مجلة الرسالة/العدد 993/هلن كلر
→ إندونيسيا | مجلة الرسالة - العدد 993 هلن كلر [[مؤلف:|]] |
جحا القاضي ← |
بتاريخ: 14 - 07 - 1952 |
العمياء الصماء البكماء
للأستاذ نقولا الحداد
بقية ما نشر في العدد الماضي
قالت مس سوليفان في أحد تقاريرها. أن لهن ذاكرة عجيبة لا تصدق. كنا ذات يوم في فندق في بلدة تدعى هوسفيل وتجمع النزول حولنا لكي يروا تلك المرأة العجيبة. كانوا نحو عشرين شخصاً. فقدموا لهن هدايا مختلفة. وقدموا أنفسهم إليها بأسمائهم. وكانت تصافح كل واحد منهم وكنت أنقل لها اسمه على كفها. وفي اليوم التالي تجمعوا حولها. وكانت تصافح كل واحد منهم وتذكر لي اسمه على كفي
هذا هو العجب العجاب من يصدق؟ المعلمة لا تكذب إذ لا غرض لها من الكذب في تقريرها. وكان كل واحد من نزلاء الفندق يقول كلمة من إعجابه. فقال أحدهم: ما رأيت في حياتي وجهاً يشع بهاء كهذا الوجه كأنها ليست عمياء أو خرساء وقال آخر: أود أن أهب كل ما أملك وأن تكون هذه الفتاة دائماً إلى جانبي)
روت مس سوليفان في أحد تقاريرها أن هلن كانت شديدة الأساس العقلي لدرجة لا تتصور. كانت تدرك عاطفة كل شخص تلمسه أو تلمس يده أو تتصل به بأية طريقة. فتعلم هل هو مرح أو غاضب أو مستاء أو يائس أو آمل ففي ذات يوم رمى ولد (فرقيعة) صغيرة أمام أمها فما جفلت فسألتها هلن في الحال (مم خفت)؟ (ألا يخفى أنها كانت قابضة على يد أمها كعادتها حين تسير مع أي شخص). وفي ذات يوم كانت هلن ومعلمتها سائرتين في الشارع، فرأت المعلمة شرطياً قابضاً على غلام يمضي به إلى دائرة البوليس، فقالت لها هلن: (ماذا تشاهدين؟) كأنها أحست أن المعلمة أشفقت على الغلام
وفي ذات يوم دعا داع أن تدخلا إلى مقبرة. قالت سوليفان رأيت هلن قد انقبضت كأنها أحست بشيء كئيب من إنها حتى ذلك الحين لم تكن تعرف شيئاً عن الموت، بل عرفته لأنها في ذات يوم عرفت أن حصاناً انكسرت رجله في حادث. فكانت تريد أن تزوره كل يوم. وكانت تشعر أنه يئن من الألم، وفي ذات يوم ألحت في الذهاب إليه فقالت لها أنه مات ودفن تحت التراب. فسألت كيف مات؟ هل مات كما تموت البطة التي يصطادها أبوها بالبندقية؟ وكانت تمسك البطة الميتة وهي تعرف كيف تكون البطة الحية. فقالت لها المعلمة: نعم وقد رموه بالرصاص كي يخلصوه من الألم إذ لم يبق أمل بشفائه. وهكذا عرفت الموت
وفيما كانت في المقبرة كانت تتحسس كل حجر وكل رخامة إلى أن صادفت اسم فلورنس محفوراً على رخامة قبر. فسألت: (أين فلورنس الآن؟) هل بكيت عليها؟ من وضعها في الحفرة الكبيرة؟ أظنها ماتت جدا. وكانت المعلمة تتجنب أن تجاوب على أسئلتها. وإنما أفهمتها معنى الموت
وكانت هلن في حداثتها رقيقة الشعور جدا. ففي ذات يوم ألبستها أمها معطفاً أنيقاً، وكانت فرحة به جدا، وقالت لها أمها (يوجد غلام أعمى فقيرة ليس له مثل هذا المعطف. فما قولك؟ فما كان منها إلا أن جعلت تخلع المعطف لكي تعطيه للغلام. . فردته أمها عليها وقالت سأصنع معطفا غيره للغلام
وكانت رقيقة الإحساس نحو جميع الأحياء الذين حولها. وكانت إذا ركبت المركبة إلى جنب السائق نرجو منه أن لا يقرع الحصان بالقرعة فتقول له بلغتها. (حرام الحصان يبكي).
كانت في أوقات الفراغ تخيط أو تطرز. ولكنها كانت تقرأ كثيراً، وفي قراءتها تمر أصابع يسراها على الخط العماني وبأصابع اليمنى تتهجى الكلمات، وحركات يدها سريعة جداً وفي ذات يوم علمها ابن عمها أبجدية التلغراف فتعلمتها بسرعة وكانت تخاطب بها كل من يعرفها بنقر أصابعها على كفه. عجيب أنها تفهم بسرعة ولا تنسى ما تعرفه
والغريب أنها تعلمت السباحة والغوص، وكانت تسوق المركبة ذات الحصانين. وبالطبق كانت معلمتها إلى جنبها لتقيها من الزيغان والحصان يقيها منه لأنه يرى الطريق وهي تلقى له اللجام على الغارب
وكانت كل أمنيتها أن تدخل كلية ردكليف لتدرس مع المبصرين والسامعين العلوم العليا، ولما دخلت الكلية انتخبها الصف الأول نائبة رئيس الصف والصف أربع سنين دراسة أعلاها الرابع
جميع كتب الدراسة والتعليم مكتوبة للعميان بالحروف البارزة. وللعميان آلات كتابية (تيب ريتر) يستعملونها. وكان لهلن جميع الكتب العميانية ولها اله كاتبة خاصة. ومس سوليفان لا تفارقها وتساعدها مي كل ظرف من ظروف دراستها ففي الكلية درست النحو وآداب اللغة الإنكليزية. ودرست اللغة الألمانية واللغة الفرنسية واللغة اللاتينية واليونانية. ولما كان للعميان جميع الكتب المهمة في هذه اللغات بالحروف تيسر لهلن أن تقرأ بعض إلياذة هوميروس وبعض شكسبير. وأهم مؤلفات الألمان والفرنسيين.
والغريب أنها وهي في الكلية كانت تهتم بإنشاء كلية لتعليم العمى والبكم. وبذلت جهدا في هذا السبيل وألفت لجنة لهذا الغرض منها معلمتها وأمها وبعض موظفي مدرسة العميان التي درست فيها، وهي تعترف دائماً بأن مس سوليفان صاحبة الفضل الأعظم عليها وأنها أمها الثانية، ثم إنها جعلت تسعى لتحويل هذا المشروع فكتبت للكثيرين أن يمدوه بالمال. فلا بدع أن نراها وهي في سياحتها في الشرق توجه كل اهتمامها إلى مدارس العميان والسعي لمساعدتها.
وانتهت هلن من كلية رد كليف بنجاح فائق وأخذت مع المبصرين والسامعين درجة بكالوريوس علوم. وما قنعت بهذا بل طمحت إلى الجامعة لكي تحصل على دكتوراه في العلوم ثم دكتوراه في الفلسفة.
ولما بلغت العشرين من العمر وكانت قد انتهت من الدرس شرعت تكتب تاريخ حياتها الذي طبع في سنة 1903 أول مرة ثم طبع سنة 1932 مرة ثانية.
وكانت مجلة السيدات تنشر مقالاتها وجميع أخبارها وأخبار مس سوليفان عنها.
وبكل أسف ليس في كتاب تاريخ حياتها الذي نحن بصدده شيء عن حياتها بعد كتابة كتابها الأول. وإنما هناك كتاب أخر بعنوان يستوفي بقية حياتها في الجامعة وبعدها. وأتأسف أنه لم يتيسر لي الحصول عليه.
ولمس سوليفان فصل طويل في مسائل هلن عن الوجود والله والطبيعة، فكانت مس سوليفان تسوف الأجوبة على هذه الأسئلة إلى أن تنتهي هلن من الجامعة ودرس الفلسفة
هذه هي هلن كلر التي هي كتلة عقل في دماغ طري مرن، وكتله أعصاب في بدن شديدة الحساسة ماعدا أعصاب السمع والبصر. والذين رأوها في مصر دهشوا من مقدرتها في التعبير عن نفسها وأفكارها. ومنهم كثيرون لم يصدقوا هذه المقدرة لأنهم رأوا وجهها يشع جمالاً وليس في عينيها ما يدل على عمى، وما فهموا أن العيب ليس في عينيها ولا في أذنيها، وإنما هو في مراكز السمع والبصر في الدماغ
فسبحان من منع ثم منح