مجلة الرسالة/العدد 993/جحا القاضي
→ هلن كلر | مجلة الرسالة - العدد 993 جحا القاضي [[مؤلف:|]] |
زعماء التاريخ ← |
بتاريخ: 14 - 07 - 1952 |
للأستاذ عطا الله ترزي باشي
أشتهر من بين المستطرفين في الشرق رجلان سميا بجحا، أحدهما عربي، هو أبو الغصن بن رجين بن ثابت الذي عاش بمدينة الكوفة في القرن الثاني من الهجرة، والآخر تركي يعرف بجحا الرومي، وهو الخوجة نصر الدين الفيكهان العالمي المعروف
ونريد في هذا المقال أن نتكلم عن الثاني على أن تحصر الكلام في ناحية هامة من نواحي حياته، ونعني بها جانب القضاء، وان تطرق كذلك بإيجاز إلى جوانب حياته الأخرى كلما مست بنا حاجه أودت إلينا ضرورة.
ولد جحا في مدينة (سيورى حصار) من ولايات الأناضول وتلقى علومه الابتدائية في مدينتي (آق شهر) و (قونيه). وعين بعد ذلك إماماً في بعض المساجد فمدرساً. وقد اشتهر بالوعظ والخطابة، وشغل منصب القضاء مدة غير قليلة في نواحي قونية. وتوفي سنة 683 هـ عن عمر يناهز الستين سنه، فكتب تاريخ 386 هـ بدلاً من 683. وهذا الأخير مشكوك فيه أيضا.
لقد كان جحا الرجل الفذ المعروف بحضور بداهيته وقدرته على إبداع النكات بما لا يضارعه في ذلك أحد من المستظرفين. ولئن كان جحا ضحكةبين الناس فإنه لم يكن صاغراً أو مهاناً راضياً بالذل والضيم. . فقد كان شيخاً كريماً وأديباً ممتازاً جمع بين الجد والهزل بشكل لا يجاري فيه أحد من الأدباء، وعالماً فاهماً يفحم فطاحل العلماء بأجوبته المسكتة وأدلته المقنعة. وهو يعد بلا شك برنادشو زمانه، والواقع بأنه كان أذكى وأعقل. . ومن درس حياته دراسة عميقة توسم فيه أدباً رفيعاً بعيداً عن المهازل المبتذلة. . ورأى من وراء سفاسفه فلسفة مثلى. . والمطلعون على نكاته - باختلاف طبقاتهم واختلاف ألوانه - نراهم يستمتعون بلذاتها أبد الدهر. فهو يتمثل في مخيلة كل قارئ شخصاً يتغير وصفه بتغير حال المخيل، فيتصوره الصغير رجلاً طاعناً في السن وعصاه في يده يسوق بها حماره الذي يلازمه في أكثر نكاته. ويتخيله الجاهلون من طبقة العوام رجلاً ذا جنة فيهرفون في الضحك به، ويعتبرون نوادره لونا من الهزل الرخيص. وهو في الواقع رجل عظيم كما ذكرنا، حكيم رزين، وعالم متزن متحل بمزايا الإنسان الكريم. أما نكاته فه مرآة صافية تتمثل فيها جوانب شخصيته الممتازة. وقد ترجم أغلب نوادره إلى اللغات العربية والفارسية والهندية فضلاً عن أنها ترجمت إلى كثير من اللغات الأوربية الحديثة. وقيل أن أحد الإنكليز المغرمين بنوادر جحا كان يقتني كل نادرة غير موجودة في مجموعته بجنيه أسترليني، حتى تمكن من الحصول على عدد غير قليل من نوادره. .
كان جحا يجالس العلماء البارزين ويتحداهم في كثير من المسائل، وكان يصاحب رجال الدولة وخاصة القضاة منهم، فيستشيرونه في كثير من الأمور فيرشدهم إلى أسلم الحلول. وكان الأفراد، صغيرهم وكبيرهم، يحتكمون إليه فنراه يحل مشاكلهم بفطنته وبقطع بينهم دابر الفساد بدرايته. فيرضى بحكمه الصغير ويقنع برأيه الكبير. . يحسم النزاع بشكل لا يدع فيه للاعتراض مجالاً ولا يترك للمناقشة باباً. يعبر عن غاياته بتعابير شيقة توافق مقتضى الحال. فيعرف كيف يخاطبٍ الصغير ويجارى الجاهل الغرير وهو يعرف كيف يوازي الحكيم المحكم ويوازن الشيخ الكريم. . .
أدرك جحا عصر تيمورلنكالملك الجبار وأنس بمجلسه. وكان يواجه في كل حين مواجه صديق لصديقه، لا يأخذه منه روع أو جزع. .
دخل تيمور بلدة جحا مظفراً منتصراً على العثمانيين. فخاف الناس أن يصيبهم منه أذى حتى أقدم جحا على زيارته وأبدى جسارة في الجلوس بجانبه. ولما رآه وقد مد إحدى رجليه أراد أن يضحك منه؛ فمد هو رجله من ساعته. فاستشاط تيمور غضباً وقال له: لقد سمعت عنك أنك ظريف حكيم ولكن تبين لي أنك حمار! فتبسم جحا ضاحكاً وقال له: أجل أنه ليس بيني وبين الحمار فرق سوى ذراع أو ذراعين! فتعجب تيمور من هذا الجواب فأمر بالانعدام عليه وجعله من المقربين
ويروى عنها نكات كثيرة، تخص بالذكر هنا إحداها وقد تميزت بطابع القضاء الذي جعلنا المقال يدور حوله
ارتجل جحا يوماً إوزه وجاء يقدمها إلى تيمور. فغلب عليه الشوق إلى كل شرحة منها، فعالجها لاختيار الموضع الذي يأكل منه حتى تناول إحدى رجليها. . ففطن السلطان للمسألة، فسأله بغضب عن علتها فأجاب جحا قائلاً:
- إن الإوز في هذه البلاد - يا سيدي - له رجل واحدة! وأشار إلى الإوز في الحديقة وهي واقفة على رجل واحدة. . وعندها قام تيمورلنك فضرب الإوز بعصاه حتى تولت برجليها مسرعة. . قال له جحا: لئن ضربناك بهذه العصا لرأيناك تركض بأربع أرجل! وكان ذلك جواباً مفحماً ابتغى من ورائه الإشارة إلى الآثار السيئة التي تنجم عن التعذيب في المجتمع
لقد زادت قيمة جحا وعلت منزلته بين الناس بمر الأيام وكر الأعوام حتى تكون له مركز ممتاز في المجتمع. وقد ذاع صيته في أطراف البلاد، فاهتمت به الأوساط الأدبية وعنت المجالس الثقافية بجمع نوادره الرائعة. . وأحبه الناس حباً جما فكانوا يكرمون وفادته في كل مكان. رجال العلم وأكابر القوم وولاة المملكة وقضاتها لا ينقطعون عن مجلسه ولا يدعونه ينقطع عن مجلسهم
يروى أن أحد القضاة أراد يوما أن يستهزئ بجحا في مجلس ضم جمعا غفيراً من علية القوم، وكان يغريه في ذلك أحد التجار، قال:
- لا غرو أن كثرة الكلام داعية للخطأ، فهل صادف أن سببت لكم الثرثرة خطأ؟
قال جحا: نعم. وكان ذلك في موضعين: أحدهما في جملة (وقاضيان في النار) فقد قرأتها خطأ (وقاض في النار) وثانيهما في آية (إن الفجار لقي جحيم) إذ قرأتها (إن التجار. . .)
ويروى له مع هذا القاضي نادرة أخرى أطراف من سابقتها وهي أن جحا كان يوما جالساً مع صديقه القاضي في قاعة المرافعة، فجاء رجلان يتخاصمان على رفع جيفه ملقاة في الطريق بين داريهما، يطلب كل منهما إلزام الآخر برفعها
رأى القاضي أن يحيل المسألة على جحا فيحسم النزاع وكان يروم الاستهزاء به. فما كان من جحا إلا أنه اعتلى منصة القضاء واصدر حكما يتضمن أن الأفراد غير ملزمين بإزالة الجثث من الطريق العام، وإنما المختص بهذا العمل هو حضرة القاضي الذي يمثل المصلحة العامة
وهكذا حسم الدعوى حسماً موفقاً لمقتضى القانون والعدالة، منتقماً من القاضي الذي أراد الاستهزاء به. .
ويعبر جحا بنكاته البديعة عن واقع الحال تعبيراً صادقاً، ويصور بها الأوضاع السيئة في عصره خير تصوير. فانظر إلى فكاهته هذه كيف يوضح بها سوء القضاء وتفشي الرشوة بين الحكام: حكي أن ثرياً قال لجحا: أن تبصق على وجه فلان، وهو عدو لي، فلك مني دراهم كذا. . وافق جحا على ذلك. . فرفع المشتكي أمره إلى القاضي ولدي السؤال أجاب جحا قائلاً. أن لدى فرمانا يخول لي في ذلك. .
فاستغرب القاضي من ذلك وقال له ارني هذا الفرمان. فأجاب بجحا يدفع كيساً إليه رغيفه نصف المبلغ الذي أخذه من صاحبه التاجر. وما أن اخذ القاضي الدراهم حتى ولي وجهه إلى المشتكي وقال:
- حقا لقد ابرز خصمك فرمانا يخول له الحق أن يبصق. على وجهك وعلى وجوه الناس بل وعلى وجهي كذلك. .
وتقلد جحا منصب القضاء مدة طويلة كان خلالها مثال الحاكم العادل الذي لا يغريه الطمع والحكيم المجرب الذي لا يغويه الفساد. فكان حازماً في رأيه صريحاً في نطقه، قوي الحجة كثير البلاغة، ذكيا ذا فطنه لا تخدعه خديعة الماكرين ولا يجترفه عن الصواب مكر الماجنين.
حكى أن أحد الماكرين أراد أن يحتال على كسار خشب، فادعى أن له بذمته مبلغاً نشأ عن المدعى عليه على كسر الحطب بترديده كلمات (هينغ. . هينغ) حيث سهل أمر الكسر، ولذا فإنه يطلب من المحكمة إلزام المدعي عليه بالمبلغ المدعي به وهو اجر قوله. . .
تأمل القاضي - وكان جحا - في المسألة ثم قال للمدعي عليه: هات المبلغ المدعي به وما أن اخذ الدراهم حتى رنها وأعادها إلى صاحبها المدعي عليه قائلاً:
- إياك الدراهم. . وأنت يا مدعي قد انتفعت بصوتها فهو اجر قولك
ويروى عن جحا في هذا الموضوع نوادر شتى، منها:
المدعي (مشيراً إلى المدعي عليه) لقد كان هذا يحمل ثقلا فوقع من ظهره، وطلب إلى أن اعاونه، فسألته عما يعطينيه قال (لا شيء) فرضيت بها وحملته الثقل. . . ولذا فإني أطلب من المحكمة إلزام المدعي عليه بتأدية (لا شيء) لي
جحا (وهو القاضي) - دعواك صحيحة يا بني. . تقرب مني وارفع هذا الكتاب. . ماذا في أسفله؟
المدعي - لا شيء. .
جحا - فخذها وانصرف
ويلاحظ أن القرارات التي يصدرها جحا لم تكن من نوع القرارات القراقوشية التي لا تتفق مع قواعد العدالة. . ولئن كان ظاهرها موصوفا بطابع الهزل فإن باطنها كان محبوكا بأنسجة الحق والصدق. . فلم يكن جحا ليمزج الحق بالباطل أو يخرج الصدق بالمين إلا على سبيل الملاطفة. . جاءه يوماً رجل وقال له:
ان ثوركم نطح ثوري فهلك فهل يلزم الضمان؟
فقال جحا: كلا فإن دم العجماء جبار. . .
فقال صاحب الثور: عذرا لقد أخطأت، فإن ثوري هو الذي نطح ثوركم
وعندها قام جحا منزعجا وقال:
- هات لي الكتاب الفلاني، فقد تغير وجه الادعاء وأبدع جحا مرة في الإجابة عن بعض الادعاءات المتناقضة بقول حاسم جميل، لقد جاءه أحد المتخاصمين يبسط له النزاع ويبرئ نفسه ويدين خصمه. فقال له جحا: (نعم أنك على حق)، وبعد قليل جاء المتخاصم الثاني وبدأ يشرح له الأسباب، فقال له جحا: (نعم انك على حق)، فاستغربت امرأته من ذلك وقالت له: لقد جاءك المتخاصمان فقلت لكل منهما انك على حق ولئن كان أحدهما محقا في دعواه، فإن الآخر ولاشك غير محق فيها، فالتفت إليها جحا وقد تدارك الجواب:
(نعم وأنك على حق)
كركوك
عطا الله رزي باشي