الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 34/الطالع السعيد

مجلة المقتبس/العدد 34/الطالع السعيد

مجلة المقتبس - العدد 34
الطالع السعيد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 11 - 1908


من المخطوطات النفيسة التي كادت تعبس بها يد الضياع كتاب الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد لكمال الدين أبي الفضل جعفر بن تعلب الأدفوي المولود في نصف شهر شعبان سنة 685 والمتوفى في سابع عشر شهر صفر سنة 748 ألفه بإشارة من شيخه أثير الدين أبي حيان النحوي الأندلسي وقصره على تراجم النابغين من إقليم قوص وما يتبعه من البلدان والقرى وهو أول ما ألف من نوعه خاصاً بأهل الصعيد. ولم يكن بمصر من نسخ هذا الكتاب غير اثنتين بدار الكتب الخديوية كلتاهما ناقصة وما زلت في شوق إليه وبحث عنه حتى ظفرت بنسخة منه كاملة كتبت سنة 880 برسم الفقيه مجد الدين أبي عبد الله بن شرف الدين حمزة الخطيب الواعظ وهي كغالب المخطوطات لا تخلو من التحريف والتصحيف خصوصاً في مواضع أهمل الناسخ إعجامها فلا تتيسر قراءتها إلا بضرب من العنت وتدقيق النظر.

افتتح المصنف كتابه بمقدمة تشتمل على مسافة هذا الإقليم وتفصيل ما اختص به من المزايا فذكر أن مسافته تبلغ في الطول اثني عشر يوماً بسير الجمال السير المعتاد وتبلغ في العرض ثلاث ساعات وأكثر أو أقل تبعاً للأماكن العامرة وأنه ينقسم إلى كورتين يفصل بينهما النيل فالشرقية منهما تتصل شرقاً بالبحر الملح (هو بحر القلزم المسمى الآن بالبحر الأحمر) وأولها من الشمال أرض أفنو وآخرها من الجنوب أبهر الشرقية بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة وضم الهاء ومن مدنها قنا وقفط وقوص وهي قاعدة الإقليم في عصره وكان بها أربعون مسبكاً للسكر وست معاصر للقصب وبها قباب بأعالي دورها قيل أن من ملك عشرة آلاف دينار يجعل له قبة في داره وإليها تكاتبه ستة ملوك. ومنها الأقصر وأسوان قال وأهلها يوصفون بالمحك في المعاملة وشدة المخاصمة وفيها يقول دعبل بن علي الخزاعي وكان أقام بها والياً كما نقل أهل التواريخ:

وإن امرأ أمست مساقط رأيه ... بأسوان لم يترك له الحزم معلما

حللت محلاً يقصر الطرف دونه ... ويعجز عنه الطيف أن يتجسما

ولهم لغة يجعلون الطاء تاء فيقولون التريق في الطريق والتاق في الطاق ويبدلون الفاء بالباء والباء بالفاء فيقولون ضربته في هذا بعنوان بهذا أهـ. والكورة الغربية أولها شمالاً برديس وآخرها جنوباً أبهر الغربية ومن مدنها أدفو بلد المصنف وعشة الذي درج منه. ثم أفاض في محاسن هذا الإقليم من عذوبة ماءٍ وطيب هواءٍ ووفرة غلةٍ وكثرة فاكهة قال وأظن مساحة أرض بساتينه ونخله تقارب عشرين ألف فدان ونقل غرائب في حمل أشجاره قد يعد بعضها من المبالغة والغلو ولا غرو فكل فتاة بأبيها معجبة. وذكر في معادنه معدن البروم بالقرب من قنا ومعدن الزمرد وحجر البازهر والنفط والنطرون والرخام ومن معاهد العلم ست عشرة مدرسة بقوص وثلاثاً بأسوان واثنتين بأسنا وواحدة بالأقصر وأخرى بأرمنت واثنتين بقنا وواحدة بهو وأخرى بقمولا.

أما ترتيب الكتاب فعلى حروف المعجم ابتدأه بإبراهيم وختمه بيونس وذيله بباب في الكنى ذكر به من كنيته اسمه وغالب تراجمه مختصرة يقتصر فيها على المولد والوفاة وشيء من أخبار المترجم وروايته إن كان من المحدثين. على أنه خالف ذلك في البعض فأطال فيهم كالنويري صاحب نهاية الإرب والرشيد بن الزبير وأخيه المهذب الشاعر والتاج بن المفضل وعبد الرحمن النخعي وذكر من سعة تبحره في الفقه أن الفتوى كانت ترفع إليه ورجله في الركاب فيكتب عليها بدون توقف وابن الحاجب مؤلف الكافية وقيصر المعروف بتعاسيف العالم الرياضي الذي عمل لسلطان حماه كرة عظيمة صور عليها الكواكب المرصودة وصنع له طاحوناً على العاصي وبنى له أبراجاً وتحيل فيها بحيل هندسية ومجد الدين بن دقيق العيد وابنه تقي الدين الإمام المشهور وترجمته أطول ترجمة في الكتاب والقفطي صاحب التاريخ وغيرهم ممن استحقت أعمالهم إطالة الكلام فيهم. ولم يهمل النساء فذكر منهم من اشتهرن بالعلم والفضل كتاج النساء ابنة عيسى القوصية وأختها مظفرية وخديجة بنت علي بن وهب ورقية بنت محمد بن علي بن وهب وكلهن من أسرة بني دقيق العيد.

وأعجبني منه التزامه الصدق وميله مع الحق فيما كتب فترجم كل إنسان بما له وعليه حتى تقي الدين بن دقيق العيد لم يمنعه ذكره لمناقبه وحسناته وشهادته له ببلوغ رتبة الاجتهاد من أن يقول فيه: ولكنه تولى القضاء في آخر عمره وذاق من حلوه ومره وحط ذلك عند أهل المعارف والأقدر من قدره وحسن الظن ببعض الناس فدخل عليه إلباس وحصل له من الملامة نصيب والمجتهد يخطئ ويصيب ولو حيل بينه وبين القضاء لكان عند الناس أحمد عسره ومالك دهره الخ. . وترجم عبد القادر بن المهذب وهو ابن عمه فوصفه بالذكاء النادر وسعة الإطلاع إلا أنه أنحى عليه لسوء عقيدته وقال في آخر ترجمته ومرض فلم أصل إليه ومات فلم أصلِّ عليه.

وفي الكتاب رسائل وخطب وقصائد ومقطعات لا تخرج عن الأسلوب المألوف لأهل ذلك العصر ومنها وصية لجلال الدين الدشنائي كتبها لابنه تاج الدين يقول فيها:

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً. يا بني أرشدك الله وأيدك أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها وحافظت عليها رجوت لك السعادة في دينك ومعاشك بفضل الله ورحمته إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله. أولاها وأولاها مراعاة تقوى الله تعالى تحفظ جوارحك كلها من معاصي الله عز وجل حياء من الله والقيام بأوامر الله عبودية لله. ثانيتها لا تستقر على جهل ما تحتاج إلى علمه وثالثتها أن لا تعاشر إلا من تحتاج إليه في مصلحة دينك ومعاشك. وراعتها أن تنصف من نفسك ولا تنتصف لها إلا لضرورة وخامستها أن لا تعادي مسلماً ولا ذمياً وسادستها أن تقنع من الله بما رزقك من جاه ومال وسابعتها أن تحسن التدبير فيما في يديك استغناء به عن الخلق وثامنتها أن لا تستهين بمنن الرجال عليك وتاسعتها أن تقمع نفسك عن الخوض في الفضول بترك استعلام ما لم تعلم والإعراض عما قد علمت وعاشرتها أن تلقى الناس مبتدئاً بالسلام محسناً في الكلام منطلق الوجه متواضعاً باعتدال مساعداً بما تجد إليه السبيل متحبباً إلى أهل الخير مدارياً لأهل الشر متبعاً في ذلك السنة اللهم أهله لامتثالها.

وغالب ما ورد فيه من المنظوم أشبه بشعر العلماء منه بشعر الشعراء على أنه لا يخلو مما يستجاد كقول الأمير مجير الدين بن تميم اللطمي:

أعيذك أني بين أهلي وجبرتي ... وحيد لديهم عادم ودٍّ مشفق

اقلب طرفي لا أرى لي مؤنساً ... لعمرك فيهم غير طرس منمق

يحدثني عن حسن أحوال من مضى ... ويخبرني عن قبح أحوال من بقي

وقول تفي الدين بن دقيق العيد:

تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرَّب مني في صباي مزاره

لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره

وقول فتح الدين القنائي: بعادم علم الطرف السهادا ... ونفر عنه في الليل الرقادا

وبات بليل أرمد ليس يرجو ... لليل بات يشهره نفادا

كأن الليل فارقه حبيب ... فلم ينزع لفرقته الحدادا

فما للدهر لا ينفك يهوى ... مخالفة الذي أهوى عنادا

يباعد من أريد له دنواً ... ويدني من أريد له بعادا

كأن عليه ميثاقاً ووفى ... به أن لا يبلغني المرادا

ومن طريف ما رواه أن ناظم هذه الأبيات ادعى أنه كان ينظم القصيدة ويجعلها في ديوان أبي تمام ثم يعرضه على الناس فلا يميزون بين الشعرين فقال له أحد الأدبلاء أنت لا تمدح شعرك وإنما تذم الناس.

وقول أنجب الدين الإسنائي:

ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود

جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود

هكذا نسبهما لأنجب الدين نقلاً عن العماد في الخريدة. قلت وقد وهم الشيخان فالبيتان لولادة بنت المستكفي لا يكاد يختلف في ذلك اثنان وقد وقفت على أوهام من هذا القبيل فرطت من بعض الأئمة فنسبوا أشياء لغير قائليها أما لاشتباه في الأسماء أو لسهو عرض وحلّ من لا يسهو وربما أفردت نبذة لذكرها إن شاء الله.

ومن غريب ما رأيته فيه من المنظوم نوع من الزجل تكرر ذكره سماه المصنف (بليقة) وجمعها على بلاليق مما يدل على أن اللام في المفرد مشددة ولا أدري أكانت البليقة تطلق عندهم على كل ما نسميه اليوم زجلاً أو هي خاصية بنوع منه فمنها قول هبة الله الأفودي وقد سئم من قراءة الفصول لابن معظ في النحو:

يا قوم واش هذا الفضول ... نقرا الفصول

الملحة نقرا يا فلا ... أو مختصر شيت والبيان=هذا يجنن بالضمان

لسائر أرباب العقول

من قوله معد يكرب ... القلب أضحى منكرب=وبيت عقلي قد خرب

وشرح حالي فيه يطول من صحروات مع حبليات ... ومد وشد مع حات بات=من الذي عنده ثبات

يفهم مفاعيل مع فعول

ومنها مطلع بليقة لبعضهم في هجو قاض:

قاضي القضاة أعزل نفسه ... لما ظهر للناس نحسه

ولا يستقيم الوزن إلا بإسكان آخر الكلم كما تنطق العامة. ومما استفدته من هذا الكتاب عثوري فيه على كلمات عامية مستعملة إلى الآن بمصر أدمجها المصنف في عبارته مما يدل على أنها أقدم في الاستعمال من عصره حتى صارت من المألوف عندهم وإلا لما جرى بها قلم مثل هذا الإمام في مثل هذا التأليف. وبالجملة فمحاسن الكتاب كثيرة وفوائده غزيرة فلعل أحد المشتغلين بالطبع من الوراقين يتنبه له فيطبع ليعم نفعه.

القاهرة

أحمد تيمور