مجلة المقتبس/العدد 19/صدور المشارقة والمغاربة
→ ../ | مجلة المقتبس - العدد 19 صدور المشارقة والمغاربة [[مؤلف:|]] |
روزفلت وحرب أمريكا ← |
بتاريخ: 15 - 8 - 1907 |
جبرائيل مونو
كان ثلاثة من الناس في السابع من تموزيوليوسنة 1807 مجتمعين حول منصة سترت بنسيج الدمقس الأخضر في مدينة تيليست من أعمال بروسيا وقد اتشحوا بأفخر ما تقتضيه الكبرياء والفخفخة من الألبسة المذهبة وتقلدوا الأوسمة البراقة.
هؤلاء الرجال هم المسيو شارل دوتا ليران وزير الخارجية نابليون الأول إمبراطور فرنسا والبرنس أسكندر كورا كين مستشار القيصر واحد أعضاء مجلس الشورى ومن إشراف الروس والبرنس لوبانوف الفريق في الجند الروسي.
دعي أولئك الثلاثة إلى قاعة المذاكرات بواسطة موظف خاص حسب ما تقتضيه قواعد التشريفات التي يظن أنها أبدية ليوقعوا على العهدة التي بدأت مادتها الأولى بهذه الجملة: سيدوم السلام والوئام بين نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا وملك إيطاليا وبين قيصر الروسيين أجمعين منذ أول يوم يتم فيه التصديق على هذه العهدة من الجانبين
فذهبت هذه المعاهدة ببروسيا والبروسيين إلى أقصى دركات اليأس حتى كانما كانت نذيره بانقراضهم وتأذن سلطانهم أو أن ذاك الوفاق الفرنسي الروسي بناء يقام على أنقاض حكومة هذه البلاد. . .
بينما كان منذوبو هاتين الدولتين المتخالفين يجوبون الأرض مسرعين ليبشروا الشعوب الأوروبية بإشراق أفق السياسية عن أزمنة جديدة إذا باستاد بروسي لا ينظر إليه أمراء السياسة والحرب إلا بعين الازدراء يفكر في أسباب فلسفية يسد بها ثلمات القنابل والمعاهدات التي خربت وطنه فأخذ يعقد المؤتمرات ويخطب أفراد قومه بأن يرجع كل إلى قوته ويعمد إلى أدراع بأسه ويسعى في إنهاض بلاده قدر طاقته.
هذا هو فيختي الذي أخذه البروسيون أستاذا في جامعة برلين لما رأوا من ذلاقة لسانه وصدق بيانه وسداد جنانه. وكان فيختي يرجو في خطبه أن يرى شعوب الجرمان وحكوماته متحدة ليكون لها من اتحادها قوة. تلك الأمة التي برهنت في حرب السبعين على أنها عملت بنصائح فيختي كما ينبغي للأمم المغلوبة أن تعمل بنصح رجالها إذا كأنت الدعوة إلى الإتحاد روح نصحهم.
مضى على معاهدة تيليست أربعة وستون عاماً ثم عادت تلك المنصة الأخضر غطاؤها واجتمع حولها في عاشر مايو 1871 في مدينة فرانكفورت من أعمال ألمانيا أيضاً أربعة مندوبين كأنت المفاوضات بينهم ذات صخب وهياج تارة وممزوجة باستهزاء مشئوم طوراً.
من المندوبين رجل قوي الحجة شديد البأس يدعى بسمارك وهو الرجل الذي لم يكن يعبأ بمراسم التشريفات ولا يهتم بما اعتادت السياسة أن تكنه في مثل هذه المواقف وكان إذا بحث أمامه عن التقارير التي وضعتها الساسة في هذا الباب فك أزرار ملابسه وأنشأ يستغرب في الضحك كثيراً قائلاًأن هذه كلها بما ينشر في رفرف الصحف اليومية من الروايات فبينما يحسب الإنسان أن سيكون من وراء وقائعها حادث إذا به يسبح في خيال ثم أنه يمد رجليه بحذائهما العسكري ويطلب الجعة ليشرب في حضرة المسيو درا نيم الحرج الصدر من حرية بسمارك وأمام المسيو دجولار الذي خجل من هذه الأعمال والمسيو جول فارد الذأهل الحائر.
هذا هو بسمارك فلاح براند نبورج الذي انتهى إلى رئاسة الوزارة الألمانية قد اضطر المسيو جول فارد والمسيو جولار إلى أن وقعوا على عهدة تقضي بانفصال ولايتين من ولايات الفرنسيس وإدخالهما في سمظ البلاد الألمانية.
وهنا ذكر الفرنسيس - وقد أصبح كل شيء عندهم قرين الانحلال قريب الاضمحلال - ما كان من أمر الأستاذ فيختي وتأثير خطبه في الدعوة إلى الاتحاد ومواعظه الاجتماعية وراحوا يرون مداواة جرحى وطنهم بالأدوية الفكرية وترياق الأخلاق على ما شاهدوا من همز الساسة وغمزهم واستخفافهم. ذلك لأن رجال العلم كانوا على يقين من أن نصر الأمبراطور غليوم المؤزر لم يكن من رصاص البنادق بل أن تربية الألمان الفكرية عملت يومئذ ما لم تعلمه أفواه المدافع. من أجل ذلك أخذ الفرنسيس يبحثون عن مذهب نافع في التربية يذهبون إليه لينهضوا بأمتهم حتى تضارع بلاد جيرانهم.
وفي مقدمة من فادوا بأنفسهم في سبيل سعادة فرنسا وسلامتها المسيو جبرائيل مونو الذي رأى الناس من أعماله ما جعله أليق العلماء بهذه الوظيفة المقدسة.
تلقى جبرائيل العلم مع لافيس ورامبو ودوري وفيدال دولا بلانش أوجستن فيلا في صف واحد من مدرسة دار المعلمين وكان يطال ببصره إلى ما وراء الأفق باحثاً عن مكان يلجأ إليه للتحقيق والتتبع ثم انجذب دفعة واحدة بما فطر عليه من الاستعداد نحو ألمانيا تلك الأرض التي أجمع هو وأصدقائه وأساتذته على أنها الوطن الثاني للذين يحيون ليفكروا ويدأبوا فكانت حجرة عملة في زقاق (أولم) تردد أصداء نغمات وادي ألب ووادي أردر على جميع الشبأن العاملين الأذكياء الباحثين عن الحقيقة في تلك الديار وهي ملجأ المتخرجين في مدرسة دار المعلمين الفرنسية من أراء الفلسفة القديمة.
يسير علم اللغات نحو التكمل والنشوء في بافيرا وسكسونيا وبوم رانيا بجميع فروعه حتى أصبح أفاضل فرنسا مدينين لكليات ليسبيك وبون وهالة وغوتنغن. وأني لار نست رنان أن يضع كتابه حياة المسيح لولا أبحاث استر وس في أصول اللغات وهذا غاستون بوفاسيه أحد أعضاء المجمع العلمي الفرنسي يعترف بأنه تلميذ مومسن المؤرخ الألماني وهؤلاء فو كار وجورج برو وميكائيل بريال والبرد ومن قد بنوا مؤلفاتهم كلها على أفكار علماء ألمانيا شاكرين وكذلك القصصيون في فرنسا قد ساروا وفي مقدمتهم غاستون باري تحت لواء الأستاذ ديبز الشهير.
مرت على المسيو مونو في دار الأستاذ وايج أمام كلية غوتنغن ليال حفل وطابها بالفوائد الجمة وهنا يلقي الأستاذ على مونو وعشرة من رفاقه مباحث حافلة وخطابات ممتعة في فقد التاريخ وفلسفته حتى قال مونوكانت هذه الدروس تبث في أفكارنا انتظاماً ووضوحاً وكنا متلذذين بما نشعر به من حب العلم والحقيقة وإبداء صفحة الوجوه لهما. كان وايج ذا فطرة ملكية تلاءم علمه في تربية أفكارهم أكثر من اجتهادي في التأليف وأظنني نجحت. ذلك لأن كتبي ستذهب بها الأيام إلى زوايا النسيان ولكن اسمي ستتلقاه العصور بعضها عن بعض ما دامت أعمال تلاميذي ومباحثهم العلمية باقية
فمثل آراء هذا الأستاذ الفاضل تهذب الألمان وأحسوا بوجوب الانتقام من الفرنسيس وبمثل هذا التهذيب تمثلت كوائن بسمارك وحركته السياسية.
وبينا كان جبرائيل مونو متطوعاً في خدمة جرحى حرب السبعين تحت قيادة المارشال ما كما هون والجنرال أرول بالادي الفرنساويين حدث أن صادف أكابر لغويي الجرمأن في لباس أفراد الجند البروسي فدهش لذلك ووقف ذأهلاً معجباً.
ما أمحت أماني الفرنسيين في البراز الأخير من هذه الشعوب من هذه الحرب الشؤمة حتى ذكر مونو الذي كأن يسعى بين جثث جرحى الحرب يائساً - أنه مؤرخاً وأخذ يؤلف كتابه (الألمان والفرنسيين) نأقلاً فيه مشاهداته منذ بلغ مدينة (راكور) من أعمال اللوريين إلى ذهاب نابليون الثالث وفي هذا الكتاب طبق مونو نظرياته الفلسفية التي كان يعملها تلاميذه. وأنك لتقرأ من خلال سطوره أسلوباً مشبعاً بالجد والتؤدة براء من كل طعن أو تعريض دالاً على أن مونو من المؤرخين الذين يرون أن التصريح بالحقيقة كيفما كانت أنفع الطرق وأسماها. من أجل ذلك كان الكتاب من أثمن ما كتبه المعاصرون عن هذه الحرب. وإن أسباب غلب الفرنسيس يتمثل أمام أنظار القارئ في كل صفحة من صفحاته حتى كانت حرية وجدان المؤلف وصدق لهجته المعزز بالآراء العلمية سبباً لنحت أسئلته على السن مدعي الوطنية الغارقين في لجج الخيال.
ومما فطر عليه المترجم به استيلاؤه على غايات التواضع فلا يريد أن يصفق له ولا أن يستحسن عمله مكتفياً بتسليم ما اهتم بجمعه من الخزائن إلى فريق خاص غير طالب لقاء ذلك شهرة أو سمعه وأن المصفي إلى مونو ليحار من أصوله وتبحره الواسع وتدريسه القويم مع قلة اهتمامه بالخطأبيات. وإذا وجد في المجالس التي ترجح التؤدة والكون أنصت حتى إذا سخت له - والقوم في أثناء المناقشة والحوار - سانحة تلألأت جبهته المفكرة وأبرقت عيناه من وراء نظارتيه الذهبيتين وترك قلمه ومذكرته وأخذ يلقي على السامعين ما يظهر له بعواطف شديدة ولسان مبين. وأنك لترى الجهل واللهو والعيون الساهية قد انتبهت كلها مغلوبة لما فتح أمامها من أعماق مناظر الماضي الفسيح.
وبعد فإن تأثيرات مؤرخنا الفاضل في التدريس لا تظهر من مؤلفاته لا من تعاليمه في دار المعلمين ولا من كتاباته في المجلة التاريخية التي تولي أدارتها أكثر أيام حياته بل من محاوراته الخاصة مع تلاميذه ورفاقه في التحرير ومع أصدقائه وقد خاطبه صديقه أرنست لافيس في خطبة ألقاها يوم احتفال إحدى الكليات قائلاً: (أنك لتلقي بنفسك إلى التهلكة لتخلص غيرك منها ولا تمنع نصائحك ومعونتك عن أحد وأنك لتسرع إلى مكاتبة المشتغلين بالبحث عن الحقيقة وسلامة البشر مهما كانت نحلتهم وقوميتهم).
ومن نتائج أبحاث مونو المثمرة في ألمانيا اجتهاده في تفهيم جميع تلاميذ المدارس معنى (التعاون والاتحاد) وخلاصة الفكر الأساسي الذي يذهب إليه هو وأصدقاؤه: (أن الفرنسيس مستحقون لما نزل بساحتهم من البلايا كما أن الألمان أهل لما نالوه من النصر وما علينا الأن الا أن نسعى إلى اقتطاف ثمرات هذا الدرس المفيد فإنها نافعة لنا ولا تكون الصدمات الاجتماعية وخيمة إلا على أصحاب الغفلة والخمول.
ولقد عرفنا منذ الآن ونحن مضطرون لدفع جميع ما يتهدد جامعتنا والسلم العام من الحوادث. وأن الغالبين قد أخذوا المقاطعتين من أرضنا والخمسة مليارات من أموالنا وما علينا إلا أن نقتبس من فضائلهم لقاء ذلك).
وبعد فإن من الأبطال الذين ألقوا بأنفسهم إلى ساحة البراز في مسألة در يفوس الاجتماعية من أجل الحقيقة والعدل هو المسيو مونو أيضاً فإنه اجتهد في هذا الدرس العام أن يعلم الإنسان أن من واجباته أن يفادي بنفسه في نصرة الحق ولكنه لم يسلم بدفاعه هذا من تعريض المعرضين وسهام أولئك الذين رأى أن ليس من إهانة لهم غير (السكوت).
القسطنطينية محب الدين الخطيب