الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 24/اللغات الإفرنجية

مجلة المقتبس/العدد 24/اللغات الإفرنجية

مجلة المقتبس - العدد 24
اللغات الإفرنجية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 1 - 1908


لهجت بعض الألسن في منافع اللغات الأوروبية ومضارها في مجتمعنا عقيب أن قام صاحب المؤيد في الجمعية العمومية في الربيع الماضي وناقش ناظر معارف مصر في وجوب تعليم العلوم في المدارس الأميرية باللغة العربية فكان من أثر ذاك الحوار أن بطلت دروس الأشياء وجعل تدريس علم تقويم البلدان باللغة العربية في المدارس الإبتدائية كما شرع بتعليم الرياضيات في السنين الأولى من المدارس الثانوية باللغة العربية أيضاً.

فقام بعض الناس متخذين من هذا الإصلاح حجة على قلة غناء اللغات الإفرنجية زاعمين أن في العربية ما يكفيها من العلوم. على حين كان ما دعا إليه الداعون من التدريس بالعربية لمقصد آخر أُريد به أحيله لغة البلاد إذا درست العلوم بها وإشراب نفوس المتعلمين حب أمتهم ليعم النفع مما يتعلمون لا التنفير من تعلم اللغات الإفرنجية التي لا يمتري عأقلأن في وجوب تعلمها على فريق كبير من الناس ولاسيما من تصدوا للنفع والتأليف والكتابة على نحو ما يفعل علماء اليابأن فيتعلمون الإنكليزية كما يتعلمون لغتهم الأصلية.

نقول تعلم اللغات الأجنبية وما أحرانا أن نقول إتقانها لأن المبادئ البسيطة منها قد لا تفيد المتعلم إلا توهمه أنه أصبح من العارفين. فإن تعوذ علماؤنا قديماً من نصف فقيه ونصف صوفي ونصف كاتب ونصف شاعر فما أحرانا أن نتعود من ناشئ يتعلم طرفاً من لغة لا يستفيد منها ولا يفيد.

وليس معنى هذا أنه يتحتم وجوباً على كل متعلم للغة أجنبية أن يكون فيها مؤلفاً خطيباً كاتباً مترجماً فهذا مناف لسنة الكون ولكن المطلوب أن يعرف الناس في تعلم إحدى اللغات الأوروبية القدر الذي يؤهلهم للانتفاع منها في التجارة وأعمال الإدارة والقضاء والعلم.

ولا مشاحة في أن أكثر من تعلموا اللغات الأجنبية من أبنائنا لم يتقونها وأن حذقوها فلا يكون لهم من المعرفة بلغتهم ما يستطيعون معه أن يعبروا به عن أفكارهم وينقلوا إليها ما يعوزها من علوم الغرب وحضارته. بيد أن اللغة وأن أتقنها صاحبها لا تنفعه وينتفع بها النفع المطلوب إلا إذا أضاف إليها علماً أو فناً أخصى فيه واللغة آلة لا غاية وإن كان من يتقن لغة أوروبية لا يتسنى له ذلك إلا بعد أن ينظر نظرة إجمالية في الفنون المتعارفة.

أما ما يقوله بعض من لا يساعدهم الوقت على تعلم لغة أجنبية من أنه ليس في النقل م اللغات الغربية كبير أمر وأن العالم يستفيد من الوجود أكثر من استفادته مما دوّنه كبار أرباب العقول من أمم الحضارة فهذا من الآراء التي يقصد بها الاعتذار عن التقصير ومن جهل شيئاً عاداه. إذ من الثابت المقرر أننا مهما تأملنا في صحيفة الكون لا نستطيع أن ندرس فيه نظام الإجتماع ولا تقننين القوانين ولا الطب والهندسة ولا الفلك والطبيعة والكيمياء وفنون الأدب والتاريخ ورسم الأرض وغيرها من الفروع الكثيرة التي لا أسماء لها في العربية إذلم يكن للعرب عهد بها ولا تتم سعادة مجتمع اليوم إلا بتعلمها وإتقانها.

ومن قال بأن أسلافنا من العرب قد أجالوا في هذه العلوم قداح أنظارهم ووضعوا فيها ما وضعوا من رسائلهم وأسفارهم فهو على صواب وخطاءٍ. وذلك أن أجدادنا قاموا بالواجب من خدمة هذه العلوم في عصر تماسكهم وانبساط ظل دولتهم إلا أنه انقطعت سلسلتها بعد القرن السادس إلى منتصف القرن الثالث عشر للهجرة وهي القرون التي كانت فيها الأمة العربية في غفلة والأمم الغربية في انتباه فأخذ الغرب عن الشرق ما عنده من حضارة وزاد عليها أضعافاً ولايزال يركض طرف عقله في مضمار البحث والاستقراء ويعاني من ضروب العلم ما نحن فيه معه أجهل من تلميذ مبتدئ بالتهجئة بالنسبة إلى عالم يكتب الكتاب ويقصد القصيد.

فالأمة العربية إذا أرادت النهوض العقلي والعملي يجب عليها أن تأخذ من كل علم بالسهم الأوفر ولا يتم لها ذلك إلا بالنقل عن الأمم الغربية وهذا لا يتأتى إلا بعد أن تخرج مدارسنا الألوف من الطلبة المتعلمين على الأساليب الحديثة لينشأ لنا منهم عشرات يكونون لنا عوناً على ما ينقصنا من أسباب نهضتنا وما تشتد حاجتنا إليه. ويكاد ذلك إلى الآن يعد مفقوداً بيننا اللهم إلا طائفة من أسفار نقلها بعض المولعين بالعربية وما تيسر للمجلات تعريبه من حين إلى آخر من علوم الغرب. وكله دون حد الكفاية بكثير. قال ابن رشد في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال:

(إذا تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس الفقهي فبين إنه أن كان لم يتقدم أحد من قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة فإنه عسير أوغير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقاء نفسه وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة فإن آراءَه التي تصح بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونه آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبلة ملة الإسلام).

(وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فتنظر فيما قالوه من ذلك فإن كان كله صواباً قبلناه منهم وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها يقدر على الاعتبار في الموجدات ودلالة الصنعة فيها فإن من لا يعرف المصنوع ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع فقد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجدات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية ونبين أيضاً أن هذا الغرض إنما يتم لنا في الموجدات بتدأول الفحص عنها وأحداً بعد واحد وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم على مثال ما عرض في علوم التعاليم فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة وكذلك صناعة علم الهيئة ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وإبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض وغير ذلك من مقادير الكواكب ولو كان أذكى الناس طبعاً إلا بوحي أوشئ يشبه الوحي بل لو قيل أن الشمس أعظم من الأرض بنحو 150 ضعفاً أو ستين يعد هذا القول جنوناً من قائله.

وهذا شئ قد قام عليه البرهأن في علم الهيئة قياماً لا يشك فيه من هو من أصحاب هذا العلم

(قال وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط وفي العملية فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة. وإذا كان هكذا فقد يجب علينا أن القينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجدات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرنأهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرنأهم).

هذا ما قاله الفيلسوف الإسلامي في عصر كان العرب أساتذة العلم في العالم وقوله كما رأيت غاية غايات الحكمة. وما الغربيون الآن بالنسبة إلينا إلا قدماء متقدمون وبهديهم يجب علينا أن نهتدي في العلوم. وهذا لايقدح فيما خلفه لنا أسلافنا من أثارهم أيام استئجار عمرانهم واتساع سلطانهم. أما اللغات الحديثة التي تشتد حاجتنا إلى الأخذ منها فهي الإنكليزية والإفرنسية والألمانية. وفي كل لغة من هذه اللغات من أنواع المعارف ما لا يكاد يحلم به من لا يعرف لغاتهم.

وليت شعري إذا كان بعض أهل الغرب والعلوم قد بلغت عندهم ما علمت من الإرتقاء الغريب يتعلمون لغات الشرق لينقلوا منها إلى لغاتهم بعض الكتب التاريخية والأدبية والأخلاقية والشرعية ويستعينوا بها على قراءة أثاره وما زبر على أحجاره أفلسنا نحن أحرياء بأن نتعلم لغاتهم على فقرنا الثابت ونقتبس منهم ما يعوزنا من علوم البشر؟

إلا أن ما نفاخر به من علم أسلافنا وحضارتهم العظيمة إنما قام بإحيائهم مدينة من قبلهم من الأمم كالروم والفرس وغيرهم ولم يتأت لهم ذلك إلا بترجمة علومهم والزيادة عليها وتحسينها فكانوا بذلك أحسن صلة وعائد بين أمم الحضارة السالفة والأمم الأوروبية الخالفة. فحضارة الإسلام أن أنصفنا قامت بفضل التراجمة والنقلة من اليعاقبة والإسرائليين والمسلمين لا بأيدي علماء الكلام مثلاً وقد كان على يد هؤلاء التشتيت وعلى يد أولئك الجمع وشتان بين المفرق والمجمع.

وليس معنى هذا أنكار فضل من تمحضوا لخدمة الشريعة واللغة في القرون الأولى للإسلام وما في الناظرين من يقول بأن الخليل والجاحظ والغزالي والمأوردي هم في حسن بلائهم في خدمة هذه الأمة دون أبي الريحان البيروني ونصير الدين الطوسي وحنين بن اسحق وثابت بن قره. وما كان قط أهل الفريق الأول يحتقرون علم الفريق الثاني ولا العكس لما وقر في النفوس من أن المجتمع لا يقوم على أمتن الدعائم إلا إذا أتقن كل ذي علم عمله. قال الجاحظ: (الإنسان وإن أضيف إلى الكمال وعرف بالبلاغة وفاتش العلماء فإنه لا يكمل أن يحيط علمه بكل ما في جناح بعوضة أيام الدنيا ولو استمد بكل نظار عظيم واستعان بكل بحاث واع وكل نقاب في البلاد ودراسة للكتب وما أشك أن عند الوزراء في ذلك ما ليس عند الرعية من العلماء وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء وعند الملائكة ماليس عند الأنبياء وما عند الله عزَّ وجلَّ أكثر والخلق في بلوغه أعجز وإنما علم الله كل طبقة من خلقه بقدر احتمال فطرهم ومقدار مصلحتهم).

وقال الراغب الأصفهاني في الذريعة: العلم طريق إلى الله تعالى ذو منازل قد وكل الله تعالى بكل منزلة منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور في طريق الحج والغزو فمن منازله معرفة اللغة التي عليها بني الشرع ثم حفظ كلام رب العزة ثم سماع الحديث ثم الفقه ثم علم الأخلاق والورع ثم علم المعاملات وما بين ذلك من الوسائط ومعرفة أصول البراهين والأدلة ولهذا قال (هم درجات عند الله) وقال (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وكل واحد من هؤلاء الحفظة إذا عرف مقدار نفسه ومنزلته في حق ماهو بصدده فهو في جهاد يستوجب من الله أن يحفظ مكانه ثواباً على قدر علمه لكن قلما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته وشره في مكسبه وطالب لرياسته وجأهل معجب بنفسه بصير لأجل تنفيق سلعته صارفاً عن المنزل الذي فوق منزلته من العلم وعائباً لما فوقه وصارفاً عمن رامه فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل أويبفر الناس عنه فعل

وإن ما في عبارة هذين الحبرين ليذكر بما يجب للمجتمع من مراعاة مبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي وقد قال أحد كبار شيوخ العلم من المعاصرين إن مما يؤخر الشرق في العلم عدم مراعاة أبنائه لمبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي ففيه من يحسن التفصيل كما فيه من يحسن الخياطة وليس بينهما من يضم أعمال الفئة الأولى للثانية لينتفع بها المجتمع حق الانتفاع ومثل لذلك بمن نقلوا لنا العلوم على عهد الحضارة الإسلامية الأولى فقال إنه كان يندر أن يجمع المترجم بين معرفة العلم الذي يترجمه واللغتين اللتين ينقل منهما فمن كان يجيد السريانية لا يحسن العربية إلا أنه كان يترجم ما يفهم بعبارة ركيكة أو عامية فيجئ المصححون يصلحون العبارة على الأسلوب العربي فتجئ معرباتهم من أصح ما يكون لفظاً ومعنى وعلى هذا درج ديوان الترجمة في الدولة العلوية الخديوية في القرن الثالث عشر في مصر فكان المترجم غير المصحح ولذلك جاءَ فيما نقلوه روح العربية أكثر من المصنفات التي نقلت إلى العربية حتى في هذا القرن قال وهكذا عرفت دولة العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والأسرة العلوية في القاهرة أن تجمع بين من يحسن التفصيل ويحسن الخياطة فكان من هذا الجمع ما كان كما حسن النفع من كل ما تصرف تحت اسم علم.