مجلة المقتبس/العدد 11/التربية والتعليم
→ صحف منسية | مجلة المقتبس - العدد 11 التربية والتعليم [[مؤلف:|]] |
مطبوعات ومخطوطات ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1906 |
انتظام الأوقات
من مقالة للدكتور تولوز نشرت في الجورنال
من بورك له بساعات عمره لا يقضيها إلا في النافع ولا يبارك له فيها إلا إذا عرف فيمتها ولم يؤخر عمل اليوم للغد. فإن التسويف والإرجاء من الآفات التي تضيع فيها الأعمار سدى. وكم ارجأ ناس عملاً اقتضى عليهم أن يقوموا بأعبائه لساعته فضاعت الشهور بل السنون ولم يتمكنوا من معاودته. ومن الفتيان الأغمار من يذهبون إلى أن تمام الحرية الخلاص من كل قيد وسلطة ونزع كل ربقة من الرقبة يعدون ذلك غاية الغايات في السعادة وما أضمن الطرق لسعادة المرء ونجاحه إلا أن يلزم نفسه قاعدة لا يتعداها في عمله مهما جاءت قاسية عليه بادئ الرأي.
والتوقيت في المدارس وساعات الصفوف والدروس هو من أحسن القواعد التي تنشئ التلميذ على حب النظام وإلا لرغب عما لا يحبه من الدروس إلى ما يحبه وفي ذلك يضيع عليه فوائد من اعلم. كما تقدم الطالب في سني الدراسة قلت عنايته بتحديد معلوماته فيقل حفظه ويكثر فكره وبهذا ترى الطالب لا يستقر في ذهنه إلا ما استظهره في سنيه الأولى من الكتاب أو المدرسة الابتدائية. وسببه ما كان يقضى عليه مراعاته من التوقيت والتحديد ودوران اليد العليا فوق رأسه. ولكل صناعة قواعد خاصة بها. وهيهات أن تستقيم أعمال إدارة إلا إذا روعيت فيها هذه القواعد كل المراعاة. فإن أحب الناس المخازن الكبرى فذلك لأن كل من فيها من المستخدمين يدققون في تعاطي وظائفهم. ولقد أجمع العالم على الاعتراف بأن مشروعاً تجارياً هو أرقى في شؤونه من إدارة عامة إذ يحاول القائمون بأعباء ذاك المشروع أن يرضوا زبنهم ما أمكن ففي البيوت التجارية يجيبون على الرسائل يوم وصولها والبريد هو المهيمن على الرؤساء والموظفين. أما في الإدارات فإن الرسائل تطرح جانباً وتظل أياماً طويلة في قماطر الكتاب دون أن يجاب عليها ولا يسأل أحدهم عنها مسؤولية فعلية.
ولا يكفي اعتراف النفس بالواجب ليحسن المرء القيام به بل أن التصديق على عمل العامل ضروري في كل فرع من فروع الأعمال وإذا ترك العامل في أي شركة أو إدارة كان تراقب أعماله بعمل في عشر سنين ما كانت الشركة تعمله في سنة. ومن اللازم اللازب تمشية القواعد على الكبار قبل الصغار وإلا ساءت الحال. وبحق ما يذهب إليه العقلاء من أنه يعد من سيئات النظام الاجتماعي أن يعفى الكبراء من كل قيد ويرهق الصغار بأثقال القيود والقواعد فلقد حدث عن ذلك كثير من الأدواء الحاضرة.
ومما يصاب به ضعاف القلوب والإرادة أن يكونوا أحراراً في أعمالهم. ولقد عرفت موظفاً كان مثال الغيرة والمواظبة على العمل أيام كان في وظائف صغيرة فلما تدرج في المناسب وعد في مصاف الرؤساء أصيب بالانحلال في كل أعماله وصار يمشي مع هواه غير مراقب لأمس واليوم حساباً. ولعل بعضهم يعترض على كلامي هذا ويقول أن هذا الموظف كان منحطاً في أخلاقه أما أنا فلا أجيب من يلومونه إلا بأنهم كانوا يسيرون كما سار لو صاروا إلى مثل ما صار إليه. وإني لأرثي لحال من يقول أن منصبي حسن وعملي سهل وأنا حر لا يراقبني مراقب فلا يد فوق يدي ولا إرادة تحول دون إرادتي إذ القائل ذلك هو حقاً عبد نفسه وأهوائه ورذائله. ومما طوح بإمبراطرة الرومان فأفرطوا في الشهوات واسترسلوا في الموبقات أنهم كانوا يتمتعون بسلطة كبرى ولو حرم نيرون الظالم ما كان حصل له من السلطة لعاش ولا جرم عيش الأشراف بلا دبدبة بعيداً عن المفاسد والشرور.
وإني لموقن بأن القواعد التي تصد من يعمل بها عن الوفاء هي التي تسهل أمامه عقبات الأشغال وتجعلها في عينه هينة لينة. ومتى يا هذا حتمت على نفسك أن تنام كل ليلة الساعة العاشرة تشعر من نفسك بعد اعتيادك ذلك بغاية الانبساط الحقيقي.
لا يتأتى بلا قاعدة لأسرع الناس على العمل أن يقوم بأسباب حياته على ما ينبغي فيتعب أبداً في تنكبه العمل الذي لا يروقه إلى ما يروقه. من أجل هذا رأينا العاملين من الناس يبطئون في الجواب على الرسائل الواردة إليهم ونرى بعضهم لا يتسع لهم الوقت للمطالعة اللازمة وآخرين لا يعبئون بالأمور الخارجية. وكل ذلك فيه ما فيه من الأسباب المضرة في المجتمع. فالقاعدة النافعة هي التي تنادي العامل بها: ها قد آن وقت المراسلات. ها قد آن لك أن تكتسب معارف جديدة. ها قد حق عليك أن تزور أصحابك وتغشى خاصتك. وأرى أن السير على مقياس الزمن (كرونومتر) يصعب على المتفننين وعلى كل من يستهويهم الشعور ويسيرون بحسب الإحساس ولكني على يقين من أنه لا شيء أجدى نفعاً في العلم والسياسة من التوقيت والانتظام.
هذه القاعدة واجبة حتماً على كل امرئ في العالم ولكنها أشد جواباً على ضعاف الإرادة والمترددين في نياتهم وأعمالهم ممن يقتضي أن يكون لهم أبداً وصي أو مسيطر ينفخ فيهم الروح التي بها يعملون. ولقد عالجت أحدهم بلغ به الضيق أن انقطع عن كل عمل فصرت أصف له كل يوم كيف يسير وكيف يقطع النهر ويصعد الشارع المؤدي إلى ساحة المريخ ويدخل المخزن الفلاني ويبتاع ربطة لرقبته ويذهب إلى محل التمثيل يشهد رواية ويبقى في مكانه إلى انتهاء المشهد فنجح علاجي وانتهى ضعفه وصار بعد يؤقت لنفسه ولا يجري على هوى إرادته.