الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 991/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 991/الكتب

بتاريخ: 30 - 06 - 1952


السقامات

قصة طويلة ليوسف السباعي

للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان

لعل الأستاذ السباعي من أكثر الأدباء المصريين إنتاجاً، فهو ينتج بمعدل أربعة كتب في العام الواحد عدا القصص القصيرة الأخرى التي يكتبها للصحف، ونحن لا نحاسب الكاتب على كثرة نتاجه أو قلته، وإنما نحاسبه عن النتاج نفسه، وعن قيمته الفنية والأدبية والاجتماعية.

لو تأملنا كتابات السباعي السابقة ثم تأملنا كتابه الأخير لوضعنا الكتب السابقة كلها في كفة، وكتاب السقامات في كفة أخرى.! فالكاتب في كتبه السابقة كان يتأرجح بين أساليب شتى. لا تربطه صفة واحدة، ولا يميز مؤلفاته أسلوب خاص! كان يكتب لمجرد الكتابة. كان بكتب كي يمد (مسامرات الجيب) بقصة كل أسبوع، ولا شك أن هذا (الروتين) في الإنتاج الأدبي قد يجعل الكاتب يغض النظر عن القيم الفنية بعض الشيء، فيحصر اهتمامه في إعداد قصة قبل الوقت المعين!

أما في (السقامات) فقد ظهر للقارئ بأسلوب مميز خاص. وبقلم الكاتب المتمكن المتعمق. فالكتاب يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع المتوسط. فليس تأليفه إذن من السهولة بمكان! فالشوط الطويل الذي قطعه السباعي قد تقصر دونه الأنفاس، وتكل الأيدي، وتجهد الأذهان؛ ولكن أنفاس السباعي لم تقصر، ويده لم تكل، وذهنه لم يجهد! فقد مضى بكل اعتداد، وبكل جرأة، وخطا الخطوة الأولى. حتى انتهى إلى الخطوة الأخيرة. ومن هذه الناحية أستحق كل إعجاب.

ونعود إلى الكتاب فنتأمله بعين فاحصة، فنراه يشمل قصة محلية، من الجو المصري القديم. قصة شبيهة بقصة (زقاق المدن) لنجيب محفوظ. من حيث البيئة وتعدد الأبطال، والفكرة المستترة وراء الحوادث. . وهي إعطاء صورة صادقة للجو المحلي القديم في مصر. فالقصة قصة بيئة. لا قصة أسرة. قصة جماعة من الناس جمعتها الحياة في صعيد واحد، ولونتها الحياة بلون واحد. فكل أفرادها من الطبقة الفقيرة التي تكدح طول النهار، ولا تكاد تظفر باللقمة التي تشبع!

لقد حاول الكاتب محاكاة نجيب محفوظ، كما هو واضح في رسم الشخصيات، ولكن محاولته لم تنجح مثل نجاح محفوظ. فهو في بداية قصته تطرق إلى شخصيات كثيرة، حشرها ضمن محور القصة، وجعلها من أبطالها الأولين، كما فعل محفوظ، لكنه لم يكد يخطو خطوات، حتى ترك أكثرها في حالها. . . واقتصر على قسم منها معدود! في حين نرى محفوظ لا يترك شخصية واحدة تفلت من نطاق قصته. . أنه يسيطر عليها سيطرة تامة، فيحصرها حصرا، ويجعلها في القصة ذات أثر فعال.

مجمل القصة: السقا شوشة يعيش مع ولده وأم زوجه المتوفاة، عيشة راضية، وهو إذ يتغدى ذات مرة، عند (الحاجة زمزم) المرأة المخيفة! يصادق (شحاته أفندي) الذي كان قد جاء إلى (مسمط زمزم) ليأكل على الحساب. . . بناء على دعوة من الحاجة اعتبرها دعوة حب. . وغرام! كان جيبه فارغا، لذا فقد كادت الحاجة زمزم تجرده من ثيابه بعد أن عجز عن دفع ثمن ما أكل. فتدخل شوشة في الموضوع ودفع الثمن منقذاً الأفندي من براثن الحاجة! ويعد ذلك نرى شحاته الذي يعمل في توديع الأموات إلى قبورها يعيش مع شوشة، كما نراه يأخذ شوشة إلى قهوته، ويعرفه بأصحابه ويبسط له مهنته.! حتى ينام شحاته أفندي ذات يوم على أمل أن يستيقظ فيذهب إلى موعد غرامي اشتراه بخمسين قرشا من (تاجر الأغراض) الذباح! ينام الرجل فلا يستيقظ أبدا. ولا يلبث المعلم شوشة أن يأخذ مكانه في المهنة، مستعملا نفس البدلة التي كان يستعملها المتوفى، لأنه يريد أن يتعرف إلى سر الموت! الموت الذي خطف منه زوجه، وتركه وحيدا محروما. وتقبل عليه الدنيا فيرتقي إلى رئيس للسقايين. يتحكم في توزيع المياه على الزبائن، ولكنه لا يترك مهنة المتوفى. حتى يفاتحه ولده بمخاوفه، طالباً إليه أن يكف عن توديع الموتى، فيعده الرجل، لكنه في اليوم التالي لا يغادر فراشه، فيحعل ولده محله في توزيع المياه! وما أن ينتهي من ذلك ويعود إلى أهله، حتى يجد البيت قد انهار وقضي على أبيه! فلا يلبث الابن أن يسرع فيرتدي بدلة شحاته أفندي، الخاصة بمودعي الأموات. . فيمضي أمام نفس أبيه ليودعه المقر الأخير، أنه أيضاً يريد أن يكشف عن الموت سره. .! وتنتهي القصة والابن قد أصبح أبا، وتربع على عرش المياه مكان أبيه، وقد وضع بالقرب منه لافتة فيها هذا الآية الكريمة (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)

والغريب أن الكتاب يبدأ الآية وينتهي بها، كما أنها تتردد في حوار القصة أربع مرات تقريباً دون أن يكون بينها وبين القصة صلة ما.! لعل المؤلف يريد أن يعزي أبطاله ويمسح على مصائبهم وهم في غير حاجة إلى ذلك. فالآية مفروضة فرضاً محشوة حشواً! فالصلة بعيدة بينها وبين مغزى القصة كما قلت، فأين الصابرون؛ بل أين الفواجع التي صبروا عليها؟ الحوادث كلها بسيطة عادية. لا تدعو إلى الصبر، لأنها توحي بالقناعة. وبالأضل من أناس مثل أولئك الفاسقين الراضين، وإن كان المؤلف قد افتعل موت الرجلين افتعالا، إذ حرمهما الموت الطبيعي وذلك لم يتمكن أن يجعل أبطاله من الصابرين المؤمنين، لأنه جعلهم يشعرون أن الموت جاء بالمصادفة وأن القدرة الخفية لا دخل لها فيه.

لقد فاجأنا المؤلف بموت شحاته أفندي في منتصف القصة وشحاته هو الوحيد الذي يسيطر على انتباه القارئ وجذب اهتمامه، لأنه الوحيد - حتى ذلك الوقت - الذي كان يسعى إلى هدف فيجعل للقصة مسحة من التشويق، فاجأنا بموته، وبذلك ماتت عقدة القصة، وتلاشى التشويق، وكأنما انتبه الكاتب إلى خطئه، فكشف للقارئ عن عقدة أخرى. . كانت مختفية عنه حتى ذلك الوقت، وبكل هذه العقدة شخصية شوشة. . الذي أخذ يسعى إلى كشف سر الموت واستجلاء أمده!

ولنا ملاحظة أخرى بشأن شحاته أفندي. فقد جعل له المؤلف شخصية ماجنة عابثة تتأثر حين ترى أمامها امرأة. فهو يتغزل حتى في الحاجة زمزم، الضخمة المخيفة.! ثم عاد - المؤلف - وأسكنه مع المعلم شوشة، ونحن نعلم أن هناك، في أعلى شقة هذا الأخير تقطن أسرة (علي الخشت) أن لهذه الأسرة فتاة ناضجة، تتردد على أسرة شوشة فتساعد الضريرة أم آمنة فإذا ما نزل شحاته عند شوشة لم تعد ترى أثراً للفتاة! وكان المتوقع أن يراها شحاته، وان تحدث بينهما أشياء. .! فما الذي جعل الفتاة تختفي عن مسرح الحوادث بمجرد ظهور شحاته؟

وهناك أمر آخر. فإن شوشة بعد موت شحاته أخذ مكانه وصار هو الآخر من (الأفندية) يودع الموتى إلى المقر الأخير في وقت أصبح فيه موظفاً في تصريف المياه. أي أنه يجب عليه أن يعمل طول النهار في وظيفته ثم يزاول مهنة شحاته بعد ذلك أي عند المساء. وهنا بعض التناقض. لأننا رأينا شحاته بعد قد تأخر قليلا ذات صباح فزجره الحانوتي الرئيس! فكيف لا يتأخر شوشة؟ وهو لا يزاول هذه المهنة إلا ليلا، مع العلم أن الموتى لا يدفنون إلا في النهار!

لقد اهتم المؤلف برسم شخصية (الحاجة زمزم) اهتماما كبيرا حتى جاء رسمه بليغا رائعا مثيرا؛ فحسبنا أن لها أثراً كبيرا في القصة أوانها هي البطلة الأولى فيها؛ ولكننا وجدناها تختفي تماما عن مسرح القصة، ثم تعود قبيل النهاية؛ عودة قصيرة؛ تخيب آمال القارئ وهي مع ذلك عودة مفتعلة! جاءت على إرسال الأب ابنه إليها ليطالبها بالريال المتبقي له عندها، لأنه لا يملك شيئا أبداً! وهنا الكثير من الضعف، لأن الأب قد أقبلت عليه الدنيا، وأصبح رئيسا للسقايين. كما أنه يعمل سرا في دفن الموتى، وان الموتى كثيرون كما قال المؤلف! وقد رأيناه في الليلة السابقة في الحمام مع أبنه يدفع المال بسخاء، فكيف بنا نجده في الصباح خالي الجيب تماما! كان الأوفق للكاتب ألا يكلف نفسه إعادة الحاجة زمزم؛ وأن يجعل له حيلة أخرى لإبعاد الابن عن أبيه كما ينهدم البيت وهو عنه بعيد!

وفي الكتاب بعض الأخطاء النحوية والإملائية التي لا أخالها إلا وليدة السرعة أو وليدة المطبعة. فقد جاء في (ص99) (. . وكان الثلاثة. . .) في حديثه عن ثلاث نساء! وقد تكرر هذا الخطأ في (ص101) وفي (ص102) (كانت النساء الثلاث في الفناء تتجاذبن الحديث) وفي (ص467) (لم تشعره جدته ولا أبيه)!

وهناك أخطاء طفيفة لا تؤثر في قيمة الكتاب. ويجب ألا أنسى أن السباعي قد أبدع في (ص290) حتى (ص300) في الكلام عن الموت على لسان شحاته أفندي، فقد جاء ذلك الكلام مطابقا شخصية شحاته كل المطابقة

والكاتب بعد هذا يتأرجح بين العامية والفصحى. وهذا ما يؤكد أن الكاتب عاجز عن التعبير الكامل بالفصحى، بالرغم من أنه يبرر مسلكه في المقدمة قائلا: (إن الغلبة - في الحوار - للعامية، لأنه من المستثقل الممجوج أن نحاول إنطاق أشخاص باللغة العربية في القصة، وهم لا يمكنهم في حياتهم الطبيعية أن ينطقوا بها). إنك يا أستاذ يجب أن تصور أولئك الأشخاص تصويرا فنيا، لا أن تنقل أقوالهم كما هي، فالفنان هو الذي يضيف على الحوادث العادية مسحة من الجمال والسمو، ولا يرضى أن ينقلها كما هي، ولا أن يصورها كما تصور آلة التصوير المناظر الطبيعية

كارنيك جورج ميناسيان