مجلة الرسالة/العدد 988/براعم شعراء الشباب
→ فضل المدنية العربية على المدنية الغربية | مجلة الرسالة - العدد 988 براعم شعراء الشباب [[مؤلف:|]] |
أبو العتاهية ← |
بتاريخ: 09 - 06 - 1952 |
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
في فصل الربيع من كل عام تأخذ الأرض زخرفها، وتلبس أجمل ملابسها المزركشة الملونة بأجمل الألوان، وتتجلى مفاتن الطبيعة في أبهج صورها البهية على ضفاف الترع والجداول وشواطئ والأنهار، بأفواف الأزهار والنوار والرياحين، وفي بطون الوديان وعلى ظهور الكثبان وبين جنبات الحقول والبساتين
وتبدأ الأشجار تروي قصة الخصب والري والنضارة، وتؤدي دورها الخالد المتجدد على مسرح الحياة، تكتسي بعد عرى، وترتوي بعد ظمأ، وتلين بعد جفاف طويل. كل يوم يمضي تبرز إلى الوجود براعم جديدة وليدة، تبدو على جوانب الأغصان، وتتفتح على أشعة الشمس، وتنعقد عليها أكاليل الندى كل صباح
هذه البراعم الجديدة الوليدة في الحدائق والبساتين هي براعم شعراء الشباب في حديقة الشعر والشعور
تظل براعم الأشجار تتجدد وتتعدد وتنمو في كل ربيع، بعضها يبلغ منتهاه ويصل إلى مداه في النمو الدائم عاماً بعد عام، وبعضها يدركه العطب أو يلحقه الجفاف فيذوي وهو غصن صغير
وهكذا براعم شعراء الشباب!
بعضهم تنمو قريحته وتزهو عبقريته عاماً بعد عام، فيتوالى إنتاجه ويتضح منهاجه وتصفو ملكته من الصنعة أو الزيف أو التقليد، وبعضهم يدركه العجز أو الوهن فيظل كالفاكهة الفجة، هي على الشجرة فاكهة بين الفواكه، ولكنها لا تروق ولا تشوق ولا تذاق!
في النصف قرن الأخير، شهدت مصر خاصة، وشهد العالم العربي عامة، بل شهد العالم في كل قطر ومصر - نهضة أدبية شاملة، في كل لون من ألوان الأدب، وفي كل عصر من عناصر الفن؛ كانت رد فعل طبيعي لما ران على العقول والمواهب والملكات، من ظلمات العصور الغابرة: عصور الظلم والنهب والاستبداد في الحكم، وعصور الجهل والجدب والتقليد في الآداب والعلوم والفنون
وكان حظ مصر عظيما موفورا في الحالين: كان حظها في عصر المماليك وقبله بقلي بضع محسنات لفظية سخيفة يسعى إليها الشاعر سعيا واضحا مكشوفا كاللص الأبله يسرق الناس في رائعة النهار! فإذا تجاوز المحسنات كان همه السطو على المعاني القديمة أو تقليد كبار الشعراء في عصور الحضارة السالفة، وكان حظ مصر عظيما في النهضة الأدبية الأخيرة المباركة في كل وجه من وجوه الثقافة، ولا سيما الشعر، فقد قطعت فيه شوطا بعيدا وأحرزت فيه قصب السبق في حلبة الفنون
في الخمسين سنة الأخيرة، منذ وفاة محمود سامي البارودي، أول طلائع النهضة الحديثة، إلى الآن - لمعت في سماء الشعر شموس وأقمار وكواكب متعددة، توشك أن تكون خمسين شاعراً، وهو عدد - بحمد الله - ليس بقليل!
ربما يخطر في بالك الآن، هذا المثل العامي الظريف: (العدد في الليمون. . .!) وربما تستغرق في الفكاهة، أو تسرف في التجني، فتقول: إن خمسة فقط من هؤلاء الخمسين هم الخالدون الذين يعتد بهم ويعول عليهم، وتحفظ أشعارهم على أنها نماذج رائعة للخيال المنتج والتعبير الجميل، ومناهج مبتكرة للشعور الصادق والفن الأصيل. وأن هؤلاء الخمسة كالصلوات المكتوبة. خمس في العدد، وخمسون في الأجر والثواب!
فدعني أسألك هذا السؤال: من هؤلاء الخمسة الشعراء؟ فتسرع بالجواب: البارودي وصبري وشوقي وحافظ ومطران، فأقول: هؤلاء جميعا في فراديس الجنان، فما بالك بالأحياء؟ فتقول: العقاد وناجي ورامي وعزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي، فأستدرك قائلا: ولكن في الطائفة الأولى أعلاماً يجب أن تذكر بالحمد والثناء. حفني ناصف وولي الدين يكن ومحمد عبد المطلب وأحمد محرم وعلي الجارم وزكي مبارك وعلي محمود طه وعبد الحميد الديب وفخري أبو السعود، وفي الطائفة الأخيرة عبد الرحمن شكري ومحمد الأسمر وصالح جودت ومحمد مفيد الشوباشي وبعد اللطيف النشار. . فتصيح من فرط الغضب أو من فرط الدهشة، أو من ملل السرد على الأصح: آمنا وصدقنا يا أخي!! عشرون شاعراً أو ثلاثون. . .
كم شاعراً من هؤلاء جميعا يستحق الدراسة، ويحتاج إلى البحث والاستقصاء؟ - جميعهم بلا استثناء. .!
نعم جميع هؤلاء الشعراء في حاجة ماسة إلى دراسة جديدة تبتعد عن الغلو والملق والمجاملة، وعن التجني وسوء الظن والزراية. وقد كتبت فيهم جميعا كتابات أكثرها إن لم يكن جميعها لا يخلو من عيب من هذه العيوب
وليس هؤلاء الشعراء وحدهم في حاجة إلى أمثال هذه الأبحاث، بل إن هناك من هم أحق منهم بهذه الدراسات وأولى بالنظر والتعريف. . . هؤلاء هم شعراء الشباب
ما أحوج شعراء الشباب جميعا إلى دراسات منظمة وأبحاث مستفيضة في اتجاهاتهم الفنية ومذاهبهم الشعرية وألوانهم المختلفة في الشعور والتعبير، وما اشد حاجة هذه البراعم الغضة البضة في حديقة الشعر إلى من يتولاها بالري والتشذيب وينير لها السبل. في الصفوف الخلفية مواهب وقرائح وعبقريات ومبعثرة، أكثرها مع الأسف مدفون في التراب، لولا ما يتنفس به بعضهم حينا بعد حين، في الهواء الطلق والجو الفسيح ولو أتيحت الفرصة المناسبة لكثير من براعم شعراء الشباب لكان لنا طبقة جديدة وجبهة قوية تتجه بالشعر إلى أسمى المناهج الحديثة، وتصل بالفن إلى أعلى مراتب الخلود
وإذا كانت هذه البراعم الغضة في حاجة إلى النقد والتمحيص فلكي ننوه بها ونشد أزرها ونشجعها على السير الطويل في طريق الشعر بخطى راسخة وبجهاد لا يلين، بدقة وفطنة وإحكام؛ حتى لا تتكرر المأساة من جديد. . . مأساة التخبط والتقليد
لو أن إسماعيل صبري أخلص النصح لشوقي، وزين له في نشأته الأدبية اعتماده على نفسه، فنبت على ساقه وغاص إلى أعماقه، وعبر عن نفسه ورأيه وشعوره لكان لنا في شوقي (أمير الشعراء) غير الذي كان. . .!
ولو أن شوقي رسم الطريق أمام رامي، فحبب إليه الجزالة والرصانة والفحولة - لكان رامي شاعر الشباب الدائم ولو جاوز التسعين. . .!
ولو أن مصطفى علي عبد الرحمن، اغترف من بحر رامي، ونسج على منواله في الشعر الغنائي مع تعمق ورسوخ لرق شعره وراق!
ومن ناحية أخرى لولا أن العقاد آثر ابن الرومي كل هذا الإيثار، وأحب مذهبه الشعري كل هذا الحب - لما جنى ابن الرومي على شعر العقاد، وكاد يجعل بعضه سراديب عقلية وفكرية ينقصها نور العاطفة المشبوبة في شاعر كبير كالعقاد. .!
وكذلك ولولا أن سيد قطب وأحمد مخيمر والعوضي الوكيل هاموا زمناً طويلا بشعر العقاد وطريقة العقاد - لكان لإنتاجهم رونق أجمل ولشخصيتهم صور تختلف عن الأصل في بعض الملامح والسمات!
من هنا تبدو بوضوح جناية التقليد والاحتذاء، وتبدو من الجانب الآخر جناية السير على غير هدى ولا اقتداء. ومن هنا أيضاً تأتي مهمة الناقد الأمين الحريص على رسم الخطوط، وهداية الضال إلى الطريق القويم
ويخيل إلى أن نقد كبار الكتاب والشعراء والفنانين عامة ليس نقدا صحيحا صريحا؛ لأنه يغلب عيه الإعجاب والإكبار، وتبرير الأخطاء أحيانا، وأحيانا يغلب عليه التهجم والتنقص والتجريح لسبب من الأسباب
ويخيل إلي أيضاً أنه مضت فترة طويلة خلا فيها الجو الأدبي من النقد الصحيح في ميدان الشعر الحديث، وأن الحاجة ماسة إلى ناقد يكمل هذا النقص ويسد هذا الفراغ الموحش الرهيب. وسأحاول بقدرتي المحدودة وجهدي الضئيل، أن أحمل على عاتقي هذا العبء الثقيل
وأود قبل أن أتناول بعض الشعراء بالنقد والدراسة أن أشير إلى منهجي في البحث إشارة خاطفة: سأخص كل شاعر على انفراد بدراسة مجملة أنبه فيها إلى الخطوط الرئيسية في شعره، فأشيد بحسناته ومزاياه، وأشير إلى بعض العيوب رجاء اجتنابها والسعي الحثيث إلى الكمال، على أنني سأبدأ بدراسة (براعم شعراء الشباب)؛ لإمكان انتفاعهم بهذه الدراسة، وشحذ ملكتهم النفاذة إلى الأعماق. وسأتناول شعراء مصر وشعراء البلاد العربية؛ ففي كل بلد منها طائفة من شعراء الشباب النابهين؛ في الإغضاء عن الإعجاب بقدرتهم الفنية إثم كبير
وليس في استطاعة أحد أن يلم بكل هذا العدد الضخم من النابهين والمغمورين من الشعراء، وسأقتصر على اختيار بعض نماذج صالحة للعرض والتقديم، من المغمورين أولا ثم من المعروفين أخيراً ممن يناط بهم الرجاء. وقد أشرت إليهم إشارة موجزة في كلمتي السابقة، وفي الكلمات التالية إن شاء الله تفصيل هذا الإجمال. وإلى اللقاء مع الشعراء كل أسبوع
أحمد أحمد العجمي