثلثمائة ألف رجل اجتمعوا في سهل بنارس يقيمون الحجة عَلَى الرسوم التي تريد وضعها على البيوت وعزموا أن يهلكوا جوعاً أو تجيبهم الحكومة إلى إلغاء هذه الرسوم فأجابتهم مكرهة مخافة أن يحدث وباءٌ فإذا عادت روح الاعتصاب وسرت في أعصاب مائتي مليون رجل لمقاومة سياسة التعليم ماذا تعمل بريطانيا؟
ولم تر انكلترا اسلم لها من تلقين الهنود مبادئها بالتدريج على أن تعلمهم ما تعلمه أبناءها في عاصمة الجزائر البريطانية وتشربهم حب الانكليزية عَلَى شرط أن لا يحيدوا عن جادة الإخلاص لها ولا يسيئوا استعمال المفتاح الذي تسلمهم إياه ويستخدمونه لفتح الباب في إيذائها والمسألة لا تخلو من إشكال أيضاً فيما يتعلق بأهل الطبقة العالية من المسلمين فقد جاء في أحد التقارير عن الهند ما نصه: إنا إذا صرفنا النظر عن الأسباب الاجتماعية والتاريخية في الشعب الإسلامي في الهند نرى لانحطاطهم أسباباً ذات شأن لها علاقة بتربيتهم التي تؤثر في حياتهم فتعليم الجامع يجب عندهم أن يكون سابقاً دروس المدرسة ولا يتيسر أخذ الطفل من المسلمين إلا بعد أن يقضي بضع سنين في مدرسة يتعلم فيها اللغة العربية والفقه الإسلامي ولكن تعليم المدرسة الدينية يقوده إلى أن يختار الخدم الدينية مؤثراً لها عَلَى أربح المسالك والأعمال. وقد أيدت التجارب هذه الملاحظة إذ حدث أن حب الوظائف العامة قد أثر قليلاً في المسلمين في الهند وظلوا يقاومون التعليم الانكليزي كل المقاومة ولحسن طالعهم لم تعن الحكومة الانكليزية بأن تجعل المسلمين أوربيين كما حرصت عَلَى جعل الهنود كذلك ورأت انكلترا أن تنقذ الطبقة العالية من الهنود من الأوهام القديمة لتستخدم منهم أناساً في الإدارة والقضاء والمالية وقد رأَى اللورد ماكولى سنة 1835 على ما فيه من العقل الذي أثر تأثيراً سيئاً في الهند أن من الواجب تعليم اللغة الانكليزية في مدرسة شبان الهنود من أرباب الطبقات المختلفة لترشيح الانكليزية من الأعلى إلى الأدنى وكان يقصد من ذلك أن يأخذ ما يلزم للبلاد من الموظفين من أهل البلاد أنفسهم.
وفي سنة 1854 أنشأت انكلترا ديوان المعارف العمومية فعنيت بإدخال اللغة (الانكليزية) إلى مدارس بنغال وبنارس ونظمت مدارس الوطنيين مع محافظتها لها عَلَى صفاتها الخاصة وفي سنة 1857 أثمرت البذرة التي وضعها لورد ماكولي في تربة الهند فأسست ثلاث كليات في كلكوتا وبومباي ومدارس عَلَى مثال الكليات الانكليزية فيها أنواع الراحة والرفاهية وتدرس فيها الدروس التقليدية وأنشئت في حاضرة كل مقاطعة مدرسة عالية وفي المدن الصغرى مدارس وسطى ثم أُنشئت كليات لاهور لإقليم بنجاب والله آباد لإقليم الشمال الغربي وساغ للمتخرجين من تلك الكليات أن يتدرجوا في المراتب مثل من تخرجوا من كليتي أكسفورد وكمبردج.
فتخرج من تلك الكليات أناس من أرباب الذوق والأدباء والمشرعون وقل في المتخرجين العلماء إذ لاحظ السير هنري مين أن عقل الهندي المستعد لقبول ما حلا وطاب من المعارف هو محروم مما يتصور من قياس مدقق الحقيقة فالهندي يجيد التكلم والكتابة والتفكير الدقيق ولكنه متوسط الاستعداد للحساب والأرقام وأصبحت الحكومة تبعث إلى لندرا بأرقى طبقة من متخرجي كليات الهند ليكونوا نموذجاً عَلَى اشتغالها وراموزاً لمن طبعتهم بطابعها فكانت تكرم وفادتهم في لندرا ولم تعقهم ألوانهم السمراء وتناسب أعضائهم وعيونهم التي تقدح شرراً وقاماتهم القصيرة وحركاتهم المتناسقة وأمزجتهم الشديدة عن أن يستميلوا قلوب الناس إليهم ونالوا من الكرم البريطاني أنواع الرعاية والعناية وفتح الانكليز لهم أبواب دورهم الأنيقة الشريفة كأن كل فرد منهم كان أميراً خطيراً وراجا كبيراً فأخذوا بما شاهدوا وتكلنزوا عَلَى أجمل أسلوب وعاشوا عيش الوطنيين الانكليز وقدروا حق قدره كل ما في الوطنية من الاحترام والأمن والشرف والاستقلال العالي.
فكانوا يتعاشرون ويتسامرون ويتعارفون في المجالس إلى من يخطبهن من الآنسات الفتانات الشقر البيض ويلعبون معهن أنواع الألعاب المألوفة والرياضات الانكليزية النافعة وكانوا في جميع أحوالهم مثال الظرف في ألبستهم والترتيب في قبعاتهم حتى إذا أتموا دور التمرين التي كان كل يوم منها ابتسامة للمستقبل وتشبعوا بهواء الغرب وتبطنوا أسرار فلسفة هربرت سبنسر وشوبانهور ونيتش وخفقت أفئدتهم بما علمت وتلبس شعورهم بالبدائع وحشيت عقولهم بخطب مجلس النواب الانكليزي - يركبون البحر عائدين إلى بلادهم بلاد الشمس والحرية يحملون أجمل ذكرى مما رأَوه وفي صناديقهم وأصونتهم الأوراق المطيبة والزهرات الذابلة وقطع من الشريط وبعض الفساطين يؤُبون والكبر آخذ منهم ويعود محيطهم البرهمي يتحيفهم ويرجعون إلى سابق أوهامهم وأحقادهم عَلَى الإدارة الانكليزية التي لم تؤثر فيها كثرة تغذيهم بمبادئ أصحابها.
ولقد شاءت اللغة الانكليزية بين أمراء الهند حتى صارت لهم بمثابة لغة الاسبرانتو في الغرب يتكلم بها الهنود وهم أجناس مختلفة وأصحاب لهجات متباينة فالمتكلمون باللغة السنسكريتية والبراكريتية والبالية والتيلنكا والبنغالية والهندستانية والمالاكالية والتامولية وغيرها من لهجات الهند يحسنون الانكليزية كأهلها وهذا ما حدا انكلترا أن تضاعف مدارسها وكتاتيبها وكلياتها ثم رأت من الحكمة أن تعتمد على العنصر الإسلامي فأعظمت له مكانته وأقلت من مكانة العنصر البرهمي فزاد ذلك البراهمة نفوراً وأخذوا ينادون في سرهم وجهرهم (الهند للهنديين) وأرادوا محاربة الانكليز حرباً اقتصادية فلم يكن من أبناء جنسهم أناس يكفون للظفر في هذه المعارك فلم يسعهم إلا أن يلجؤا للأجانب فكان الألمان وهم الشعب الذي يحاول أن يخلف الانكليز في كل مكان هم الذين مدوا أيديهم للهنود وأصبح ما تخرجه هندهم من بالات القطن وصناديق الشاي وأكياس القهوة يسافر إلى ميناء همبورغ بدل منشستر.
ثم حدثت مشاغبات وفتن وقتل رجال الثورة بعض أعضاء الحكومة فلم يسع انكلترا إلا أن تعطي الهند نظاماً جديداً مصبوغاً بالصبغة الديمقراطية أكثر من ذي قبل وأشركت الهنود في سياسة بلادهم واستعملت انكلترا الرفق فيمن دعوا إلى الثورة من رجال الصحافة والمحاماة وكان من تقربها من روسيا وتحالفها مع اليابان أكبر مفتر لهمم الهنود عن نزع أيديهم من يد حكومتهم أما المسلمون الذين رأت بريطانيا بعد حين أن تعتمد عليهم فقد تحركت نفوسهم وأدركوا قصورهم خصوصاً عندما رأوا إخوانهم شبان العثمانيين الأحرار الذين حرروا المملكة العثمانية من السلطة الاستبدادية كل هذا ليصدق عَلَى سكان الهند ما قاله أحد المفكرين من رجال السياسة الانكليزية (سيبقى الشعب الهندي عَلَى الدوام شاهدا ناطقاً بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مساً خفيفاً) ومحاولة تجديد شبابه هو من الغلط وقلة الخبرة.