الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 991/القصص

مجلة الرسالة/العدد 991/القصص

السكيرة أو البرميل الصغير Le Petit Fût هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1884. نشرت هذه الترجمة في العدد 991 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 30 يونيو 1952


السكيرة

القصصي الفرنسي جي دي موباسان

وقفت العربة ذات الحصان الواحد أمام مزرعة الأم (ماكلوار) تحمل المعلم (شيكو) خمار (دي به فيل) وهو رجل في العقد الرابع خشن المعارف هائل الخلقة أحمر الوجه بطين سمين، على وجهه سيما الخبث المكر

هبط الرجل سلم العربة، ثم ربط حصانها بخشبة معترضة ومشى على ساحة الدار

كانت الأم (ماكلوار) تمتلك أرضاً تجاوز مزرعته، طالما تشوقت نفسه إلى ابتياعها منها، وضمها إلى أرضه لولا أن كان يصده عن هذه الرغبة تعصب من العجوز عنيد وتصلب شديد. وكانت تقول:

- إني ولدت في هذه الأرض، وستجنني تربتها. . .

ففي هذا الصباح ألفي العجوز، وهي دردبيس في الثانية والسبعين من عمرها، أمام منزلها معنية بتقشير (البطاطس) كانت منكمشة الجلد، جافة اللحم، منضوخة الوجه. وبرغم ذلك كانت دائبة على عملها وكأنها في ربيع العمر تقدم منها المعلم (شيكو) وربت على كتفها في دعابة ثم قال

- وصحتك أيتها الأم، هل هي جيدة وأبداً جيدة؟

- أحمد الله، وأنت أيها المعلم؟

- بخير، ولولا قليل من الألم لكنت هانئاً راضياً

- جد مليح. ثم لاذت بالصمت وأخذت تقشر البطاطس وتديرها في حذق ومهارة، بين أصابع يابسة عقداء معروقة، تشبه أرجل السراطين، وفي يدها اليمنى سكين عتيقة منثلمة لا تكاد تقطع الجبن

وحين فرغت من البطاطس، وأضحت لماعة صفراء، ألقت بها في قدر مملوءة ماء. فإذا دجيجات وأفراخ تسعى إليها ناقة مقوقئة، ثم تختلس ما تبقى في حجرها من قشور البطاطس، وتتراكض في خبث عنها وفي منقار كل منها ما غنمت من قشور

كان المعلم (شيكو) يرقب هذا المنظر في سأم وضيق وفي نفسه أمر، وعلى لسانه كلام يجتهد في انتزاعه، وأخيرا وفق فقال

- ألا خبرتني أيتها الأم (ماكلوار)

- وما عساي مخبرتك به؟

- ألا زلت ترفضين بيعي مزرعتك؟

- هذا أمر قد فرغت منه أيها المعلم (شيكو) فلم إقلاقي به مطلع كل صباح ومهبط كل ليل؟

- ولكني يا سيدتي وجدت حلا للمسألة أن رضيت به خرج كلانا راضياً بصفقته غير أسف ولا مغبون

- وما هو هذا الحل؟

تبيعينني أرضك ثم تحتفظين بحق استثمارها ما بقيت على قيد الأحياء، أفلا يرضيك هذا أيضا؟

فشغلت العجوز عن تقشير البطاطس، وراحت ترمي الرجل بنظر حاد عنيف تحت جفنين أجعدين. ثم قال الرجل مفسراً:

- إنك أن ترضي بهذه الصفقة تتسلمي في منتهى كل شهر مائة وخمسين فرنكا أحملها إليك في عربتي. أتتدبرين قولي؟ أتفقهين حديثي؟ مائة وخمسون فرنكا ثم لا تتبدل لك حال، ولا تتغير حياة؛ فستظلين في حقلك آمنة السرب رافهة العيش لا يدينك أحد، ولا تعملين أمراً، ولا تنصبين نفسك لعمل. إلا أن يكون استلام مائة وخمسون فرنكا، مطلع كل شهر، عملا شاقا يكد وينضب. قال هذا وطفق ينظر إليها فرحاً مستبشراً وعلى وجهه الطيبة والصلاح والمسكنة. . والعجوز تلحظه حذرة متيقظة. وقد كبر في وهمها أنه خادع لها وناصب لاصطياد مزرعتها أحبولة من ألفاظ منمقة مزورة. على أنها سألته في خبث:

إنك لتؤكد لي أن المزرعة ستظل في حوزتي فهل بلغ من أريحيتك أن تتبرع لامرأة عجوز بهذا الراتب الضخم دون فائدة تعود عليك؟ قال المعلم شيكو وقد أدرك ما تنطوي عليه غمزة العجوز.

لا أثقل عليك يا سيدتي في شأن الأرض، فلسوف تغلين خيراتها وتنتفعين بثمراتها ما مد الله في حياتك العزيزة. غير أني أرجوك أن تكتبي لي صكا شرعيا، يخولني حق امتلاكها بعد عمرك الطويل أن شاء الله. ولبثت المرأة وهي تصغي لقول المعلم مأخوذة دهشة حائرة لا تملك لرأيها إبراما ولا نقضا، ولا لموقفها من الرجل إجابة ولا رفضاً، وأخيرا قالت:

إنه لا يسعني رفض اقتراحك، فلو أنظرتني أسبوعا آخر أتبصر أمري وأروي رأيي. فأطاع المعلم (شيكو) ثم غادر الأم فرحاً فخوراً، كأنه الملك الجبار، استولى على بلد عدوه بالحديد والنار. . أما الأم (ماكلوار) فقد مضت أيامها ساهمة حالمة، لا يستقر جنبها على مضجع، ولا يزور جفنها سنة من نوم. ثم استشرت بها حميا التردد وعصفت نار الحيرة فكادت توطن نفسها على الرفض التام، لولا أن ذكرى المائة والخمسون فرنكا الطنانة البراقة، التي توشك أن تتدحرج في حجرها مطلع كل شهر، كانت تلهب رغبتها الخامدة وتذكي أطماعها الهامدة.

وأرادت أن تضع لترددها حدا، فمضت إلى الموثق الشرعي تنفض له جملة حالها وتستنصحه في أمرها. فأشار إليها بالاطمئنان ونصح لها بالرضا بحل المعلم (شيكو)، ولكنه اشترط عليها لذلك، أن يضاعف لها الراتب فيجعله ثلاثمائة بدلا من مائة وخمسين فرنكا لأن مزرعتها تساوي في أقل ثمن 160 ألف فرنك، ثم قال لها في أضعاف حديثه:

- لئن عمرت خمسة عشر عاما، فلن ترزئي صاحبك أكثر من أربعين ألف فرنك - فاستقلت جسم العجوز هزة من الطمع حين ذكرت الثلاثمائة فرنك التي سوف تحضى بها رأس كل شهر ولكنها على ذلك ظلت حذرة مبلبلة الخاطر، تنوشها الهواجس، وتتوزعها الوساوس فهي تتوقع حيناً مفاجأة مفجعة وآنا مكيدة مستورة، لا تبصرها ولكنها تحسها، ولبثت حتى المساء تناقش المسألة بكل حل، وتواجه المقترح من كل جهة. ثم. ثم لم تستقر على عزم ولم تتوجه جهة من الرأي

وجاءها المعلم شيكو يستطلع رأيها ويستعلم غرضها الأخير فأنهت إليه قرارها النهائي، بلزوم رفع مرتبها الشهري، وحين رأت هزة الإخفاق تركب أوصاله، ونار الغيظ تحتدم في عينيه، وبوادر الرفض تتوافد على لسانه، أظهرته على قائمة السنين التي يمكن أن تعيشها بعد هذه الصفقة فقالت:

- إني من الوهن ورقة العظم واشتعال الشيب بحيث لا أستطيع الانتقال إلى سريري إلا مستندة إلى الأذرع، أو محمولة على الظهور ومهما يمتد بي خيط الهرم، فإنه كخيط العنكبوت وشيك الانبتات سريع الانقطاع. وهل بعد الثلاثة والسبعين عاماً التي توقر كاهلي حياة ترجى أو عيش ينتظر؟ وقاطعها المعلم مغيظا فقال.

- إنها لمحاولة فاشلة منك يا سيدتي أن تصطنعي العجز وتتظاهري بانقطاع المنة. ثقي أن منجل الموت لا يعرف سبيله إلى شجرتك قبل أربعين سنة في أقل تقدير، وإني أراهن على أنك أنت التي ستتولين دفني، فما هذا الخوف والفزع من الموت؟

وتصرم عمر النهار في الجدل والنقاش والأخذ والرد، وجهد المعلم (شيكو) الجهد كله ليقنع العجوز بالنزول عن طلبها الجائر المرهق فما عاد بطائل. وحين لم يجد مندوحة من إجابتها رضي مكرهاً بدفع الثلاثمائة فرنك. . . وغيرت سنين ثلاث وصاحبتنا العجوز كالسروة العتيقة لا يزيدها المزق إلا صلابة وجلداً على الأيام، حتى يئس المعلم من موتها وخيل إليه أنه مرغم على دفع مرتبها الضخم نصف قرن أو يزيد، وان صفقته كانت هي الخاسرة المغبونة، وأنه لا بد موف على الخراب صائر إلى الإفلاس أن ظلت معاهدة الصداقة والود بين العجوز وعزرائيل متينة العرى.

كان يتردد على المرأة الفينة بعد الفينة بحجة السؤال عن نضوج الحنطة، أو الاستفسار عن موعد الحصاد؛ فكانت تستقبله في خبث، وفي قلبها الشماتة والتشفي، وفي معارف وجهها صورة الافتخار والزهو للدور المضحك المسلي الذي لعبته على مسرح بلاهته وغفلته. فكان يرتد سريعاً إلى عربته ويجمجم:

- وإذن فليس في نية هذه البهيمة أن تموت؟ فلم يكن يعرف لمشكله حلا ولا لعقدة أزمته فكاكا. فكانت تمر به ساعات يود فيها لو أهوى على عنق العجوز فخنقه، وروحها فأزهقه، مما في نفسه من الغيظ والحنق والموجدة، وظل زمناً يلتمس وجهة الحيلة للخلاص من طلعة العجوز المشؤومة. وأخيرا ظفر بما يرجو؛ فغدا عليها يوماً يطفر من البشر والسعادة، ويصفق بيديه من الفرح والمرح، وبعد أن ناقلها برهة حديث المجاملة والود قال:

- ألا قولي لي أيتها الأم ماكلوار فيم امتناعك عن زيارة منزلي حين مرورك على حانة (إيدي فيل)؟ أن الحديث فيه ليلذ ويمتع، وأنا هناك يا للأسف مقطوع الصلة من الصديق، منبت الوشيجة من القريب، لا يؤنس وحشتي زائر، ولا يمر علي عابر. فزوريني أن تكرمت وكلي ما طاب لك فلست مرزئك مالا ولا مكلفك دفع طعام أو شراب. زوريني ففي زيارتك تشيع البهجة في قلبي وينتشر السرور في داري

وفي الغد لم تكلفه الأم إعادة الاستزارة، فراحت إليه في عربتها، والشمس لم تغادر خدها الوردي، وحين بلغت الحانة ربطت حصان العربة في الاصطبل، ثم دخلت عليه طالبة الغداء الموعود.

لم يكد يصدق عينيه المعلم شيكو، وراح ينشط في خدمتها ويجتهد في مرضاتها، كأن أمامه سيدة نبيلة لا قروية بخيلة، ثم أخذ يفتن في تقديم فاخر الأطعمة والآكال وغريض اللحم من الطير المبهر، والدجاج المحمر، ولحم الخنزير المشوي، وأصناف من الخضار والفواكه والتوابل، ولكنها لم تصب من هذه الآكال الدسمة إلا ما يوافق معدتها العجوز التي اعتادت الاكتفاء بحساء اللحم الرقيق، أو قطع الخبز المغموسة بالزبد، وألح الرجل وعزم عليها. ولكنها لم تأكل مضغة ولم تشرب جرعة حتى القهوة امتنعت من تناولها. وأخيراً قال لها وهو يناولها قدحاً من (الكونياك):

- أو ترفضين أيضاً هذا القدح؟

- أما هذا فأقبله دون أن أقول لا. فرجت أركان الحانة بصوت المعلم يقول:

- (روزالي) أيتها العزيزة. احملي لنا كل فاخر معتق من الكونياك. وظهرت الخادمة تضم إلى صدرها زجاجة طويلة ممشوقة ازدانت فوهتها بطابع الكونياك الفاخر. فتناولها المعلم شيكو وأفرغ منها قدحين، ثم عاطى العجوز أحدهما قائلا:

- إنه لكنياك لذيذ شهير، أفلا تتذوقينه يا سيدتي؟

فتناولته الأم (ماكلوار) شاكرة وطفقت تتحساه جرعات صغيرات، وما أن فرغت من القدح الأول حتى أفرغ لها المعلم قدحاً ثانيا، فأعرضت عنه أولا ثم أكرها المضيف بالقول اللطيف والتجمل الظريف والنكتة المستملحة. وكان عازما على إردافه بثالث ورابع لولا أن عالنته برفضها وامتناعها

- ولكن هذا يا سيدتي ليس خمراً؛ أن هذا إلا حليب مصفى، أبتلع عشرة أقداح منه دون أن يتعتعني السكر أو تذهب بوقاري النشوة، لا يكاد يستقر في الجوف كالسكر المذاب حتى يتبخر في الجسم دون أني يجد طريقة إلى الرأس. وليس كمثله شيء لصحة الجسم وابتعاث النشاط. فدعا ذلك العجوز إلى أن اجترعت نصف الكأس الثالثة، ولم تجرؤ على استنفادها لأنها شعرت بفعل المسكر بأطرافها، وتلعاب الخمر بأعطافها. فأهرعت إلى عربتها ومضت. . وغدا عليها صاحبنا في عربته ذات الحصان الواحد وحين استقر بهما المجلس أخرج من جوف العربة برميلا صغيرا، فيه خمر الأمس، ثم جلسا يعيدان سيرة البارحة، ولما استقر في جوف كل منهما ثلاثة أقداح، غادرها المعلم قائلا:

- ما أراني بحاجة لأقول لك أن الخمر التي أبقيتها لك تكفيك مدة، فإذا فرغت منها فعندي لك اللذيذ المعتق لا أبخل عليك به، وكلما ألححت في الطلب ألح على السرور وطبت نفساً. .

وآب إليها بعد أيام أربعة، فألقاها على الباب معنية بتقطيع الخبز الذي تعده للحساء، فاقترب منها أنفاً لأنف وبدرها بتحية الصباح، فنفحته منها رائحة (الكحول) وملأت خياشيمه، هنالك أضاء وجهه بنور البشر والفوز ثم قال:

- ألا تقدمين إلي قدحا من الكونياك. .؟ وجلس الاثنان يعاقران الخمر ويشرب كل منهما نخب صاحبه. . ولم يطل الأمر بالأم (ماكلوار) حتى شاع عنها أنها تعاقر الخمرة متخيلة لنفسها وفي الحق كان الجيران يلقونها إما مستلقية أمام مطبخها أو ساحة دارها لا تعي، أو منطرحة في الطرق والشوارع لا تحس، فيحملونها إلى بيتها جثة لا حراك فيها ولا وعي. .

ولم يعد المعلم شيكو يتردد على بيتها، فكان يقول للجيرة راثيا:

- إنه لما يبعث الأسى أن تدمن هذه العجوز الشراب وهي في أرذل العمر، مع أن الخمر تعجل خطواتها إلى القبر

وفي الحق لقد وجدها أهل القرية ميتة على بساط الثلج صباح عيد الميلاد عقب سكرة إنكليزية أبلت فيها البلاء الحسن وورث المعلم (شيكو) أرضها كما خوله الصك، فكان يقول:

- لو لم تتلف العجوز البلهاء صحتها بسموم الخمر، لعاشت عشر سنين أخر!

ك. ح