مجلة الرسالة/العدد 99/بين الفقه الإسلامي والروماني
→ لوكريسيا بورجيا | مجلة الرسالة - العدد 99 بين الفقه الإسلامي والروماني [[مؤلف:|]] |
الجمال في الشعر والحب ← |
بتاريخ: 27 - 05 - 1935 |
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
رئيس المجمع العلمي العربي
. . . وقع نظري على ما كتب أخيراً في مجلة (الرسالة) بشأن علاقة الشرع الإسلامي بالشرع الروماني، وقد كان بعض الفضلاء من الشبان المسيحيين حملة الشهادات الحقوقية العالية - منذ بضع سنوات - كتب في (مجلة القضائية) تصدر في منطقة سورية سمتها السياسة (منطقة العلويين) وهي متصرفية اللاذقية - كتب في هذا الموضوع كتابة خشنة تدل على أن القوم يريدون أن يجردوا الإسلام ونشأته من المزايا القدسية. وقد رددت عليه يومئذ بهذا المقال، وسلكت في الرد مسلكاً ربما أعجب الباحثين لديكم.
المغربي.
لقيني بعض الأصدقاء في سوق الحميدية فجذبني من يدي إلى مخزنه وقال: تعال أنظر.
وإذا هو يريني العدد 22 من مجلة (الأبحاث القضائية في دولة العلويين).
وإذا في فاتحتها مقال السيد ميشيل بولص حامل رتبة العالمية (الدكتوراه) في الحقوق، وإذا موضوع المقال (الوكالة الدورية) وإذا نتيجة الموضوع - كما لخصها كاتب المقال - ما نصه:
(إن الوكالة الدورية إنما هي طريقة رومانية. وشكل هذه الوكالة وأصولها وكيفية استعمالها هي هي عند العرب المسلمين كما كانت عند البيزنطيين. (السُّنة) في الإسلام ما هي إلا مجموعة القوانين الرومانية في عصر الفتح العربي. وإن المبدأ الساري منذ الأجيال بين علماء الغرب والشرق بأن الشرع الإسلامي مستقل تمام الاستقلال عن بقية الشرائع اللاتينية - ليس إلا أسطورة لا أساس لها!!! والأحاديث الإسلامية مختلقة اختلاقاً بدليل أن الأمام الأعظم أب حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً من أربعمائة ألف حديث) - أهـ.
هذا ما صرح به الأستاذ ميشيل بولص في بلادنا العربية وبلغتنا العربية. فكيف ترونه يقول لو أراد أن يكتب عن الشرع الإسلامي في بلاد أجنبية بلغة أجنبية؟
هذا ما قاله عن السنة النبوية بين ظهر أني قوم توفروا من علوم الدنيا على حفظ تلك (السنة) والاستيثاق من صحة أسانيدها، والتقرب إلى الله بخدمتها. ثم بعد هذا كله يقول الأستاذ ميشيل عنهم أنهم لم يعلموا شيئاً سوى أنهم أوجدوا للعالم في السنة نسخة ثانية من مجموعة القوانين الرومانية. فكيف تكون جرأته أو أمانته في النقل إذا أراد أن يكتب لنا مقالاً في علم يجهله المسلمون سكان هذه البلاد كلُّ الجهل؟؟ يقول بعضهم: ولكن الكاتب إنما كتب في مجلة تصدر في بلاد العلويين للعلويين. وأوطناه! كأن بلاد العلويين في عالم المريخ وليست جزءاً من وطننا؟
وكأننا لسنا على مقربة من بلاد العلويين نسمع ونرى؟ وكأنه لا يوجد في بلاد العلويين فقهاء راسخون، وحقوقيون متضلعون؟
كأن العلويين إنما سموا علويين من أجل أن يطعنوا في كرامتهم، ويساوموا على إسلاميتهم!
وأية كرامة تبقى إذا قيل لهم: إن (علياً) الذي اشتق اسمكم من اسمه الكريم ما كان يقاتل ويناضل لأجل تأييد سنة الإسلام، وإنما كان يقاتل ويناضل من أجل أن تأييد سنة (يوستينانيوس) ملك الرومان؟
وبعد، فإذا اقتضت حالة الرومانية الاجتماعية أن يستندوا في بعض معاملاتهم على (الوكالة الدورية) فقرروا أحكامها في قوانينهم، ألا يوجد في الاجتماع الإسلامي حالة تشبه تلك الحالة تستدعي تقرير أحكام الوكالة الدولية في فقه المسلمين أيضاً؟
لا جرم أن طبائع الأمم والشعوب وأخلاقها وأطوارها مترشحة من ينبوع (الإنسانية) الأعظم.
والإنسانية مهما اختلف أبناؤها في ظواهر الاجتماع، يبقون متحدين في جواهر الأخلاق والعادات والطباع.
والشرائع سواء أكانت سماوية أم وضعية إنما تستند إلى هذه الأخلاق والعادات، فكثيراً ما تشَّابه بين الأمم بسبب تشابه الأمم نفسها فيما ذكرنا من الأخلاق والعادات.
فإذا وجدنا في الشريعة الإسلامية أحكاماً تشبه أحكاماً مقررة في الشريعة اللاتينية مثل (إن البيع يتم بإيجاب وقبول) لا ينبغي لنا أن نتسرع في الحكم بأن الشريعة الأولى اقتبست من الشريعة الثانية مباشرة، ولا سيما إذا كان هناك أسباب جوهرية تدل على عدم إمكان هذا الاقتباس.
إذ كيف يتصوّر من أئمة الإسلام الذين حرموا التصوير ابتعاداً عن الوثنية - أن يقتبسوا أحكاماً مدنية من شريعة وثنية، وهم يعتقدون أن العمل بهذه الأحكام المدنية عبادة يتقرب إلى الله بها كما يتقرب إليه بممارسة الصوم والصلاة!
خلفاء الإسلام إنما رحبوا بالفلسفة اليونانية لأن نظرياتها لا رائحة للديانة الوثنية فيها. أما الآداب اليونانية والميثولوجيا والتمثيل والإلياذة والفنون الجميلة فلم يجرؤ الخلفاء على ترجمتها إلى لغة الإسلام، وذلك لأنها مشبعة بروح الوثنية، ومتشربة بروح عقيدة تعدد الآلهة. فهل يعقل أن يجرؤ أئمة الإسلام الأتقياء الورعون على انتحال شرائع وثنية تتعلق بالحلال والحرام، ويدخلونها في فقه الإسلام، وهم يعتقدون أن كلُّ حكم شرعي لا يستمد من محمد (ص) وقرآنه وسُّنته باطل بل كفر.
كلُّ إمام من الأئمة الأربعة كلُّ يبرر نفسه رافعاً صوته أمام الجماهير من المسلمين بأن مذهبه وسنده في استنباط الأحكام إنما هو القرآن وحديث النبي (ص) الذي ثبتت صحته، وإلا فأنه يقيس الحكم على حكم آخر مستنبط من حديث يطمئن إليه قلبه
بهذه الصورة من الإخلاص والورع والتمسك بتعاليم محمد (ص) حاز الأئمة ثقة المسلمين كلهم، فوقروهم وعظموهم وقلدوا مذاهبهم ولم يعولوا على غيرها من لمذاهب
وقد بلغ الورع في هؤلاء الأئمة حداً لم يقع مثله في أمة من الأمم. حتى أن أبا حنيفة سجن وضرب ولم يتول القضاء مذ بلغه أن نبيه قال: (من تولى لقضاء فكأنما ذُبح بغير سكين)؛ وأحمد بن حنبل لم يأكل البطيخ طول عمره لأنه لم يبلغه كيف كان نبيه (ص) يأكله: أيقطعه بالسكين ويتناوله قطعة قطعة، أم يمسك الحزة بيده ثم يتناولها بأسنانه؟
أئمة هذا ورعهم وتشددهم في تقليد نبيهم في الأشياء المباحة؛ أيتصور في العقل يحيدوا عن شريعته إلى الشريعة الوثنية، شريعة الإمبراطور الروماني (يوستينانيوس) فيستندون إليها بتقرير أحكام الحلال والحرام التي هي الطريق الوحيد إلى الجنة والنار؟ وقول الأستاذ ميشيل أن أبا حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً ليس معناه ما ظن. وإنما المعنى أن هذه الأحاديث القليلة هي التي بلغت في الصحة والثبوت ما يقرب من درجة القرآن. وإلا فأن بقية الأحاديث الأخرى لها درجتها. وبحسب هذه الدرجة تستنبط منها أحكام ليست في وجوب العمل بها كوجوب العمل بأحكام الأحاديث التي ثبتت صحتها عند الإمام أبي حنيفة، بدليل أن تلاميذ هذا الإمام (أبو يوسف ومحمد وزفر) الذين دونوا فقهه وشرحوا مذهبه كانوا يعتمدون في استنباطهم على أحاديث أخرى غير القليل الذي أعترف به أبو حنيفة بعد أن يعرضونها على قواعد فن (مصطلح الحديث). على أنه لو فرض أن أبا حنيفة لم يعترف إلا بأحاديث قليلة لكان ذلك من أدلة ورعه وحرصه على متابعة نبيه (ص)، فهو يخشى أن يعمل بحديث لا يثق بصدوره عن النبي، وهذا هو السبب في إنكاره الكثير من الأحاديث، فهو قد أنكرها تورعاً وخشية ألا يكون تابع النبي (ص)، ولم ينكرها استهتاراً وجنوحاً إلى شريعة الرومانيين الوثنيين
أحاديث مروية بالسند: فلان التابعي الجليل فلان الصحابي الكريم، ولكلُّ واحد منهم ترجمته وسيرته، يتورع أبو حنيفة فلا يثق ببعض ما روي عنهم، ثم هو بعد ذلك يجيز لنفسه العمل برواية بطرس عن فيلبوس عن نيقولاوس عن الملك (يوستينانيوس)!!! سبحانك هذا بهتان عظيم!
لما فتح المسلمون البلاد التي كانت خاضعة للرومانيين وجدوا لأهلها عادات راسخة، وأحكاماً متوارثة، فأقروهم عليها، وبعضها ينطوي تحت أصول الإسلام الثابتة في القرآن، وعمل النبي (ص) والصحابة: مثل (العادة محكمة) (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)، (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)، (استعمال الناس حجة يجب العمل بها)، (التعيين بالعرف كالتعيين بالنص) فإذا أعتبر أئمة الإسلام تلك الأحكام اللاتينية التي يعمل بها سكان تلك البلاد وأقروهم عليها، ثم دونوها أو دونوا نظاهرها في كتبهم الفقهية، لا يكون ذلك منهم اعترافاً بشرائع اللاتين وإذعاناً لها، وإنما هو منهم عمل بأحكام مستندة إلى القواعد الإسلامية وسُّنة النبي (ص).
وهم كما دونوا في كتبهم الفقهية أحكاماً تشبه الأحكام الرومانية دونوا أيضاً أحكاماً تشبه أحكام شرائع الفرس والترك والتتار الطورانيين وغيرهم من الأمم التي فتحوا بلادها.
فمن جملة القواعد في مجلة الأحكام الشرعية:
(إن الحاجة سواء كانت عمومية أو خصوصية تنزل بمنزلة الضرورة، ومن هذا القبيل تجويز (البيع بالوفاء) فإنه لما كثرت الديون على أهالي بخارى جوزت هذه المعاملة لداعي الاحتياج) أ. هـ. فهل يقوم أحد من الكماليين فيزعم أن (البيع بالوفاء) شريعة طورانية عمل بها أئمة الإسلام كما عملوا (بالوكالة الدورية) التي هي شريعة رومانية في رأي الأستاذ ميشيل!
إذا رأينا الشاعر العربي (معروف الرصافي) وافق (كيبلنغ) الشاعر الإنكليزي في بعض معانيه الشعرية المبتكرة فهل يسوغ لنا أن نقول إن ديوان (معروف) هو نفس ديوان (كيبلنغ) مع أن شاعرنا لا يعرف الإنكليزية، ولا عاش في وسط إنكليزي ولا اجتمع بكيبلنغ ولا برواة شعره، وإنما هو توارد الخواطر.
ونحن إذا راجعنا تاريخ حياة أئمة الإسلام نراهم قد عاشوا في محيط إسلامي محض: الكوفة، وبغداد، ومكة، والمدينة؛ نعم سكن (الشافعي) مصر ودفن فيها، ولكنه جاءها قبل وفاته بنحو خمس سنين.
فأئمتنا ما عرفوا لغة لاتينية قط، ولم يدرسوا فقهاً لاتينياً قط، ولم يعاشروا مشترعين لاتينين قط، ولو لوحظ من أحدهم شيء من ذلك لسقط اعتباره وتحاماه المسلمون، ولما كان إماماً وأحب الاتباع.
ومن العجب قول الأستاذ ميشيل إن (السُّنة) في الإسلام ما هي إلا مجموعة القوانين الرومانية؛ إذن محمد (ص) عضواً في مجلس العشرة الذين جمعهم الملك (بوستينانيوس) تحت رياسة الفقيهة الروماني (تريبونيان) فقام في الحجاز وانتحل وما تعلمه من القوانين الرومانية التي وضعها المجلس الروماني وبشر بها المسلمين!!!
ذكرت بهذا ما كنت سمعته من القوماندان الفرنسي (ميلانجو) مدير مدرسة الترجمة في دمشق (وقد توفي) - قال لي: إن بعض أهل بلادنا (يعني الأوربيين) يتحدثون أن (محمداً) كان أسقفاً مسيحياً، فطمحت نفسه إلى رتبة كهنوتية فوق رتبته، فغضب عليه البابا فحرمه، فادعى النبوة نكاية به!!!
قال لي المرحوم ميلانجو هذا القول مستغرباً مستحيياً بعد أن عاشر فضلاء المسلمين في الجزائر ودمشق، وفهم حقائق كثيرة عن الديانة الإسلامية جعلته على قاب قوسين من اعتناقها.
والأعجب من قول الأستاذ ميشيل السبق قوله الآخر: (إن الأحاديث الإسلامية مختلقة اختلاقاً)، أي إنها كلها مكذوبة على النبي لكن أيصح من حضرته هذا الحكم الجائر على الأحاديث لوجود طائفة من الأحاديث موضوعة مكذوبة؟
إن دعواه هذه كدعوى أحد المسلمين أن الأناجيل الأربعة باطلة لا أصل لها، لأن هناك أناجيل وهي المسماة (أبو كريف) موضوعة لا أصل لها!!
والعجب الثالث، (وهو لعمري مثار للدهشة أيضاً) قول الأستاذ ميشيل:
(إن المبدأ الساري منذ الأجيال بين علماء الغرب والشرق بأن الشرع الإسلامي مستقيم تمام الاستقلال عن بقية الشرائع اللاتينية، ليس إلا أسطورة)!!
وإذن قام الأستاذ ميشيل في (وجه علماء الغرب والشرق) يفهمهم حقيقة يجهلونها، ويبرهن على كذب أسطورة يزعمونها وهي أن شريعة الإسلام شريعة لاتينية!
أدرك هذا هو وحده وجهله علماء الشرق والغرب!! وإذن يحق لي أن أنسحب من ميدان البحث وأترك الكلام فيه لعلماء الشرق والغرب، فلعل فيهم من يقدر بزلاقة لسانه ونصاعة بيانه أن يقنع حضرة الأستاذ ويفهمه خطأه.
أإلى هذا الحد يجهلنا ابن وطننا الأستاذ ميشيل بولص ويجهل تاريخنا الديني؟
أيصح لأبناء أمة واحدة، في بقعة واحدة، أن يجهل بعضهم بعضاً كلُّ هذا الجهل؟
وأخيراً أقول: إن ابن وطننا الأستاذ ميشيل لم يسيء إلى الأمة الإسلامية وكرامتها، بقدر ما أساء إلى (الدكتوراه) وشهادتها.
عبد القادر المغربي