مجلة الرسالة/العدد 999/أبو هلال العسكري
→ ميلاد أمة | مجلة الرسالة - العدد 999 أبو هلال العسكري [[مؤلف:|]] |
حول مقال ← |
بتاريخ: 25 - 08 - 1952 |
2 - أبو هلال العسكري
بين البلاغة والنقد
للأستاذ عبده عبد العزيز قلقيلة
نشأة النقد ونطوره إلى عهد أبي هلال
لابد للأثر الأدبي في نفوس الناس من صدى يتمثل في استجابة عواطفهم له وتجاوب أفكارهم معه؛ وقد يأخذ مظهر النفور منه والازورار عنه. ونتيجة هذا أو ذاك تلك الآراء والأحكام العامة بالحسن أو القبح، والجودة أو الرداءة. وقد وجد عند العرب منذ الجاهلية نقد أدبي بهذا المعنى لم تكن له أسس أو أصول مقررة، وإنما هو أحكام تقوم أكثر ما تقوم على التأثر والانفعال. حتى إذا كان القرن الأول الهجري اتسع أفق النقد وجنح إلى شيء من الدقة وحاول أن يحدد بعض خصائص الصياغة والمعاني؛ وما كاد هذا القرن ينتهي حتى ارتقى النقد ارتقاء محمودا، وكثرت مواطنه في البادية والحضر.
ثم يكون القرن الثاني فترى طائفتين لهما شأنهما في النقد هما: اللغويون والنحاة. من أمثال أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والأصمعي، وأبي عبيدة، والمفضل الضبي. وقد سلك هؤلاء لونا جديداً من النقد تشعبت بحوثه وتنوعت، وعرفت له مقاييس أصول، وابتدأت محاولات النقد المنهجي تظهر.
فهذا (محمد بن سلام الجمحي) الذي عاش في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث يؤلف كتابه (طبقات الشعراء) يتكلم فيه عن الشعر الموضوع، ويبرهن على وجود الوضع بأدلة عقلية ونقلية، ثم يخص إلى فكرته الرئيسية في الكتاب وهي الحديث عن الشعراء وتقسيمهم إلى طبقات، صادرا في تقسيمه هذا عن مبادئ عامة اتخذها أساسا للحكم عليهم هي: كصرة شعر الشاعر وتعدد أغراضه وجودته، متناولا في ثنايا ذلك بعض الظواهر الأدبية وتعليلها من مثل: أثر البيئة في لين اللسان أو غلظه، وفي رقة الشعر أو خشونته، ومن مثل: قلة الإنتاج الأدبي في بعض البيئات وكثرته في البعض الآخر.
أما القرن الثالث فقد كان خصبا حافلا بالرجال والأفكار، إذا انضمت فيه إلى الجداول العربية الأصيلة من التفكير جداول أخرى من المعارف الأجنبية، كان لها أثرها في تش النقد واختلاف مشارب النقاد. فمن لغويين كالمبرد، إلى أدباء مثل عبد الله ابن المعتز، إلى علماء أخذوا نصيبا يسيرا من المعارف الأجنبية يمثلهم الجاحظ وأبن قتيبة؛ إلى آخرين تأثروا كل التأثر بما نقل عن اليونان كقدامة، ومن أهم الكتب التي تصور هذه الاتجاهات كتاب الكامل للمبرد، وكتاب البديع لابن المعتز، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة
أما كتاب الكامل فيفيض بطاقة كبيرة من النصوص الأدبية المأثورة حتى كانت تعجب الذوق العرب الخالص في ذلك الوقت. ونرى مؤلفه - وهو أديب لغوي نحوي - يعالج هذه النصوص على طريقته العربية الخالصة فيشير إلى ما فيها من (اختصار مفهم أو إطناب مفخم أو لمحة دالة) ويأتي بالأمثلة الكثيرة على (ألفاظ العرب البينة القريبة المفهمة الحسنة الوصف الجميلة الرصف) وعلى (ما يفضل لتخلصه من التكلف وسلامته من التزيد) ثم على (ما يستحسن لفظه ويستغرب معناه ويحمد اختصاره) وهكذا. ويعجب المبرد بالتشبيه، ولذا نراه في الباب 47 ج 2 يطيل في ذكر بعض ما مر للعرب والمحدثين بعدهم منه، ويعلق على الأمثلة بطريقته الخاصة محاولا في ثنايا ذلك أن يلم ببعض النواحي النظرية فيه.
أما كتاب عبد الله بن المعتز فهو الذي حدد خصائص مذهب البديع، وفصلها عما عداها ورد هذه الخصائص إلى التراث العربي القديم. وقد كان لهذا أعظم الأثر في توجيه النقد وجهة تاريخية وحمل النقاد على اتخاذ التقاليد في الشعر مقاييس لهم؛ وكان هذا سببا في أن عظمت العناية بمسألة السرقات الأدبية.
وحين نصحب أبن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) نرى أنه رفض الأخذ بتقسيمات ابن سلام لأنه لم يؤمن بها؛ بل بحث الموضوع من وجهة نظر عقلية بحتة، ونجح في هذا حتى إذا كان دور التطبيق وعمل الذوق الفني أخفق. وقد تدبر الشعر فوجده أربعة أضرب حسب الحسن والجودة في لفظه ومعناه، ومثل لكل ضرب، وقسم الشعراء حسب ما فيهم من تكلف أو طبع، وبين أن للشعر دواعي تحث البطيء وتعبث المتكلف، وله أوقات يبعد فيها قريبه ويستعصب ريضه ولا يعرف لذلك عله إلا من عارض يعرض على الغريزة، كما أن له أوقات يسرع فيها أتيه ويسمح أبيه. ثم يأخذ أبن قتيبة في الكلام على الشعراء وترجمة حياتهم.
أما الجاحظ فقد يكون أهم شخصية من شخصيات القرن الثالث، وذلك لأن عمله مزدوج، وقد برز تبريرا ظاهرا سواء في البلاغة أو في النقد. ففي البيان والتبيين يتحدث عن المعاني وتصورها واختلافها في النفوس، وأنها ما لم يعبر عنها موجودة في قوة المعدومة، وإنما تحيا بالتعبير عنها. وكيفية التعبير عن المعاني تجذبه إلى التحدث عن الألفاظ، وإلى المقارنة بينها وبين المعاني، وهذه البحوث من صميم البلاغة. لكنه مع ذلك يلاحظ ملاحظات ويبدى آراء على جانب عظيم من الأهمية في الإنتاج الأدبي ونقده - منها:
(1) البعد عن الهوى والمحاباة. أي يدعو إلى أن يكون النقد موضوعيا معللا قائما على أسس تبعده عن التحيز والتعصب.
(2) الطبع والاستعداد. فهو يدعو من يأنس في نفسه ميلا إلى الأدب أن ينمي هذا الميل ويلتمس له النماذج الرفيعة غير متهيب من إساءة، ولا متخوف من نقد.
(3) رسالة الأدب ويرى أنها خلقية.
(4) عدم إذاعة الآثار الأدبية قبل التأكد من جودتها.
وسنرى بعد أن هذا العمل المزدوج الذي اضطلع به الجاحظ كان شيئاً طبيعياً اقتضته روح العصر وتلك الحركة العلمية التي كانت في عنفوان نشاطها لكنها كذلك كانت في مراحلها الأولى.
إلى الآن والنقد الأدبي إما عربي صرف؛ أو عربي فيه لمحات خافتة من ثقافة اليونان لكنه عربي القواعد والتطبيق على كل حال. لكن مع هذا النقد أو بعده بقليل (في الربع الأخير من القرن الثالث والثلث الأول من القرن الرابع 275 - 337) ألف قدامة بن جعفر كتابين: أحدهما في نقد الشعر والآخر في نقد النثر على اختلاق في نسبة الثاني إليه.
ذكر في نقد الشعر أنه لم يجد أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتابا مع أن الناس يخبطون فيه وقلما يصيبون. وكأنما ساءه هذا الإهمال وعز عليه أن يضل الناس في نقد الشعر. فوضع في ذلك كتابه، وقد عالج الموضوع على طريقة ظاهرة التأثر بتفكير أرسطو. وأظهر أثر لكتاب الخطابة عند قدامة هو الكلام في الفضائل النفسية التي جعلها أرسطو أمهات الفضائل. فقد نقلها قدامة إلى الشعر وربط معانيه بها وأدعم بينه وبينها الصلات.
أما نقد النثر فإنه يستدرك به على الجاحظ (الذي لم يوف وصف البيان ولا أتى على أقسامه ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان) ولهذا راح قدامة يتكلم عن البيان والقياس والعبارة وما يندرج تحتها من الاستعارة والأمثال وغيرها. بهذا ننتهي من القرن الثالث حتى إذا كان القرن الرابع رأينا حركة النقد تبلغ ذروتها على أيدي الآمدى والجرجاني وأبي هلال حيث تتسع دائرة التاريخ الأدبي وتقسيم الشعراء إلى طبقات.
ويزداد الاهتمام ببحث موضوع التعبير الشعري ومناقشة خصائص الأسلوب القرآني وتظهر الكتب القيمة في جميع هذه النواحي مثل: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وديوان المعاني لأبي هلال في تحليل البواعث الشعرية وتبويبها، وتتجلى الموازنة بين الشعراء وتحديد منزلتهم الأدبية في كتاب (الموازنة) للآمدى و (الوساطة) للجرجاني. كما يتمثل اقتراح البحوث.
التي بدأها قدامة وأبن المعتز، والبحوث القائمة على سوق الأدبي في كتاب (الصناعتين) موضوع البحث.
تداخل البلاغة والنقد أمر طبيعي: -
سبق القول بأن كلا من البلاغة والنقد يدور حول تحقيق الصدق والقوة والجمال في التعبير الأدبي. وهذا العرض السريع لنشأة كل منها وتطوره يوقفنا على تشابه هذه النشأة بل على وحدة الظروف التي خلقتها.
وإذا فلم يكن من الغريب أن يلتقيا في تطورهما أكثر من مرة على أيدي رجال موزعين بينهما أو قد أحاطوا بهما فتكلموا فيهما على اختلاف في الميل إلى أحدهما أو زيادة في الاهتمام به. وأرى أن طبيعة الثقافة، وحاجة العصر، وتقدم الزمن أو تأخره بالمؤلف؛ كل ذلك شارك في توجيهه ودفعه إلى هذا البحث الخاص من بحوث البلاغة أو من بحوث النقد أكثر مما كان عند هذا المؤلف من دوافع الرغبة والإرادة.
فالمبرد: أديب لغوي ثم هو من صميم العرب ولم تطعم ثقافته بهذا اللون من ألوان الثقافة الأجنبية. ولذا نراه يتكلم في البلاغة والنقد بروح اللغويين، فما جارى اللغة وساير قواعدها فهو الجيد، ولا يحتاج بعد هذا إلا إلى جزالة أو فخامة أو متانة حتى يكون بليغا. والبلاغة عنده تتراءى من بعيد في الاختصار المفهم والإطناب المفخم واللمحة الدالة وفي التشبيه (الذي لو قال قائل إنه أكثر كلام العرب لم يخطئ).
وأبن المعتز: ذلك الشاعر المطبوع ذو الذوق الخصب والملكة الموسيقية كان أديبا أنيق الصياغة والتصوير، وإلى جانبأيأأألباب هذا كان ذا قدم راسخة في رواية الأدب ونقده. ولقد ألف في ذلك كتاب منها (طبقات الشعراء) و (السرقات). وله في البلاغة والنقد كتاب البديع.
والجاحظ الفحل: بسط جناحيه على معظم مسائل البلاغة والنقد ثم انتفض العبقرية الفن فكان كتابه الخالد (البيان والتبيين).
وقدامة بنقد فيرده النقاد إلى البلاغة، ويتكلم في البلاغة فيرده البلغاء إلى النقاد، وبوسعنا أن نقول. إنه كان ناقدا وكان عالما بالبلاغة ولو أن نقده وبلاغته كانتا بحيث تغلب عليهما روح الفلسفة والمنطق.
وهذا التداخل بين البلاغة والنقد أمر طبيعي بعد ذلك علمنا من تقارب عمليهما وبعد ما كان من توحد بعض المؤلفين فيهما. دعا إلى ذلك وساعد عليه تكتل العلوم وجعلها مجاميع لذلك العهد. فقد كانت هناك علوم الدين من فقه وأصول وتفسير وحديث ووعظ. وعلوم اللسان من متن اللغة وتعريفها واشتقاقها وروايتها وبلاغتها ونقدها. وعلوم التاريخ العام والخاص. وعلوم أجنبية من فلسفة ومنطق ورياضيات. فكان الرجل يشتغل بمجموعة من تلك المجاميع فيشتهر بها ويؤلف فيها؛ بل قد ساعد النشاط العلمي والتنافس بين البيئات المختلفة على إحاطة العالم بعلوم مجموعتين أو ثلاث.
والآن لنتقدم إلى أبي هلال ولنصحبه في كتابه (الصناعتين) لنرى حظ البلاغة منه وحظ النقد.
(يتبع)
عبده عبد العزيز قلقيلة