الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 34/جالينوس العرب

مجلة المقتبس/العدد 34/جالينوس العرب

بتاريخ: 1 - 11 - 1908


أو

أبو بكر الرازي

ألا لفتة منا إلى الزمن الخالي ... فنغبط من أسلافنا كل مفضال

تلونا أناساً في الزمان تقدموا ... وكم عبرة فيمن تقدم للتالي

ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم ... فقد درست ألا بقية أطلال

تتطلبتمو صفو الحياة وأنتمو ... بجهل وهل تصفو الحياة لجهال

وما أنتمو إلا كسكران طافح ... تحسى من الصهباء عشرة أرطال

مشى بارتعاش في الطريق فتارة ... يقوم وأخرى ينهوي فوق أوحال

يمد إلى الجدران كف استناده ... فتقذفه الجدران قذفة إذلال

ويفتح للطراق مقلة حانق ... فيغمضها خزيان عن شتم عذال

رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم ... وأوسعتهم عذلاً فلم يجد تعذالي

فهاج البكا يأسي فلما بكيتهم ... بدمعي حتى بلَّ دمعي سربالي

نظرت إلى الماضي وفي العين حمرةٍ ... كأن على آماقها نضج جريال

فشمت بروق الأولين منيرةً ... على أفق من ذلك الزمن الخالي

تنورتها في أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال

وقلبت طرفي في سماء رجالها ... وهم فوق عرش للجلالة محلال

فآنست آثاراً وهم سلك درها ... وأبصرت أعمالاً وهم جيدها الحالي

ولما طويت الدهر بيني وبينهم ... على بعد أزمان هناك وأجيال

قعدت بأوساط القرون فجاءني ... (أبو بكر الرازي) فقمت لإجلال

فتى عاش أعمالاً جساماً وإنما ... تقدر أعمار الرجل بأعمال

حكيمٌ رياضيٌ طبيبٌ منجمٌ ... أديب وفي الكمياء حلال إشكال

أتى فيلسوفاً للنفوس مهذباً ... بأفضل أفعال وأحسن أقوال

لقد طبب الأرواح من داء جهلها ... كما طبب الأجسام من كل إعلال

مولده تولد عام الأربعين الذي انقضى ... لثالث قرن ذي مآثر أزوال

إلى زكريا ينتمي أنه له ... أب تاجر في الريّ صاحب أموال

على حين كانت بلدة الريّ غادةً ... إلى العلم يعطو جيدها غير معطال

مدارس بالشبان تزهو ودونها ... كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال

بها جل درس القوم طب وحكمة ... وفلسفة فيها لهم أي إيغال

وكانت نفيسات الصنائع عندهم ... يحاولها ذو الفقر منهم وذو المال

وما كان هذا الحال في الريّ وحدها ... بل الحال في البلدان طر كذا الحال

فإن هدى الإسلام أنهى فتوحه ... وأوصلها للحد أحسن إيصال

وبدل أبطال الحرب من الورى ... بأبطال علم للجهالة قتال

فدارت رحى تلك العلوم وقطبها ... ببغداد مركوز بربوة إجلال

وكانت يد المأمون في ذاك أخجلت ... لسنا العلى في شكره أي إخجال

منشؤه

تدرج في تلك المدارس ناشئاً ... مترجمنا يسعى بجد وإقبال

تعلم فن الصوت بديء بدئه ... ومارس تفضيلاً به بعد إجمال

فكانت بموسيقى اللحون دروسه ... تغني بإهزاج وتشدو بإرمال

وقد جاوز العشرين سناً ولم يكن ... لشيء سوى فن الغناء بميال

فرام أبوه منه تحويل عزمه ... بجذب إلى شغل التجار وإدخال

غفال له دعني مع العلم إنني ... إذا ما أمتُّ الجهل أحييت آمالي

وهل يستطيع المرءُ شغلاً إذا غدا ... له شاغل بالعلم عن كل إشغال

هناك استقى الرازي من العلم شربة ... فجاد بإعلال له بعد إنهال

سعى سعيه نحو التعلم بادئاً ... بعلم لدى أهل التفلسف ذي بال

وقد كان مفتاح العلوم تفلسف ... تفك به من جهلهم كل أغلال

فزاول أنواع العلوم تنقلاً ... بابين أوضاح لها غير أقفال

نضا همة في العلم مشحوذة الشبا ... جلت ما لحرب الجهل من ليل قسطال

وقد أكمل الطب المفيد قراءة ... على الطبري الحبر أحسن إكمال سياحته

ومذ جاوز الرازي الثلاثين واغتدى ... مدلاً على أقرانه أي إدلال

رأى في تمام العلم للمرء أنه ... يسيح بضري في البلاد وتجوال

ما العلم إلا بالسياحة إنها ... لمن علموا في علمهم درس أعمال

فقام وشد الرحل والغرز وامتطى ... لقطع الفيافي متن هوجاء شملال

فجاء بلاد الشام تواً وجازها ... إلى مصر في وخد حثيث وأرقال

وخاض عباب البحر للغرب قاصداً ... مواطن للإسلام لم يسلها السالي

ففيها اجتلاه العز مذ لاح طالعاً ... لها كهلال يجتلى عند إهلال

وحل حلول البدر في السعد نائلاً ... بقرطبة آماله ناعم البال

وهب هبوب الريح ثمة ذكره ... يطير على صيت من العلم جوال

وودعها من بعد ذلك راجعاً ... إلى مصر لا توديع مستكره قال

ومنها إلى بغداد سافر قاطعاً ... إليها الفلا ما بين حل وترحال

فألقى عصا التسيار في عرصاتها ... بمغرس عرفان ومنبت أفضال

وبغداد كانت وهي إذ ذاك جنة ... بها العلم أجرى منه أنهار سلسال

كأن رجال العلم في غرفاتها ... بلابل تشدو غدوة بين أدغال

فكم محفل للكتب فيه خزانة ... وكم مرصد دان وكم مرقب عال

ولما غدا الرازي ببغداد باسطاً ... من العلم أبواعاً له ذات أطوال

أقيم لمارستانها عن كفاءة ... رئيساً بتطبيبي وتدبير أحوال

فرتب مرضاه وأصلح شأنه ... بما كان لم يخطر لسابق أجيال

وظل به يسعى طبيباً ممرضاً ... ويبذل جهداً لم يكن فيه بالآل

ويلقي السريريات وهي مسائل ... لدى سُرر المرضى تقرر في الحال

قثد كان يلقيها على القوم ناطقاً ... بأوضح تبيان وأحسن إملال

مآثره العلمية

لقد أشغل الرازي ببغداد شغله ... عدا الطب فغي الكمياء أعظم أشغال

فقضى بها أيامه في تجارب ... وواصل أبكاراً لهن بآصال فلقب فيها بالمجرَّب حرمةً ... تفرد مخصوصاً بها بين أمثال

وأصبح مشهوراً بأسنى مآثرٍ ... من العلم لم يسبق إليها وأعمال

فإن أبا بكر لأول مفصح ... إلى الناس بالدرس السريري مقوال

وأول من أبدى لهم كيف يبتني ... ويفرش مارستانهم قصد إبلال

وألف في المستشفيات مؤلفاً ... تقصى به وصفها دون إغفال

ولا تنسى للرازي الكحول فإنه ... يجدد طول الدهر ذكراه في البال

ومن عمل الرازي انعقادٌ لسكر ... وما كان في محصوله غير سيال

أخلاقه

أرى العلم كالمرآة يصدأ وجهه ... وليس سوى حسن الخلائق من جال

أخو العلم لا يغلو على سوء خلقه ... وذو الجهل أن أخلاقه حسنت غال

ولو وازن العلم الجبال ولم يكن ... له حسن خلق لم يزن وزن مثقال

وإن المساوي وهي في خلق عالم ... لا قبح منها وهي في خلق جهال

ولكنما الرازي قد ازدان علمه ... بأحسن أخلاق وأشرف أفعال

خلائق غرّ إن أردت بيانها ... بدأت بحرف الحاء والميم والدال

فتى كان مملوء الجوانح رحمة ... بكل هزيل الجسم من سقم إقلال

يزور بيوت البائسين بنفسه ... ويفتقد المرضى بفحص وتسآل

ويأتيهم بالمال والعلم مسعداً ... لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال

وما كان يقنو المال إلا لبذله ... لتعليم علم أو لإعطاء سؤال

وكان حليف الجد لم يأل جهده ... بدحض خصوم العلم من كل هزال

فكم راح مخذولاً به متطبب ... سعى كاذباً في طبه سعي إضلال

وكان سليماً غي العقيدة ينسبونه ... لزيغ فقد أغناك عنهن إجمالي

عوده إلى الري

ولما قضى الرازي ببغداد برهة ... مضى قافلاً للريّ شوقاً إلى الآل

فلما أتى تلك البلاد غدا بها ... طبيباً لدى المنصور صاحبها الوالي

وألف للمنصور إذ ذاك باسمه ... كتاباً حوى في الطب أحسن أقوال ولم تصف للرازي أواخر عمره ... وعاد أخا همّ شديد وبلبال

فقد عميت عيناه من بعد واغتدى ... يجول من الفقر بأسمال

وإن عداء الدهر شنشنة له ... يصول بها قهراً على كل مفضال

ولما انتهى نحو الثمانين عمره ... قضى نحبه من غير مال وأنسال

ولكنه في الناس خلف بعده ... من العلم آثاراً قليلة أمثال

فكم كتب أبقى بها الذكر في الورى ... وألفها نسجاً على خير منوال

وما ضرّ من أحيا له العلم بعده ... على الدهر ذكراً أنه ميت بال

وإني إن أطنبت في بحر علمه ... لمقتصرٌ منه على بعض أوشال

وها أنا أنهي القول لا لتمامه ... ولكن لعجزي عن نهوض بأجبال

وأجعل هذا الشعر مسكاً ختامه ... بما قال في بيتين معناهما حال

لعمري وما أدري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إلى أين ترحالي

وأين محل الروح بعد خروجه ... من الهيكل المنحل والجسد البالي

بغداد

معروف الرصافي