مجلة الرسالة/العدد 99/لوكريسيا بورجيا
→ من آثار هوجو | مجلة الرسالة - العدد 99 لوكريسيا بورجيا [[مؤلف:|]] |
بين الفقه الإسلامي والروماني ← |
بتاريخ: 27 - 05 - 1935 |
1 - لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
عصر الأحياء - إحياء العلوم - وشرق الأنوار على ظلمات العصور الوسطى، وتفتح العبقرية العظيمة في مختلف ضروب النبوغ الإنساني: في العلوم والآداب والفنون؛ وعصر المعارك والتطورات السياسية والاجتماعية العظيمة؛ وعصر اضمحلال المشرق ونهوض المغرب؛ وذوي الحضارات الإسلامية الزاهرة الأوربي (الرينصانص) الذي ينبثق فجره في إيطاليا منذ القرن الرابع عشر، في تلك الجمهوريات والدول الصغيرة الزاهرة، التي تستطع تواريخها كالآلىء في حلك العصور الوسطى؛ ثم لا يلبث حتى يغمر معظم أمم الشمال والغرب.
ولكنه أيضاً عصر الانقلابات السياسية والاجتماعية العنيفة، والشهوات المضطرمة، والمؤامرات والدسائس المروعة؛ وعصر المعارك الدينية والفورات المذهبية، وطغيان الأحبار، وعصفت مجالس التحقيق؛ وإذا كان يبدو في إيطاليا من بعض النواحي في أسطع وأبهى ألوانه، فإنه يبدو من بعض نواحيه الأخرى في ألوان قاتمة، فيما يجرف المجتمع الإيطالي يومئذ من عوامل الفساد والانحلال؛ وغمر اللهو والفجور والترف، وتدهور معاني الفضيلة والحشمة والحياء، واضطرام نزعة العدوان والأجرام والشر، وعلى الأجمال في تغلب الغرائز والشهوات المادية على المثل الروحية العليا
كان المجتمع الإيطالي يومئذ، كالمجتمع الروماني في عصوره الأخيرة، ويسطع بأشعته عظمته الأخيرة، ويسطع في نفس الوقت بحياة المجون العاصف، والترف الناعم
في أواخر القرن الخامس عشر تألق في أفق ذلك المجتمع الإيطالي الزاهر، نجم أسرة جديدة طبعت تلك المرحلة من تأريخ رومة بطابعها الخالد، وأسبغت مدى حين على المجتمع الروماني آية من الفخامة والبهاء، ونثرت عليه ألواناً من المرح الصاخب، ولكنها بسطت عليه في نفس الوقت ريحاً من التوجس والخشوع والورع
تلك هي أسرة بورجيا التي اعتلى مؤسسها وعميدها ردريجو بورجيا عرش البابوية باسم اسكندر السادس، وأنشأ ولده الطاغية الدموي تشيزاري (سيزار) بالسيف والنار مملكة رومانية قصيرة المدى؛ وأثارت حياة أبنته الحسناء. لوكريسيا ثبتاً حافلاً من التواريخ والأساطير الشائقة
لوكريسيا (أو لوكريس) بورجيا! تلك الحسناء الفاتنة التي تحيطها الروايات المعاصرة أحياناً بألوان ساحرة من البهاء والفخامة، وأحياناً بألوان مثيرة من الإثم والفحش، وتصورها أحياناً ملكاً كريماً يسمو عن ذلك المجتمع الروماني الفياض بالدس والفجور والجريمة، وأحياناً بغياً سحيقة تنحط إلى أسفل درك من الإثم والرذيلة، هي نموذج لتلك الشخصيات النسوية الساحرة التي يثير جمالها وسحرها حولها نوعاً من الغموض والخفاء، فلا يستطيع التاريخ أن يقول فيها كلمته بعيدة عن مؤثرات الرواية الخيال
كانت لوكريسيا ابنة للكردينال ردريجو بروجيا من خليلته الرمانية روزا فانوزا. وكان ردريجو ينتمي إلى أسرة أسبانية نزحت قبل ذلك إلى إيطاليا وسمت إلى بعض الوظائف الكنسية الرفيعة، وتولى أحد أعضائها كرسي البابوية باسم اسكندر الثالث، ورقي ردريجو ولد أخيه إلى مرتبة الكردينال. وكانت فانوزا كانتاني فتاة حسناء من أسرة طيبة، وكانت زوجة لسيد يدعى دي كروشي، يشغل وظيفة في الديوان الرسولي فهام بها الكردنال ردرريجو، وأغضى كروشي عن تلك العلاقة الغرامية لما غمره به الكردينال من صنوف الرعاية والبذل. ورزق الكردينال من خليلته بأربعة أولاد هم: بيدرولويس الذي توفي حدثاً، وجوفاني (جان) وشيزاري (سيزار) ولوكريسيا، وجوفري. وكانت فانوزا تقيم مع أولادها في منزل يجاور قصر الكردينال؛ ولم تكن علائقهما سراً، بل كانت أمرا ذائعاً في المجتمع الروماني، حتى أن فانوزا كانت تدعي فانوزا بورجيا. وعهد الكردينال ردريجو بتربية أبنته لوكريسيا إلى ابنة عمه أدريانا دي ميلا أورسيني، وهي سيدة رفيعة المقام والخلال يثق بها أعظم ثقة؛ فبعثت بالطفلة إلى دير القديس سكستوس في وادي (الابنين) على مقربة من رومة؛ وتلقت لوكريسيا هنالك تربية دينية عميقة ودرست الإيطالية والأسبانية والفرنسية واللاتينية والرسم والموسيقى، وتلقت بالجملة تربية تليق بأميرة عظيمة. وفي سنة 1489، هجر الكردينال ردريجو خليلته فانوزا واستبدلها بفتاة رائعة الحسن تدعى جوليا فارنيسي؛ ورأى حرصاً عليها أن يزوجها، فزوجها بفتى يدعى أورسينوس وهو ابن لابن عمته أدريانا. وكانت لوكريسيا عندئذ في التاسعة من عمرها - لأنها ولدت سنة1480 - وبعد عامين فقط رأى والدها أن يزوجها، وعقدت خطبتها على فتى نبيل أسباني يدعى الدون شيروبان؛ ثم ألغيت هذه الخطبة بعد بضعة أشهر فقط، وعقدت خطبة لوكريسيا على نبيل أسباني آخر يدعى الدون جسبارو، وذلك في إبريل سنة 1492 وكانت لوكريسيا عندئذ في الثانية عشر، وكان خطيبها في الخامسة عشرة.
ولم تمضِ سوى أشهر قلائل حتى وقع حادث عظيم في حياة ردريجو بورجيا. ذلك أنه في ليله 11 أغطس سنة 1492، أنتخب لعرش البابوية، وتولاه باسم اسكندر السادس؛ وكان عندئذ في الحادية والستين.
وكان اسكندر السادس من أعظم الأحبار الذين تولوا كرسي القديس بطرس؛ وكان رجلاً وافر الذكاء والعزم، وافر الدهاء والجرأة، قوى الشكيمة، مقداماً لا يحجم عن وسيلة لتحقيق مشاريعه. وكان يعشق حياة المجون واللهو ويشغف بالمرح الخليع، ويهيم رغم سنة بالنساء الحسان، ويعيش في بذخ طائل.
وكانت مآدبه وحفلاته الشائقة من أعظم ظواهر الحياة الرومانية يومئذ، ولكنه كان رغم بذخه ومجونه وخلاعته يقبض على مصاير الكنيسة والبابوية بيد من حديد، ويوجهها طبق أرادته، ويأخذ بقسط وافر في مجرى الحوادث السياسية العظيمة التي كانت تجوزها الدول الإيطالية يومئذ؛ وكان يقرن مصاير الكنيسة بمصاير أسرته، ويعمل لمجد أسرته، وأولاده، ما استطاع سبيلاً، وبعد ابنه الأكبر شيزاري لمستقبل عظيم باهر؛ وقد ترك لنا الكردينال دي فتربو زميل اسكندر السادس ومعاصره عنه وعن مجتمع عصره تلك الصورة القوية الآتية:
(كان اسكندر ذا ذكاء خارق؛ وكان بارعاً، حازماً، نشيطاً ثاقب النظر، ولم يعمل أحد من قبل قط بمثل براعته، ولم يقنع بمثل صرامته؛ أو يقاوم بمثل ثباته. وكان يبدو عظيما في كلُّ شيء، في تفكيره وفي كلامه وفي عمله وعزمه؛ ولو تفتحت المواهب التي يتمتع بها، ولم تخنقها رذائلة العديدة، لكان أميراً وافر العظمة، وكان يخيل لمن يشهده في القول أو العمل أنه لم يكن ينقصه شيء ليقود العالم؛ فقد كان دائماً على أهبة لأن يحرم نفسه متعة الراحة، وكان يسرف في ملذاته، ولكنها لم تحل مطلقاً دون حملة عبء الشئون العامة. بيد أنا لا نستطيع رغم اتصافه بهذه الخلال أن نقول إن عهده امتاز بيوم سعيد؛ ظلمات وليل عميقة. ولنضرب صفحاً عن هذه المآسي المنزلية المروعة، ولكن الاضطراب في الأراضي الكنسية لم يكن أشد وأخطر، ولم يكن السطو أكثر، والقتل والعيث في الطرق العامة أروع، ولم تكن طرق السفر أخطر، ولم تشهد رومة من قبل قط أياماً أسوأ ساد فيها الشر والجريمة واللصوص ولم يكن ثمة حق ولا حرية. كان المال والقوة والفجور صاحبة السلطان والحول؛ ولم تتحرر إيطاليا النير الأجنبي إلا يوم انهار ذلك الطغيان البربري).
كان اسكندر السادس أباً رحيماً يحب أولاده حباً جماً؛ وكان أول عمل عائلي قام به إثر ارتقائه عرش البابوية، هو إلغاء خطبة ابنته لوكريسيا لدون جسبارو؛ ذلك أنه لم يبقِ بعد قريناً كفؤاً لابنة سيد الكنيسة وخليفة النصرانية؛ وأرغم دون جسبارو على التنازل على الخطبة نظير مبلغ من المال، وطرحت مسألة زواج لوكريسيا على بساط البحث كرة أخرى. وهنا تدخلت العوامل السياسية التي أخذت تملي على اسكندر السادس خططه ومشاريعه في تقرير مصير ابنته؛ ذلك أن صديقه الكردينال اسكانيو سفورزا الذي كان أكبر عون له على ارتقاء عرش البابوية تسعى لعقد التحالف بين البابا بين أخيه لودفيكو سفوزرا طاغية ميلان ضد آل أورسيني أقوى أمراء رومة الإقطاعيين، وحماتهم آل أرجوان ملوك نابولي، ورأى توطيداً لهذا التحالف أن تزوج لوكريسيا من ابن أخيه جان سفورزا أمير بيزارو؛ وأثمر سعي الكردينال، وعقد الزواج في رومة في أبريل سنة 1493؛ وكانت لوكريسيا يومئذ في نحو الثالثة عشرة، ولكن سجل في عقد الزواج أنها بلغت السن المرغوبة، وكان جان سفورزا في السادسة والعشرين.
واحتفل بزفاف لوكريسيا في قصر الفاتيكان في 12 يونيه احتفالاً فخماً شهده أكابر الأحبار والأمراء والسفراء؛ ومثل جان سفورزا على يد وكيله المختار طبقاً لرسوم العصر؛ وفي المساء أقيمت حفلة شائقة في قصر بلفيدير، تحت إشراف جوليا فارنسي خليلة البابا ونخبة من سيدات رومة، وشهدها اسكندر السادس وأعضاء أسرته. ويصف البابا شاهد عيان لهذا الحفل في قوله: (كان عظيم القامة، مورد الوجه، أسود العينين، يفيض صحة ظافرة، تمكنه من تحمل أعباء المنصب، وشؤون الدولة وعصف الملاذ، وكان دائماً متألقاً ظريفاً رقيقاً). أما لوكريسيا بورجيا فقد كانت عندئذ فتاة صغيرة القد، وافرة الحسن، شقراء تسطع كالذهب، خفيفة الروح والخلال، دائمة المرح، يزيد في سحرها الطبيعي القاهر، مزحة من الحياء ومحيا عذري، أو كما يصفه بعض الرواة المعاصرين محيا كاثوليكي، هو مظهر تربيتها الدينية، وحياتها في الدير، وتفيض نظراتها رقة ووقارً).
وأفرد البابا لابنته قصر سان مارتينللو المجاور للفاتيكان، وعين لها خليلته جوليا فارنيسي وصيفة شرف تقيم معها، وكان فرق نهائياً بينها وبين زوجها؛ وكانت كلتاهما آية ساطعة من الجمال والسحر؛ واستمرت لوكريسيا مقيمة في رومة حتى صيف سنة 1494، وعندئذ حل برومة الملاريا، فبادرت لوكريسيا إلى مغادرة رومة مع زوجها إلى قصره في مدينة بيزارو تصحبها في هذه الرحلة والدتها فانوزا، وجوليا فارنيسي، وعمتها أدريانا اورسيني، فوصل الركب إلى بيزارو في 8 يوليه. وكانت بيزارو مدينة متواضعة، ولكن بديعة الموقع تشرف على وديان نضرة على مقربة من الأدرياتيك؛ وكانت إمارة متواضعة لا تقاس بإمارات فيرار، وأربينو، ومانتوا وغيرها من الإمارات الزاهرة في ذلك لعصر؛ ولكن لوكريسيا كانت ذهناً رضياً متواضعاً، فتذوقت حياتها الجديدة بسرعة، وقضت في بيرازو زهاء عام كامل.
ثم استدعتها بواعث السرة والسياسة إلى رومة، فعادت إليها مع زوجها بمناسبة زواج أخيها الأصغر جوفري من دوناسانسيا وهي ابنة غير شرعية لألفوسو الأرجوني ملك نابل (نابولي)، وأقامت لوكريسيا مع زوجها إلى جانب أبيها واخوتها في رومة؛ وكان اسكندر السادس يحرص على أن يستبقي أولاده حوله في المدينة الخالدة؛ فكان ولده جان أو دوق جانديا يقيم معه في قصر الفاتيكان، وأخوة شيزاري في حصن سانت انجلو المجاور للفاتيكان، وأخوة جوفري على مقربة منه؛ وتقيم لوكريسيا وزوجها في قصر آخر مجاور للفاتيكان.
وغدت لوكريسيا وزوجة أخيها سانسيا زينة الحفلات الرسمية والاجتماعية في الفاتيكان، وكانت سانسيا فتاة وافرة الحسن، وافرة الجرأة، عنيفة الشهوات، يقال إنها كانت تصطفى العشاق من الأمراء والكرادلة. وأما لوكريسيا فكانت متحفظة، ولكنها كانت ترغم بحكم الظروف على خوض هذه لحياة الباهرة المنحلة التي كانت تسود قصر الفاتيكان؛ وكانت أداة مسيرة في يد أبيها البابا وأخيها الطاغية شيزاري؛ ولكنها كانت دائماً فياضة المرح فياضة البهجة، وكانت روح هذه الحفلات الباذخة الصاخبة التي كان يعشقها البابا، والتي كانت دائماً مثار الأقاويل والظنون.
وكان يسود ذلك المجتمع الروماني الرفيع يومئذ نوع من الفساد الشامل، وتغلب فيه حياة الفجور والمرح؛ وما قولك بمجتمع يقدم فيه سيده وزعيمه الروحي - البابا - أسوأ المثل الأخلاقية، فيصطفى الخليلات جهاراً، وينتزع الزوجات من أزواجهن؛ ويقتني فيه شيوخ الدين من كرادلة وأساقفة الخليلات جهاراً، وتنتقل فيه الزوجات الشرعيات، زوجات الكبراء والأمراء بين أحضان العشاق من مختلف الطبقات، ويغمره ظمأ التهتك والخلاعة، ويغفل في حفلاته وفي مرحه ومجونه كلُّ مظاهر الحشمة والحياء؟ هكذا يصف لنا بوركات مجتمع رومة في عصر آل بورجيا. وقد كان بوركات يومئذ مدير التشريفات البابوية، وكان شاهد عيان لكثير من الحوادث والمظاهر ولظروف التي امتاز بها العصر؛ وقد ترك لنا عن حوادث عصره ومجتمع عصره مذكرات نفسية سنعود إليها من آن لآخر.
كانت لوكريسيا بورجيا من آلهة هذا المجتمع؛ وكان يثور حولها من الريب والظنون ما يثور عادة حول (آلهة) للجمال والحب. هل كانت هذه الفتاة الشقراء الفاتنة التي لم تجاوز السابعة عشرة من عمرها كما تصورها الرواية المعاصرة بغياً سافلة تتقلب بين أذرع عشاق لا حصر لهم؛ بل تتقلب بين ذراعي أبيها - البابا - وبين أذرع إخوتها؟ أم ظلمتها الرواية وبالغت في اتهامها اعتماداً على ظواهر خادعة؟ هذا ما سنحاول أن نناقشه في البحث.
للبحث بقية
محمد عبد لله عنان المحامي