مجلة المقتبس/العدد 24/ارتقاء الفكر
→ نظام العمل | مجلة المقتبس - العدد 24 ارتقاء الفكر [[مؤلف:|]] |
اللغات الإفرنجية ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1908 |
ترجمة مقدمة كتاب أمانية الحديثة ونشوؤها
إذا قيس العصر الحاضر بالقرون الوسطى فأول ما يبدو للناظر كالشمس الرائعة ازدياد مقدرة البشر في خلال القرن الأخير. ولعلَّ في الناس من يرتاب في تقديم الإنسانية من هذا الوجه فيقول أن ابن اليوم إذا قيس بابن أمس فليس أسعد منه حالاً ولا أوسع عقلاً ولا أكثر أمناً وطمأنينة.
على أننا نعتقد اعتقاداً لا تردد فيه بأن القوة المشتركة التي يتمتع بها المتمدنون ويكافحون بها عناصر الوجود قد زادت زيادة كبرى. فتنسى للذكاء الإنساني أن يخطو خطوة عظيمة خلال القرن التاسع عشر في سبيل تسخير القوى الطبيعية وحسن الانتفاع بها والتغلب عليها.
فغدا المرء لا ينظر للعالم على ما كان ينظر إليه ابن القرون الغابرة ولايشعر بمثل شعوره نحوه سابقاً بل ارتقى عقله وأي ارتقاء وتقدم كما يقول نقدة كتبه الألمان فصار كل شيءٍ ذاتياً في الإنسان.
عرفت القرون الوسطى بعدم استقلال شعورنا وبتبعيته لقوى الوجود التي تربو على قوانا كثيراً. وإذا حللنا العقل الذي أخذ يقوى حوالي القرن الخامس عشر يثبت لدينا بأن ما يزيد في مساحة الخلاف بيننا وبين أهل القرون السالفة نشأ من عدم توفقهم إلى معرفة مبدأ تحليل عناصر المادة وتعليل المسببات. نحن نقول بوجود رابطة سببية مستحكمة بين جميع الظواهر الحسية بدون استثناء ونسعى جهدنا بما لدينا من التجارب أن ندرك جميع هذه الصلات والأسباب والنتائج حق الإدراك. ولا نزال في حال عدم اطلاعنا على تلك الصلة موقنين بوجودها وأن العلم الناضج يتمكن من تحليلها وتعليلها. وهذا اليقين الأساسي هو الذي نقص ابن القرون الوسطى. فكانت معرفته بالعالم الخارجي ضيقة النطاق ولم يكن لديه كما لابن هذا العصر تجارب جمة مبنية على قواعد راهنة منظمة بنظام معقول ومرتبة يبحث عن شرح الأسباب وتعليلها بل كأن يكتفي كل حين في باب التبصر في وجوه الأمر وكشف غامض كل سر يعرض في فضاء الظواهر بأن يعللها بأقيسة مختلفة وقد تكون سطحية لا قائمة على استدلال مدقق واستنتاج متين.
وأي شيءٍ أعجب مما كان عليه ابن القرون الوسطى أمام مجموع حوادث ما زالت ضيقة المضطرب علمته العادة أن يميز فيها بعض النظام فجزم من تلقاء نفسه بوجود عالم المعجزات والخوارق وبأنه فسيح المدى غير خاضع للنواميس الطبيعية على قربه منا وفي مكنته أن يفرط كل حين السلسة القانونية من هذه الظواهر. وأي شيءٍ أعجب من حال ابن القرون الوسطى وقد فقد الحلم الحسي المنظم فكان من قلة اختباره أن أثر فيه كل التأثير ما ورثه من الحكمة التقليدية. وأي شيءٍ أعجب من مذهب قائم على الاعتقاد بالخوارق ومؤسس على سلطة تقليد قديم يستولى على العقول وتلزم به الأذهان والأرادات بقوة لا تغالب. أما العقل الحديث فيختلف عن ذلك كل الاختلاف.
وذلك أن العقول كانت في القرون الوسطى تذل برضاها أمام سلطة التقاليد وتعترف في كل مكان بالخوارق وبتأثيرات السحر والتنجيم والأمور الغيبية المطلقة التي تشير إلى أن هناك قوى سامية في عالم الكون والفساد.
غير أن العقل الحديث غدا أكثر استقلالاً وامتد فضاءُ التعقل في الإنسانية أيما امتداد وأخذت تجاربه الكثيرة تنظم وصار لها قانون تكثر به وتزيد وانتشر العلم والميل العلمي على موازاة ذلك.
وحل بالتدريج الاعتقاد بالمقدور محل الاعتقاد بما فوق الطبيعة وقام البرهان بالاستدلال المسدد مقام البرهان بالقياس. وانتظمت إذ ذاك معرفة العالم معرفة مبنية على العقل والتجارب التي ما زالت تكثر وتتم ولاسيما في خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
فألقت الرياضيات الميكانيكة في خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بما قام به من الاكتشافات العظيمة كل من (سيمون ستيفن) و (غاليلة) و (نيوتن) و (ديكارت) و (لايبنز) و (أولر) و (لابلاس) وخرجت العلوم التجربية أيضاً في أواخر القرن الثامن عشر من دور الشك والحيرة وبدأ تاريخ الكيمياء الحديث بلا فوازيه كما بدأ علم الكهرباء بكالفإني وفولتا. وفي خلال القرن التاسع عشر نضجت المواد واتسعت الآراء في المجموع الميكانيكي في العالم وعرف العقل الإنساني تصور جميع العوامل الطبيعية في الوجود والأعمال الميكانيكة والحرارة والصوت والكهربائية كانها مرادفات كثيرة مختلفة ترجع إلى شيءٍ واحد وأنها قوة سياسية تظهر متحدة الذات والمعنى بنفسها في جميع الظواهر الطبيعية.
وهكذا برهن العقل البشري على وحدة قوى الطبيعة وأثبت أن القوة في كل مكان على تباين أشكالها تخضع لناموس القواعد الأساسية في الطبيعيات ولقانون حفظ القوة وبقائها ومعرفة المادة. ثم توسع أكثر من ذلك في اكتشافاته فحاول أن تعم هذه القوانين الطبيعية العضوية وأظهر في أحد الأجسام البسيطة التي لاتتجزأ بأن الكربون وهو الجسم الغريب الذي يدل على تكون المجموع الحيوي وتنوعه إلى ما لأنهاية له بأنه يمثل أساس الكيمياء في الحياة (رأي هيكل الألماني) واكتشف في الخلايا البسيطة الفردة جسماً حيوياً صغيراً تتولد منه باجتماعه المتصل جميع الأنسجة التي تتألف منها التراكيب النباتية أو الحيوانية وتوصل العقل الإنساني بنظرية النشوءِ التي كان تنبأ بها الشاعر كيتي في أواخر القرن الثامن عشر وقررها داروين سنة 1859 بأن قدّم لعلم الحياة (بيولوجيا) مسألة التحليل والتركيب وأعلن بأن العالم إذا أخذ بمجموعه فليس إلا نشوءاًًًًًًً دائماً من المادة.
ولكن العقل لم يقف عند حد العناية بشرح العوالم المؤسسة على مبادئ تعليل الأشياء ولم يكتف بالنظريات بل تعداها إلى العمليات فأصبح يعمل ويوجد. فكان كلما أحسن معرفة النواميس الفعالة في حوادث أيضاً أخضع قوى الوجود إليه وأدخلها تحت نظام وترتيب وشغلها فيما ينفعه فكما أنه أوجد العلم فقد رتب الفنون العقلية.
وكأنت الفنون القديمة تجربية صرفة يعرف الصانع كيف يتصرف بما لديه من المصنوعات جارياً في ذلك على الطريقة التي تعلمها ممن سبقه وذلك لأن معلمه نقل إليه بالعمل الطرق التجربية وعلمه كيف ينبغي له أن يتعاطى العمل ليتمكن من صنع الشيء الفلاني.
وكان على جهله بنواميس الوجود يطبق طريقته في العمل بدون أن يعرف في الأكثر كيف تبلغ به النتيجة المطلوبة وعلى أي وجه تسير. وكثيراً ما كان يعثر بالعرض على طريقة جديدة للوصول إلى الغاية المنشودة من أسرع سبيل فينبغي في الحال مجموع قوانين الفن بقاعدة جديدة يخلفها لأعقابه وأخلافه ولكن مجموعة القوانين التي اهتدى إليها بالصدفة وانتقلت إليه من أسلافه لم تبرح على الدوام طريقة تجربية اكتشفت عرضاً لا مجموعاً حسن التنسيق بالمعارف المبنية على العقل المؤَيدة بالعلم والتجربة.
وبعد فإن مما تمتاز به الفنون الحديثة التوسع كل حين باستبدال العلم المبنيّ على العقل بالعلم الذي كان يقوم على النظر وإحلال الطريقة العلمية محل الطريقة التقليدية فمن ثم كان من توابع معرفة الوجود معرفة علمية أن عدلت جميع الفنون التي برزت في شكل أعرق في الحداثة والجدة. ما هي الغاية التي يرمي إليها علم الوجود؟ إنه يعنى بالذات أن يُرجع اختلافات الكيفية إلى اختلافات الكمية وبإيجاد طريقة رياضية توضح بإسلوب تام إحدى الظواهر الطبيعة وأن يرجع جميع ظواهر الحياة العضوية في ذاتها إلى حركات تكون أكثر تركباً من المواد الأولية التي ما كانت تختلف في جواهرها عما تتألف منه الأجسام غير الآلية.
حتى أن العلم الحديث على اختلاف أشكاله ميكانيكية كانت أو طبيعة كهربائية أوكيماوية وغيرها ترمي إلى أن تسقط في كل مكان العوامل الحيوية لتسنعيض عنها بعناصر ميتة فتبدل مثلاً القوة المحركة الإنسانية أو الحيوية بقوة البخار أو الكهرباء وتستبدل عوامل الحديد أو الفولاذ أي الأدوات بالعملة الذين خلقوا من لحم وعظم وتستعين عن الحأصلات الآلية والطبيعية كالخشب والألوأن النباتية والأسمدة بحأصلات غير آلية وصناعية كالفحم الحجري والفحم وفحم القلي النيلي والأسمدة الكيماوية. فأصبحت الإنسانية بذلك على التوالي معروفة المقاصد لا تعلق لها بشيءٍ مستقلة عن المسافة أو الزمن غير تابعة للكفاءات الطبيعة أو الكسبية من مثل رشاقة اليد وحدة البصر والسمع والذوق والشم ولا وقفاً على فئة خاصة من الناس بل تجري بدقة شديدة لا تتغير حركتها وأعني بها الآلة والأداة.
ولم تقتصر الإنسانية على الإستسلام لا حوال الزمان والمكان التي جعلت نمّو الأحياء الحيوانية والنباتية الطبيعي تحت تصرفها ولكنها انتجت الحأصلات التي أرادت إيجادها بأن ركبت تركيباً صناعياً من العناصر والقوى التي لها. ولم يقف الأمر عند حد صناعة دقيقة يوشك سرها أن يضيع بل أصبح ذلك من الاكتشافات التي لا نزاع فيها النافعة في علوم البشر على مر الأزمان كلها وبين ظهراني جماع الأمم.
وهكذا بلغ انتشار العلم والفنون العقلية في قدرة الإنسان وتسلطه على الطبيعة إلى التي لاتصدق ودخل القلب والإبدال على أسلوب العلم بأسره وتنأول فهم أسرار الحياة والعالم. كنا نقول بأن الإنسان شعر في القرون الوسطى بأنه مستقل بالذات بعد أن كان خاضعاً في جميع أطوار حياته المادية والروحية لله أو لتعاليم الكنيسة حل تام لا جدال فيه لجميع المسائل العويصة في مسائل ما وراءِ الطبيعة وهذا الحل أوحى به المولى بالذات فكان على ابن تلك القرون أن يقبل ذلك بدون نظر أو مما حكة فيه. فقانون الأخلاق مفروض عليه كانه أمر إلهي وما عليه إلا الخضوع له صاغراً. وكان النظام الإجتماعي مؤسساً على تعاليم قديمة له صفة نصف مقدسة فيخضع الإنسأن في جميع أعماله المهمة في حياته لأمر صادر من قوة وأرادة أسمى من قوته وأرادته لا يسعه معها إلا الخضوع المطلق والاستسلام التام.
بيد أن حالته هذه من الخضوع لسلطة خارجية هي التي تعدلت كلما أيقن المرءُ بقوته ولقد مضت القرون والنصرانية تأتي أبناء الغرب بقواعد تكون المادة وتشرح النشوء تأتي أبناء الغرب بقواعد تكون المادة وتشرح النشوء التاريخي وتأويل معنى الحياة وتسن السنن وتشرع الآداب. مضت قرون وكانوا يضعون الإيمان في رأس كل شيءٍ وكلما ازداد انتشار العلم العقلي والسلطة المنظمة التي يوليها هذا العلم تزداد ثقة المرء بنفسه فأصبح العلم من ثم خصماً للإيمان وراح العقل يعجب بما أوتيه من آيات الغلبة وكتب له من أسباب الفلج والنجح طامحاً إلى أن يحل محل الدين في كل ما له علاقة بالحياة البشرية وطامعاً أن ينزل المقام الأول من صحيفة أعمال الناس.
وما جاء القرن السابع عشر والثامن عشر حتى أدت الحركة العقلية إلى تأليف مبادئ واسعة وانتهت بإنشاء فلسفة ديكارت وسبينوزا ولايبنز وطفق العقل ينزل منزلة القاضي المسيطر على الحق وأخذ على نفسه إنشاء مذهب يجري عليه العالم وُعدَّته ما رزقه من نور المعرفة مستقلاً عن كل سلطة نازعاً من كل تقليد ووحي.
وفي أوائل العهد الحديث أعلن الفكر الألماني على روؤُس الملأ بلسان (كانت) و (فيختي) بالمبدأ العظيم في استقلال الأرادة فعكس العلاقة التي كانت مقبولة إلى ذلك العهد بين الدين والأخلاق. وكان اللاهوت الأدبي القديم يرى مبدأ الأخلاق في الأرادة الإلهية ويخضع الأرادة البشرية لأرادة الله وهذا ما رآه (كانت) أدباً مختلف القانون قائماً على مبدأ السلطة وقضى عليه بكل جهده حاكماً بأن الأرادة الخالصة المقررة خاصة بحدود العقل الصرّف تكون وحدها الفاعلة العاملة فيه بما تسنه لنفسها بنفسها من قانون تجعله مبدأ كل أدب حقيقي معلناً بأنه ليس في الأرض سلطة لها حق التسلط على الحرية البشرية وأن المرءَ يشرع لنفسه ويقنن لإجتماعه وأنه إذا خضع لقانون الأدب فإنه يخضع بذلك لعقله الخاص فكان من (كانت) أن تم على يده في دائرة اللاهوت الأدبي عمل قريب المأخذ وفتح بذلك عصراً جديداً في تاريخ الوجدان الأدبي وبفضله تم للإنسانية استقلالها وللعقل تحريره.
وأنشأت الإنسانية بعد ذلك تتناغى بهذا العقل وتؤيده بمضاءٍ دائم وفضت زيادة على ذلك الاعتقاد بأن الشخص المفكر العامل لا يعترف بسلطة فوقه يجب عليه الخضوع لها وزاد في ابن العصر الشعور بأنه لا يجب أن يخضع بل أن يدير وينظم ووطد نفسه على تجشم المشاق في استخراج خيرات الأرض بقوة الفكر وعلى العمل لتنظيم الحياة في كل مظاهرها بقانون العقل وذلك من حيث الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة. وقام الفيلسوف نيتش ونادى بإنكار الألوهية في فلسفته الذاتية العصرية على صورة متطرفة غربية ولم ينكر من يقول أهل اللاهوت بوجود بل مجد المولى الفاعل الذي يعتقد به علماءُ ما وراءِ المادة وأخذ يدعو الإنسان أن يبقى (مخلصاً للأرض) وأن يطرح جانباً كل اهتمام بمسائل الآخرة وأن يفهم بأنه هو موجد الأشياء قائلا أن ليس فيما عداه حقيقة مرئية أدبية أوطبيعية يجب عليه الخضوع لها بل عليه أن يشرع لنفسه شريعته حراً مستقلاً.
وأن ليس في العالم إلا مركز قوى لاتزال في نشوءٍ وهي أبداً في تفاعل وتدافع يؤَثر بعضها في بعض. فالجد في إحراز الحول والمنعة المتزايدة على المدى تلك المنعة التي تُخضع لسلطانها جزءاً عظيماً من القوى هو العمل الرئيسي في الحياة العامة. وبذلك صح قولنا أن المباينة تمت على أشدها بين العقل في القرون الوسطى والعقل اليوم. فصار المؤمن وهو يشعر من جهة بأنه محاط بأسرار وأعاجيب ويخضع مختاراً لسلطة التقليد الديني والأدبي والعملي ومن جهة ثانية يرى الشيطأن المريد الذي لا بعترف أصلاً بقانون ولا يد فوقه ويرى في الجهاد المتوأصل لإحراز المنعة أنه هو حظ الإنسان على الدوام بل قسط الإنسانية من العالم أجمع.
وإذا عارضت على هذه الصورة بين السلطة القديمة والذاتية الحديثة فلا أدعي بحال من الأحوال أنني أثبت أن لأحد هذين الرأيين في الحياة قيمة خاصة به تسمو منزلتها عن الأول ولا أن أحدهما يجب بطبيعة الحال أن يختلس مكان الثاني ولا أن التاريخ يدلنا على أن ثمت نشوءاً دائماً لا حد له نحو (الذاتية) العقلية. وغاية ما أريد أن أقول أن المرءَ في العهد الحديث ولاسيما في خلال القرن التاسع عشر أحس من نفسه بأنه اتسع في صدره على نسبة كبيرة الشعور بالقوَّة المنظمة للذكاء وللأرادة الإنسانية فصرف همته من وراءِ الغاية إلى إحراز القوَّة العلمية أو الفنية والاقتصادية أو السياسة فالجهاد ربما كان أعظم حادث في القرن التاسع عشر وبه تمت الغلبة للعقل العلمي المستقل على ما عداه. على أنه من الثابت أن الغريزة الدينية التي كانت تخضع الأرواح في القرون الوسطى للأسرار الإلهية وتحملها على تبجيل هذا التقليد في الدعوة الربانية وتخنعها للعبادة والخضوع للنظام العام وتحملها على الخضوع لقانون العالم بل على الخشوع المحترم أمام معميات العالم لا بالسلطة والعنف_هذه الغريزة لم تبرح تسمع لها إلى عهدنا ركزاً. يعمل ابن العصر بما فيه من قوّة على تسخير العالم لذكائه وأرادته وهو يفاخر بقوَّته ولكنه يظل محساً بما في نفسه من ضيق مضطربة في الإستيلاء على المادة ولم سيما في القوى اللامتناهية المخوفة التي تحيق به ويشعر بها في النفس التي تتجلى من التقاليد العظيمة الدينية أوالأخلاقية السياسة أو الاجتماعية مضيفاً هذا إلى سنن السلوك التي أملاها العقل.
يهم البحث في حالة ألمانيا في القرن التاسع عشر من وجهتين وذلك لأن الألمان كانوا في أوروبا الشعب الذي أبلى بلاءً حسناً في خدمة الفنون العقلية والأرادة المنظمة والأمة التي تفتحت بينها (الذاتية) الحديثة على أدهش صورة وهم مع ذلك من الأمم التي حفظت للفكر الديني والاحترام التقاليد الدينية قوّة أكثر من غيرها. فقد ساعد الفكر الألماني كل المساعدة على أنتشار العلوم الحسية وأحكام التفسير العقلي للعالم. فإنتظمت القوّة الألمانية على طريقة حسنة المنهاج هائلة الحول والطول فقصدت بجد لا نظير له إلى إحراز القوّة الاقتصادية والقوّة السياسة. بما أصبحت به ألمانيا إحدى الدول التي هي أعظم الناس انتشاراً وارتقاءً على نحو ما هي إنكلترا والولايات المتحدة. وهكذا رسخ العقل الألماني بتأثير من الطراز الأول وأداة من القوّة ومن قلة تسامحه سلاحاً.
ولطالما حاول العقل الألماني أن يتفق ما أمكنه مع السلطات القديمة وحاول في الدينيات عقد عهود التحكيم مع المعتقدات التقليدية وذلك بأن يصلح النصرانية لا أن يشتد في حربها وكان من العقل الألماني في السياسات أنه لم يجعل من كل قطعة مملكة تقوم بنظام العقل وتحافظ على التقاليد مراعياً إياها كل المراعاة وأبدى احترامه للسلطة الملوكية وتلطف فلم يعتد على الحقوق المكتسبة ولا غإلى في نشؤها السياسي الذي يؤدي إلى الديمقراطية في الأمم الحديثة.
أيعد كل هذا ضعفاً أم قوة؟ سؤَال فيه نظر. يعجب بعض الناظرين من استمرار النشوء السياسي والديني في ألمانيا ويرون من أعظم المنافع التي نالت هذه الأمة أنها لم تأت على قديمها فتدكه من أساسه وبهذا لا يستبعدون بأنها ستظل في تقدمها على النحو الذي نحته آمنة العوادي والصدمات باحثة وظافرة عن قانون يقبله السواد الأعظم في المعضلات الديمقراطية والاشتراكية أو الإقطاعية والإكليريكية. ويرى آخرون على العكس من ذلك بأن ألمانيا اليوم وهي على إغراقها في أعداد معدات الحرب وشدة احتفاظها بإقطاعاتها وثقافتها في بسط سلطانها وتغإليها في فلسفتها العقلية وولوعها بإحراز السلطة واحتجأن المال مزدرية بالديمقراطية أو الإنسانية بحيث أصبحت نأقلة بنظريات الأفكار في وسط أوروبا الحديثة القديم الذي كان من حقه أن يضمحل إلى هذه القرون الحديثة وربما لا تلبث أن يصيبها قريباً تغيير عظيم يكون عليها شديداً. وهذا أمر طالما تنأوله النظار بالبحث وإلى الأن لم يسفر عن نتيجة.