مجلة المقتبس/العدد 42/المطبوعات العربية
→ نخب الذخائر | مجلة المقتبس - العدد 42 المطبوعات العربية [[مؤلف:|]] |
رسائل بليغة ← |
بتاريخ: 1 - 8 - 1909 |
كان أول كتاب عربي مثل بالطبع في القرن الخامس عشر للميلاد في رومية العظمى كرسي البابوية فطبعت على ذاك العهد أمهات من الكتب النافعة كأسفار ابن سينا وغيره وعني الطابعون بتصحيحها ومعارضتها على أصول وقعت إليهم فدلوا بذلك على أن حب الإتقان واختيار الأجود تكاد تكون غريزة في الغرب ثم انصرفت الرغبة في أوروبا إلى تعلم لغات الشرق ولا سيما العربية فطبع المستشرقون من الفرنسيس والألمان والهولانديين وغيرهم كتباً جليلة لنا وبذلوا مجهودهم في تصحيحها ووضع الفهارس والمعاجم لها والدلالة على ما فيها من فوائد وأوابد وشوارد، وكل هذه المطبوعات على سقم الحروف التي كانوا يستعملونها في مطابعهم كانت على غاية من جودة الورق ومتانته وجمال الوضع والشكل.
ولما دخل الطبع إلى البلاد العثمانية سنة 1135 هـ تأسست في اسكدار إحدى أحياء الأستانة أول دار للطباعة كان في جملة المطبوع من الكتب العربية بعض كتب دينية وبينها بعض الكتب العلمية والتاريخية إلا أن الطباعة لم تكن على الإتقان المطلوب والعناية بالتصحيح كانت دون عناية الأوروبيين بكثير أما الفهارس والتبويب فلم يحفلوا بها لما يحتاج وضعها إليه من طول النفس وسعة الصدر وكثرة العلم.
ولما قام محمد علي الكبير في القطر المصري والياً عليها وأراد أن يجعل لها شأناً في الحضارة لتدخل في عداد البلاد الراقية كان مما قام به تأسيس المطبعة الأميرية الكبرى فشرعت تطبع الكتب المعتنى بها متخيرة لها أجود الحروف وأجود الورق وخيرة المصححين والناظرين، وإن بعض الكتب التي نشرتها تلك المطبعة على أوائل عهدها لا تزال إلى اليوم مثال الإجادة ومنها كتاب كلستان الفارسي للحافظ الشيرازي والقاموس المحيط للفيروز آبادي.
وما برحت أحوال المطبعة الأميرية عرضة للقلب والإبدال على ما يكون حال الإدارات والمشاريع في الشرق غالباً تختلف سقوطاً وارتفاعاً بحسب إرادة القائم عليها وهي تطبع مع تلك الكتب القديمة التأليف الأسفار التي عني الشيخ رفاعة الطهطاوي وجماعته بتعريبها من اللغات الافرنجية ولا سيما الافرنسية فجاءت إلا قليلاً نموذج الجودة شكلاً ووضعاً.
ثم أخذ بعض التجار في أواسط القرن الماضي بمصر يفتحون المطابع ويطبعون الك للتكسب منها فقط فوضعت لهم بعض أمهات الحروف ولكنها سقيمة بالقياس إلى حروف المطبعة الأميرية وزادها سقماً أن أولئك الطابعين طفقوا يتخيرون من الورق أرأده ويقتصدون في التصحيح حتى لقد يعهدون به وأكثرهم أميون لا يقرأون الكتاب إلى أناس يماثلونهم في ضعف المدارك والعلم فكانوا إذا أحسنوا وأجادوا يطبقون المطبوع بالحرف على ما عندهم من الأصل وربما كان في البلد على قيد غلوة منهم خمس نسخ أو عشر من ذاك الكتاب كتبت في أوقات مختلفة وهم لا تحدثهم أنفسهم بأن يعارضوا عليها نسختهم التي يطبعون عليها وإن يذبلوها كما جرت عادة الأوروبيين بوضع اختلاف النسخ في أسفل الصفحات، أما التبويب والفهارس المتقنة فليس لها أثر فيما طبعه أولئك المتجرون ببضاعة العلم.
وعلى ذاك العهد فتحت بعض المطابع في بيروت على يد بعض الجمعيات الدينية المسيحية وكان سبق لبعض الأديار في لبنان أن كان لها مطابع حجرية، طبعت بعض الكتب الدينية واللغوية ومن جملتها شرح الزوزني على المعلقات وهو طبع حجري لا حرفي، فتخيرت مطابع تلك الجمعيات الكتب الدينية أولاً وأجادت بعض الشيء في طبعها ثم ارتقت الطباعة إلى أن أصيبت ببائقة المراقبة فانقطعت الرغبات عن الطبع بل زهد الناس في تعلم العربية ورأوا ربحهم المادي من اللغات الأعجمية أكثر وأنشأ دير الفرنسيسكان في القدس مطبعة طبعت بعض كتب وأكثرها في الدين ومثلها دير الدومينيكين في الموصل طبع مع كتب الدين كتباً علمية قديمة وحديثة ومنها تآليف المطران يوسف داوود العالم المشهور، وأنشئت إذ ذاك في دمشق مطبعتان إلا أنهما لم تطل أيامهما حتى تزيد العناية بإتقان مطبوعاتهما بالاقتصاد من التصحيح والعناية والورق والشكل ورص السطور والكلمات بعضها فوق بعض بدون فواصل ولا تقطيع وكانت أكثر مطبوعاتهم في فروع الفقه والنحو والكلام والزهد والخلاعة مما ألفه المتأخرون وفيه من الحشو واللغو والموضوع والمصنوع ما كثر ضرره في عقول الطالبين والمتأدبين.
ومنذ عادت إلى العربية بعض نضرتها الأولى أيام هب منذ بضع سنين أناس استناروا بقبس الغرب أصبحت المطابع تستحي من طبع التآليف الساقطة وتستشير أهل الرأي في تخير المصنفات للطبع ولو عملوا بنصائح العلماء كل حين لما أخرجوا كتاباً للناس قبل بذل الجهد في تنقيحه وتصحيحه وإتقان طبعه ووضعه ولكن ما الحيلة وهم يعتقدون كما قلنا أن الربح لا يتيسر لهم إلا بمثل هذا الاقتصاد البارد، وما أعجب إلا من طابع يطبع كتاباً يكلفه الألف والألفي ليرة ثم يبخل بعشرات من الليرات أو بعض النسخ جائزة لمن يتقن النظر فيه.
أما سائر المطابع المصرية كمطابع الصحف فلم تطبع شيئاً يذكر من الكتب المهمة وإن كانت أكثر سخاء من أولئك التجار في إتقان الطبع وجودة الورق وحسن التنسيق، ولم نر في المطبوعات التي انتشرت في العهد الحديث أتقن وأجمل وأصح من كتاب المخصص لابن سيده تعاورته بالتصحيح أيدي بعض العلماء الأخصائيين المحققين فجاء مزيداً في بابه لانخجل منه إذا نظر فيه عالم أوروبي كسائر مطبوعاتنا الأخيرة.
نقول هذا ونحن على مثل اليقين في أن ماطبع من الكتب العربية في بلادنا ما عدا بعض كتب طبعت في المطبعة الأميرية في مصر وبعض كتب لغوية أدبية طبعت في المطبعة اليسوعية في بيروت لا ثقة للمستشرقين به، وقد أكد لنا أحدهم أن كل نقل ينقله أحد مؤلفيهم من كتاب عربي طبع في الشرق تسقط مكانته وإن جمهورهم لا يعترف بالصحة إلا لكتاب عربي طبعه أوروبي ولكن هذا لا يخلو من غلو أيضاً.
أليس من العار أن تكون سيرة ابن هشام التي طبعت في ألمانيا أصح من الطبعة التي طبعت في المطبعة الأميرية نفسها وهي التي كنا نقرظها الآن بجودة الطبع واختيار المصححين وقد نبغ منهم فيها أمثال الشيخ نصر الهوريني وأمثاله.
أليس من العار أن يطبع امرؤ القيس الطحان أو (ماكس موللر) الألماني طبقات الأطباء لبن أبي أصيبعة في مصر فيخرج بجودة تصحيحه وفهارسه على ما تراه وتطبع مصر كتاباً لأحد كبار فقهائها الذين تفاخر بهم وهو كتاب طبقات الشافعية للسبكي فيأتي مشعثاً سقيماً كما تشهد، نعم إن نفس تأليف ابن أصيبعة أرقى وأمتع من مصنف السبكي في بابه ولكن إتقان الطبع والتصحيح والفهارس هو الذي نبكي على فقده بين أظهرنا وهو موضوع بحثنا الآن.
أي فرق بين كتاب لنا طبع مرة في أوروبا وأخرى في الشرق، بالله كم تساوي نسخة معجم البلدان لياقوت طبع أوروبا إذا قيست بالنسخة التي نقلت عنها وطبعت في مصر أو كتاب الكامل المبرد المطبوع في أوروبا إذا قيس بالطبعة الثانية المصرية التي نقلت عنه فكانت الصحة تغلب عليها أكثر من الكتب التي نطبعها ابتداءً.
ومن غريب أمر الطابعين في مصر أنهم يستحلون طبع الكتب التي تعب علماء المشرقيات من الأوربيين في أحيائها فيعيدون طبعها بالسقم المعهود في مطابعنا فتجيء والعين تنبو عن النظر إليها دون الطبعة الأوروبية بمراحل ومع هذا يستنكف أولئك الأمناء أن يشيروا إلى النسخة المنقول عليها تمويهاً بأنهم هم ناقلوها عن أصل مخطوط ظفروا به وتكلفوا في البحث عنه ضروب المشقة والنفقة كأن أولئك الفضلاء الذين لهم الفضل الأكبر في إحياء مآثر أجدادنا غير أحرياء أن يذكروا بكلمة شكر لمعاونتهم لنا.
وإنا لنرى حتى الآن خزائن الكتب في بلادنا طافحة بالمخطوطات من الأمهات التي تجب المبادرة إلى تمثيلها بالطبع على مناحي الغربيين ونرى طابعينا وكتبيينا يكررون طبع تلك الكتب المألوفة والمستنير الفكر منهم يمد يده إلى كتاب طبعه أوروبي فعانى عرق القربة في سبيل نيله فيعيد طبعه مدعيه لنفسه وإنه هو الذي أحياه، وخزائن كتب الأستانة وخزانة دار الكتب المصرية وحدها مملوءة بالنوادر التي لو أحييت على الطريقة التي تجب من العناية لكان فيها الربح الجزيل والشرف الأثيل لطابعيها وناشريها.
لو بذل أرباب المطابع في مصر والشام والأستانة وبغداد وتونس وفاس بعض عناية الأوروبيين بكتبنا قبل أن يمثلوها بالطبع لكان عندنا اليوم من المطبوعات العربية ما نفاخر الأمم بكميته وإتقانه، نحن لا نقول لطابعينا أن يتأنقوا ويبالغوا في التصحيح كما يبالغ أكثر المستشرقين في الطبع بأن يرسلوا أحياناً الملازم المصفوفة حروفها من مملكة إلى أخرى لتعارض على الأصل الآخر الذي هناك أو لتدفع لعالم متمكن من الفن الذي جعل الكتاب في موضوعه يمر عليها نظره وإنما نريدهم على السخاء المعتدل في التصحيح وجعله من أوليات المسائل في الطبع لا مناص من توسيده إلا للعالمين به كما لا مهرب من إعطاء أجرة المنضد والمرتب والطابع والمجلد لكل من أراد أن ينشر كتاباً.
طبعت بعض مطابع الهند وفارس كتباً عربية كثيرة ومعظمها بالحجر في موضوعات دينية من حديث وفقه وكلام ولكن بعضها على العجمة المستحكمة من السن أهل تلك البلاد تكاد تكون أقرب إلى الصحة والضبط من بعض ما طبعه العرب من أرباب الطباعة في هذا الشرق الأدنى.
أما الآن وقد رفع الحجر عن العلم في البلاد العثمانية وأصبحت كالديار المصرية في حريتها فالفرض العيني على المتجرين بالكتب والمتمحضين لخدمة الآداب والعلم أن يسارعوا إلى استنساخ ما حوته خزائننا العامة والخاصة من الأسفار الممتعة ويحذوا حذو الأوروبيين في التصحيح والشكل والفواصل والتقطيع والفهارس المنوعة حتى ينتفع المراجع بفوائد الكتاب لأول وهلة ويسقط على ما يريد معرفته منه بأدنى نظر دون إنهاك القوى في تصفحه كله على غير جدوى من أجل العثور على مسألة أو اقتباس جملة، وبذلك يرفعون العار عن العربية الذي يشيعه عنها الجاهلون فضلها فيرمون كتبنا عنها بأنها معقدة غير متسعة وأن المطالعة في كتب جعلت جملة واحدة ضرب من العنت وإضاعة الوقت على غير طائل، وإفناء العمر في باطل وعاطل.