الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 26/التربية والتعليم

مجلة المقتبس/العدد 26/التربية والتعليم

بتاريخ: 1 - 3 - 1908


تهذيب البنات

كنا منذ مدة نقرأ في إحدى المجلات الفرنسوية المصورة أن في فرنسا خمسة آلاف كاتبة وأديبة ما منهن إلا وقد ألفت كتاباً أو كتابين وخاضت عباب الأدب إلى الركب وقلبت القلم بيدها كل مقلب وما كدنا ننسى هذا الارتقاء الغريب ونتمنى لو كان لهذه البلاد جزء من مئة جزء منه فقط حتى وافتنا مجلة التعليم الدولية تحمل في صدرها بحثاً ضافياً لإحدى تلكن الأديبات العالمات العقيلة هيلانة مونيز أفاضت في وظائف المرأة الفرنسوية وقصورها فقالت: من الأسف أن بعض النساء يذهبن إلى أنهن لا يعملن عملاً نافعاً في المجتمع إلا إذا خرجن عما قدر لهن من الأعمال ودخلن في سلك أعمال الرجال وتعاطين الصنائع الحرة. يزيد كل سنة عدد الأديبات والعالمات ومتعاطيات الصنائع الحرة فنفقد بهن ما كان يرجى منهن أن يأتينه في الحياة الاجتماعية من المساعدة على تبديل حال البلاد أحسن مما هي عليه.

إن نساءنا لا يدركن في العادة معنى الحياة الاجتماعية ولا خطارتها فيتخيلن أنهن لا يقدرن على الاشتراك فيها إلا إذا دخلن غمار السياسة فأصبحن منتخبات ومنتخبات ونائبات ووزيرات وكان عليهن أن يتخلين عن هذه التصورات وينصرفن إلى حماية الأطفال وبذلك يخدمن جنسهن ويسهرن عل مستقبله ويمددن يد معونتهن للبائسين وفي هذا حل للمسألة الاجتماعية.

ليس من الغريب أن أقول أن تهذيب البنات من حيث الوجهة الاجتماعية هو أهم من تربية البنين وذلك لأن الشاب إذا خرج من المدرسة يستطيع إتمام دروسه بإعداد نفسه للأعمال التي يتعاطاها ويقوي عقله بدروس التجارب التي تأتيه بها الحياة وعلى العكس في الفتاة إذا تعلمت وأتمت دروسها وقد تكون من بنات العملة أو من أهل اليسار فلا تعود تتعلم شيئاً إلى حين زواجها والغالب أن أسرتها وزوجها تتضرران من قلة اختبارها إذا انقطعت سلسلة تعلمها.

إن الدروس التي تلقتها في المدرسة تشبه الدروس التي يتعلمها الفتى ولكن ما يقضي عليها تعلمه أكثر من غيرها لم تتعلمه ونعني به كيفية إرضاع الطفل وحفظ صحة المولود فإذ رزقت ولداً لا تحسن تربيته لنقص في مواد تعليمها وإذا كانت موسرة فإنها لا ترضع ابنها في الغالب وكثيراًً ما تخالف القانون الذي يقضي عليها بأن ترضع طفلها إلى الشهر السابع من عمره فتجلب له مرضعة عتق لبنها فتؤذيه لا محالة.

البنات عندنا يتعلمن في المدارس واجباتهن نحو آبائهن وأمهاتهن أسرهن ووطنهن ولكنهن لا يلقن أن أهم واجباتهن الأدبية أن يرضعن أولادهن ويربينهم ليقينهم من العوارض بتقوية أبدانهن وبذلك يخدمن البلاد بأن يعطينها قوة أخرى زيادة على قوتها.

فإن كان تهذيب الفتيات لا يعدهن عندنا إلى أن يشغلن في بيوتهن العمل الذي خلقن له فمن المتعذر أن يرجى أن يعنين بغير أبنائهن فإن ما جرى عند ما أريد إشراك النساء في حماية الأولاد يسجل بالأسف وكان على النساء أن يدركن أن محبة الوطن ليست بالأعمال الحماسية بل أن تنوب المرأة ولو ساعة واحدة مناب أم طفل طرحته أمه أو ماتت عنه. ولا أنكر أن ما جبل عليه قلب المرأة من الشفقة هو غريب وإخلاصها لا حد له.

ومن عني المربيات والمعلمات والتلميذات والفتيات والأمهات بالمسائل الاجتماعية الكبرى ومددن أيديهن للبذل في الأمور الخيرية العامة أو الخاصة وشاركن في الخيرات والمقومات نستطيع أن نقاوم جميع الأخطار التي تتهدد عنصرنا كالضعف من البؤس وكثرة موت الأطفال والسل والكحول.

برنامج التعليم عندنا غير ناقص ليزاد فيه مواد أخرى ولكنه يجب تخفيفه وحذف بعضه فإن العناية في مدارسنا متوفرة اليوم لتوسيع حواس بناتنا العقلية ولم تصرف لتحسين ملكاتهن الأخلاقية. نعم إن فلسفة الأخلاق هي أساس تعليمهن ولكن هذه الأخلاق هي بالنظريات أشبه منها بالعمليات وهي أرقى من أن تتغلب على ما يستولي على نفوس الفتيات في سني الدراسة الأولى من أنواع التعاليم فينبغي إشراب قلوبهن الشفقة فإن الشفقة كما قال أحد علماء الأخلاق من الألمان تزيد وتتضاعف.

يجب أن نعلم بناتنا أن كل فلسفة تؤدي إلى إنكار فعل الخير فلسفة كاذبة خطرة وإن تطبعهن على حب المرحمة. الرحمة مخصبة الرباع وبها تقوى الأمة بإنقاذ ألوف من المخلوقات وهي تسكن أحقاد الطبقات أو تقللها.

ألا وإن المخلوقات التي رزقن جمال الطبع وحسن الخلق هي المحسنة الحقيقية للإنسانية فإن أهل الخير الذين عملوا الإحسان منذ كان العالم قد ساعدوا على سعادة البشر أكثر من أرباب العقول السامية الذين تتمثل أسماؤهم في التاريخ فلو كانت ارتقت أخلاقنا منذ أوائل القرن الماضي كما ارتقت علومنا ولو كملت قلوبنا كما كملت قوانا العقلية لكنا منذ زمن خففنا مصائب الناس إلى أدنى ما يمكن. وإن يوماً نتوصل فيه إلى تأليف إنسانية كاملة لا يرى السواد الأعظم من أعضائها بؤس فرد بدون أن يعينه من تلقاء نفسه نكون قد ظفرنا فيه بالسعادة على هذه الأرض وحللنا بالسلم الأزمة الاجتماعية التي تقودنا إلى المهالك.

وعندي أن يعمم تعليم تربية الأطفال ويتعلم بنات المدارس ما ينبغي للمرضعات وأن يعلمن كيف يغاث البائسون وأرباب الأدواء يطلعن على تاريخ الجمعيات الخيرية ودور الإحسان وإن عمل الفرد وحده ضعيف في نتائجه وإن لم يضم عمله إلى عمل غيره فيكون للمجتمع أعمال منظمة بنظام الذكاء والتعقل وأن لا يعود البنات على الاعتقاد بفعل الخير نظرياً بل أن يعملن بأنفسهن الخير في المدارس ويشتركن في إعانة المجتمع.

مدح التأني

كتب هنري لافدان أحد أعضاء المجمع العلمي الباريزي في جريدة (الآنال) يذم العجلة ويمدح التأني قال: لو كنت غنياً ما تأخرت عن أن أوصي بمبلغ يخصص ريعه كل سنتين أو ثلاث جائزة لم يجيد في مدح التأتي وذلك لأنا نرى هذه المحمدة آخذة ويا للأسف بالتناقص فمن اللازم اللازب أن تعاد إليها الثقة الماضية والشرف الدراج لأنا إذا ظللنا على هذه الحال نهلك بالعجلة لا محالة.

كلما قضى أحدنا بضعة أشهر في الضواحي وعاد إلى باريز يأخذه العجب من تموجها في أعمالها ويشعر بالقلق والاضطراب والسرعة والحركة والآلام ويدهش من السرعة الجديدة المنظمة الممرضة في جميع أعمال الحياة. ولا يزال هذا الجنون يزداد على نسبة مخوفة ويكثر ويزيد سخط القادم من العجلة المتضلة التي تطوح بنا في هذه المهاوي المنوعة التي نكاد لا نراها لسرعة مرورها على بصرنا ولأن وقتنا لا يسمح لنا بإمعان النظر.

نحن نسرع في كل أمر وكلما حركنا جنون السرعة أثبتنا أن الحكمة تقودنا فلا يقنعنا إلا أن نصل قبل أن نسافر وآراؤنا مضطربة تود السباق وتتضارب أولئك السذج الذين يتدافعون ليلقوا قبل غيرهم رسائلهم في صندوق البريد وقد كتبوا عليها معجلة وهماً منهم أنهم إذا سارعوا إلى وضعها وكتبوا عليها تلك الكلمة تصل إلى مقصدها قبل غيرها على أن البريد والقدر لا يعطيان على الخاطر ولا يعملان لرضى الناس.

ولكن من يتطالّ إلى نيل كل شيء لا ينال شيء وماذا تجديه السرعة الفائقة للعادة التي تؤذيه وتضعف قيمة كل ما ينوي القيام به. وبعد فلا يفوتنا أن قاطرة بخارية إذا تركت على سرعتها الفائقة تنتهي بها الحال أن لا تمس قضبان الحديد ولا تكاد تقف على الأرض كأنها في الخلاء وهكذا الحال في الأعمال فإن الرجل بكثرة إسراعه في الذهاب يطير ويعثر بالحوادث ويقع فيها وهكذا شأنه في أوجاعه وأفراحه وكل ما يناله. فهو لا يحفل بتأثراته وشعوره ولا يتوسع فيهما بل يمسها مساً خفيفاً لا يأخذ منها ولا يترك ولا يستفيد الدرس النافع الذي يفيده عبرة وحكمة فهو كالريشة بل كالقذيفة الطائشة العمياء تطير على العماية في الفضاء الذي يتقاذفها ويخمد أنفاسها في جميع المحطات التي تقف فيها من الحب والبغض والشر والخير فلا يميز بينها ويخلط فيها إلى أن يناديه داعي الأجل المحتوم فلا يجعل له من الوقت متسعاً يتنفس فيه.

ولا يقولن قائل أني أغالي فيما أقول فالحوادث تؤيد قولي: نحن نأكل سراعاً فلا نهضم. قال مونتين أن الحياة تمضغنا ونحن لا نمضغها بل نبلعها فنختنق أحياناً. نشرب سراعاً ونرسل الطعام إرسالاً إلى معدنا وما الغذاء إلا عمل مقدس نأتيه ونحن جلوس على طرف المائدة في أغلب الأوقات لا نفتح فانا فنتكلم ولا نقول كلماً طيباً ولاسيما في البيوت فإنا نتغدى ونتعشى بأسرع ما يمكن كأننا في مقصف محطة سكة حديدية والمنادي ينادي لم يبق إلا دقيقتان لسير القطار فنأكل ونحن سكون لا نتكلم وقد استغرقتنا الصفحة قبل أن نستغرقها نفكر فيما يهمنا ونحلم فيه وقد عبست جبهتنا وسدت معدتنا وألقينا الطرف إلى أبعد مما نحن فيه بدون أن نأخذ مقعدنا ونتناول الحلواء والفاكهة بل نقوم سراعاً ونهب خماصاً أو بطاناً.

سقى الله أزماناً كان الناس يرتاحون فيها إلى الجلوس على الموائد يتناولون طعامهم وهم يتضاحكون ويتمازحون ويقصون من الأحاديث ما يكون تسلية لقلوبهم وراحة لنفوسهم.

سقى الله أياماً كان أحدنا يسير وأنفه في الهواء وقد تأبط كتاباً. ما هذا الوقاد في القطار الحديدي ألا مهلك المتنزهين في الحقيقة بما خفف عليهم من مؤونة المشي فقد بطلت عادة النزهة في الشوارع والأزقة وباليد عصا وبطلت المظلات أو كادت كما بطلت العصي وبطلت عادة السير على الأقدام وعادة الراحة والغداء على العشب. فأصبحنا والفرد منا إذا جلس على الأرض يصعب عليه النهوض بحيث تخدرت على التوالي أرجلنا ووهنت قوانا. خل عنك تلك المصعدات التي تحملنا من الأدنى إلى الأعلى فقد نزعت من سوقنا قوتها على العمل ومن رئاتنا ما ينفعها في تصعيد السلالم.

ولا أكتمكم أنني كلما زرت بيتاً من البيوت القديمة التي لا تزال محافظة على إدراجها وسلالمها الرخام أجد في الصعود عليها نشأة وتجلى لي الحكمة الغريبة التي اهتدى إليها المهندسون وأنشؤوا تلك الأدراج ليصعد عليها بين الزهور بدون هزة وعلى مهل. وما أحلى ذلك وأنفعه. لا جرم أنه يعينك على أن تجمع فكرك وحواسك قبل أن تقرع جرس دارك أو دار من تزوره وتختلف إليه.

ولم يقف الأمر في سرعتنا عند هذا الحد بل تعداها إلى كلامنا فصرنا نتكلم بإيجاز ولا إيجاز صغار الزنوج في كلامهم. وأمسينا نسرع في نومنا ونقوم مذعورين ونحلم والضغط آخذ منا فنحن في المساء كالصباح لا نحسن الاضطجاع على سريرنا ولا نقرأ والقلم بيدنا نشير إلى ما يجدر نقله واقتباسه ولا نفكر الأفكار النافعة بل نسرع في الراحة أي سرعة.

وإذا رجعنا البصر في الأمور العقلية فإنك تجدنا نفاخر بما يعرض لأفكارنا كل يوم بل كل ساعة من التنوع فقد غدا الكاتب لا يعيد نظره فيما يكتب فنحن مضطرون إلى أن نجيد فيما نكتب كل يوم وكل من لا يؤلف روايتين في السنة أو ثلاث روايات مضحكة يعد مقلاً جاف القريحة. الكتب اليوم لا تؤلف بل تتساقط كما يتساقط الجوز. والغاية أن نكتب ولا عبرة بما نكتب ونتائجه. ومهما كان من اعتبار الإكثار والإخصاب فمن العقل أن نتحرز ونأخذ من عنان الأقلام مخافة أن نمسي للحال كالأم الضعيفة التي تأتي بالأولاد ضعافاً محتقرين. وما كل عمل جميل عظيم إلا ابن التأمل والصبر والجلادة ولطالما كان للوقت تأثير في تجويد الأعمال.

فالوقت جائزة تنال بأسرها والجمال أعظم العوامل فيها. فكما أن الوقت يوجد الجمال وينميه ويقيه العوادي وينحو به مناحي الكمال فكذلك الخرائب لا تكون خرائب إن لم يأت عليها الزمن ويمتد لها إلى ما شاء الله والأيام والشهور لا تكفيها بل يقتضي لها عدد لا يحصى من السنين لتستحق أن تذكر بين الخرائب وأن تخفق فيها الرياح ويثار عليها الغبار ويعبث بها الهواء وينزل عليها الماء والشمس وينبت فيها الطحلب والسندر المعرش وكل ذلك من عوامل البطء والجلادة.

ثم أن الناس أصبحوا يريدون الاستمتاع والانتفاع في الحال وإن يكون لهم أكثر من الدخل قبل أن يضعوا رأس المال وأن يجنوا بعد عشر دقائق من البذر. نقرأ مسرعين هذا إذا تظاهرنا بأننا نقرأ ونلقي نظرة على العنوان والفهرس ونقلب الطرف في بعض صحفات من الكتاب وهذا كل ما نقرؤه أغرقنا في حب العجلة حتى صرنا لا نقطع أوراق كتابنا بيدنا بل نوعز إلى الخادم أو كاتب سرنا أن يقطعها لنا.

أنا لا أجهل ما يجيبني به القارئ فيقول بأن الكتب كثرت وكذلك الجرائد والملاذ والسخرات والواجبات وإن الحياة قصيرة وإن الحال تقضي بأن نسترط الثلاث أو الأربع لقم في لقمة ولكن الحقيقة ليست كذلك فإن الحياة كلما تضاعفت وكثرت بحيث تجزأت كان علينا أن نقتصرها ونضم شملها. فها إنه تصدر كل صباح أربعون جريدة وهذا من جملة الأسباب الداعية إلى أن نزهد في قراءتها وكل أسبوع يصدر خمسون كتاباً ونحن لا نعرف منها إلا عشرها نعرفه أحسن معرفة فإن المفكرين أصبحوا يفكرون بسرعة ففدوا خاصية التفكر.

أصبح الواحد يحب ويبغض سريعاً ويسرع في التصديق كما يسرع في الجحود ويعطي ويمنع كذلك غير مكترث بنصائح الليل ومواعظ النهار. وأخذ الغضب يسارع إلينا ونحن لا نعرف كيف نغضب وعلى من نصب جام غضبنا. وليت شعري من يحتفل بالحب البطيء الصادر من أعماق القلب المتأني؟ ومن يحيكه أحسن حياكة وأمتنها ويبالغ في أحكامها خيطاً خيطاً باليد لا بآلة؟ ومتى نرضى الوقوف والتريث لنذوق طعم المواقف ونجني برسيم السعادة ونجلس هنيهات في الواحات؟

الحياة أقصر طريق يسلك من نقطة إلى أخرى ونحن نريد أن نقتصرها أيضاًَ؟