مجلة الرسالة/العدد 986/وجهات النظر في مؤتمر موسكو الاقتصادي العالمي
→ كيف وجدت العالم العربي؟ | مجلة الرسالة - العدد 986 وجهات النظر في مؤتمر موسكو الاقتصادي العالمي [[مؤلف:|]] |
حسن البنا الرجل القرآني ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1952 |
للدكتور عمر حليق
يعتبر المؤتمر الاقتصادي العالمي الذي أشرفت الحركة الشيوعية العالمية على عقده في موسكو في أوائل شهر أبريل من أنجح خطوات الدعابة (لحملة السلم) التي أخذت الشيوعية العالمية تدعو إليها في حماس شديد في المدة الأخيرة.
فقد استعدت المحافل الشيوعية في موسكو وفي كثير من بقاع العالم استعداداً فائقاً في الدعوة للمؤتمر على أنه مجرد خطوة عملية لتشجيع التبادل التجاري الحر بين الدول الشيوعية من جهة، وبين دول العالم الأخرى سواء أكانت هذه الدول (محايدة) أو من خصوم النظام الشيوعي.
وقد حضر المؤتمر مئات من رجال الأعمال (من غير السياسيين) من شتى بقاع العالم بما فيها أمريكا وبريطانيا ومصر والهند والباكستان ولبنان وإيران وغيرها من الدول التي لها صبغة حيادية أو تلك التي تخاصم الشيوعية مخاصمة سافرة.
وقد توصل المؤتمرون إلى عقد صفقات تجارية واسعة مع أصحاب الأعمال الروس والبولنديين والتشيكوسلوفاكيين والشيوعيين الصين وغيرهم من الشعوب التي اتخذت الشيوعية لها عقيدة ونظاماً.
والذي أدى إلى نجاح هذه الصفقات التجارية الواسعة ما عرضه الروس والمندوبون الشيوعيون الآخرون من مغريات. فقد أعلنوا بأنهم على استعداد لتصدير الحبوب والأدوات الصناعية والمواد الكيماوية والأخشاب وغيرها من السلع والمنتجات إلى أوربا الغربية وأمريكا وآسيا مقابل الحصول على الأنسجة والمغزولات والمطاط والأدوات الكهربائية والسفن وقائمة طويلة عريضة من المواد التي لا تمت بصلة مباشرة إلى الاستعداد العسكري الذي يجتاح العالم هذه الأيام.
ولم يكتف المندوبون الشيوعيون في عروضهم الجارية على أساس المبادلة (مبادلة الاستيراد بالتصدير) مع الدول الغربية والآسيوية، وإنما أعلنوا استعدادهم كذلك لقبول أثمان ما تستورده البلدان الخارجية من محاصيل ومنتجات البلدان الشيوعية بالعملة المحلية للبلد المستورد.
وهذا يعني بأن الروس وحلفاءهم راضون بالتعامل بالجنيه الإسترليني والروبية الهندية والباكستانية والعملة المصرية وغيرها من العملة المتبادلة خارج منطقة الدولار الأمريكي والفرنك السويسري والمارك السويدي وغير ذلك من أنواع العملة الصعبة.
ولهذا الأسلوب إغراؤه الشديد خصوصاً لدى بريطانيا ودول أوربا الغربية وشعوب آسيا وأمريكا اللاتينية التي تعاني أزمة في توفير العملة الصعبة لاستيراد ما هي في حاجة إليه من محاصيل وسلع ومنتجات صناعية لا تستطيع الحصول عليها إلا بالدولار - والدولار عزيز هذه الأيام في كثير من بقاع العالم خارج أمريكا الشمالية.
وثمة أمر آخر له أهميته الاقتصادية. فقد أدى اشتراك الصين الشيوعية في مؤتمر موسكو الذي نحن بصدده إلى سيل لعاب الدول التجارية الكبرى كبريطانيا مثلاً. فبريطانيا تعاني الآن ضائقة مالية لعينة مبعثها اختلال الميزان التجاري وقصور الصادرات البريطانية عن اللحاق بالواردات، وهذا وضع أرغم بريطانيا على أن تنفق على استيراد الطعام والمواد الأولية من الخارج بنسبة تفوق بكثير ما يدخل إلى الاقتصاد البريطاني من أثمان الصادرات البريطانية إلى الأسواق العالمية. والبريطانيون يدركون أن الصين الشيوعية سوق تجاري مغري يعيش فيه أكثر من 400 مليون نسمة. فإذا توفر لبريطانيا بيع منتجاتها وبضائعها في السوق الصيني فإنها لا ريب مفرجة عن كثير من أوجه ضائقتها الاقتصادية الحادة.
وقد عرض المندوبون الروس على المندوبين البريطانيين في مؤتمر موسكو الذي نحن بصدده أن تشتري روسيا من المنسوجات البريطانية ما يبلغ ثمنه 30 مليوناً من الجنيهات. فإذا تمت هذه الصفقة فإنها ستعيد الحياة إلى مصانع الغزل والنسيج البريطانية في منطقة (لانكشير) المشهورة بجودة إنتاجها والتي أخذت في المدة الأخيرة تعاني أزمة بطالة حادة سببها قلة التصدير إلى الخارج بعد أن استعادت المنسوجات اليابانية مركزها في أسواق الشرق الأقصى والهند؛ وبعد أن عادت الحياة الصناعية في ألمانيا إلى البروز بشكل سريع خلق للإنتاج البريطاني منافسة شديدة في كثير من أسواق العالم.
ولما كانت شؤون ألمانيا واليابان الاقتصادية لازالت الآن إلى حد بعيد في يد السلطات الأمريكية والحليفة، فإن هذه السلطات لم توفر بعد فرصة لليابانيين والألمان بالتعامل التجاري مع الصين الشيوعية، الأمر الذي يوفر لبريطانيا فرصة ذهبية لاكتساح السوق الصيني من جديد على نحو ما كانت تكتسحه قبل قيام النظام الشيوعي هناك.
وهذه الحقيقة الاقتصادية تنطبق على بريطانيا انطباقها على معظم بلدان أوربا الغربية. ولذلك وجدت عروض الشيوعيين في مؤتمر موسكو لدى الأوساط التجارية في أوربا الغربية قبولاً حسناً.
وقد سبق لخبراء الأمم المتحدة الاقتصاديين أن أوصوا في العامين الأخيرين بضرورة إعادة التبادل التجاري بين دول أوربا الشرقية وبين شعوب أوربا الغربية بعد أن كان هذا التبادل قد توقف أو كاد نتيجة لنجاح مشروع مارشال ومساعدات أمريكا المالية والعسكرية لدول الحلف الأطلنطي. ففي التقريرين الأخيرين اللذين وضعتهما لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوربا إصرار على ضرورة إعادة هذا التبادل على نطاق واسع إذا أريد لدول أوربا أن تكافح البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية المتفشية الآن في معظم القطاعات الأوربية.
وقد جاء في هذين التقريرين بعض الحقائق عن ضائقة أوربا الاقتصادية. فقد ارتفعت البطالة في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول الاسكندنافية ارتفاعاً بلغ في بعض هذه البلدان أعلى نسبة وصلت إليها البطالة منذ أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها.
ففي ألمانيا يبلغ عدد العمال العاطلين أكثر من عشرة ملايين، فانتعاش الصناعة الألمانية لم يصاحبه توسع في الأسواق الخارجية، وقد زاد الطين بلة ازدياد اللاجئين الألمان من المنطقة الشرقية (التي يسيطر عليها الروس) إلى المنطقة الغربية التي تشرف عليها سلطات الاحتلال الغربية.
وفي إيطاليا أصبحت البطالة مزمنة بسبب ازدياد عدد السكان وتوقف هجرة الطليان إلى العالم الجديد ورغبة الشعب في تحقيق مستوى من المعيشة عال لم تستطع الحكومات الإيطالية المتعاقبة أن تنميه بسبب فشل السياسة المالية وانتشار الأفكار الاشتراكية وعدم توفر المواد الخام للمصانع الإيطالية.
وقد ارتفعت أثمان هذه المواد الخام إلى درجة عالية بسبب منافسة الأمريكان والروس على شرائها من مصادرها الأصلية.
وقد عرض المندوبون الشيوعيون في مؤتمر موسكو على المندوبين الطليان طلبات تجارية لبناء السفن في الأحواض الإيطالية بمبالغ ضخمة بحيث تعود الحياة إلى هذه الأحواض التي أصبحت تعاني أزمة بطالة حادة.
وفي بلجيكا وهولنده ودول اسكندنافيا توقفت بعض المصانع عن الإنتاج لعدم توفر الأسواق فجاءت عروض الدول الشيوعية على مندوبي هؤلاء الدول مغرية.
وجدير بالذكر أن النشاط الاقتصادي في دول أوربا الغربية وبريطانيا محصور الآن في الصناعة الثقيلة التي لها علاقة بالمجهود الحربي. أما صناعة النسيج والأحذية والمنتجات الكيماوية وغيرها من الصناعة الخفيفة السليمة فقد تعطل البعض الأكبر منه عن العمل. وحين يتوفر لها مثل هذه العروض التي قدمها الشيوعيون في مؤتمر موسكو الاقتصادي فإن من الصعب مقاومة الإغراء في إعادة التبادل التجاري بين شرقي أوربا وغربيها.
وهذا بالضبط ما دفع أوساط السياسة العالمية للاهتمام بهذه الخطوة الروسية في مؤتمر موسكو التي تركز الجهد في الناحية الاقتصادية البحتة من حرب الأعصاب.
وكان طبيعياً أن تدرك الأوساط الأمريكية وجه الخطورة الروسية الجديدة وما لها من أثر على مصالح أمريكا السياسية والعسكرية والاقتصادية وصميم علاقاتها مع دول الحلف الأطلنطي وبقية أقطار العالم.
ويعلل الأمريكان هذه الخطورة الروسية الجديدة بأنها جزء من حملة (السلم) التي أخذ الشيوعيون يعملون لها بنشاط فائق على أساس ما يقول الأمريكان بأنه مبدأ جديد في السياسة الروسية. وفلسفة هذا المبدأ تقول (لنربح عن طريق السلم ما نحتاج إليه في صراعنا المسلح). ويقول الأمريكان إن حركة السلم الروسية هذه تتناقض وبعض الحقائق السافرة التي تعيش عليها سياسة موسكو الخارجية والداخلية. ومن هذه الحقائق كون الميزانية الروسية الحكومية معقدة بشكل لا يستطيع معه الناس أن يقدروا تقديراً سليماً مبلغ حصص الاستعداد العسكري الروسي من ميزانية الدولة العامة. ومنها كذلك تركيز الإنتاج الصناعي الروسي في تنمية الصناعات الثقيلة التي تعزز الاستعداد الحربي وتخفيض إنتاج السلع التي تصلح للاستهلاك السلمي. ومن هذه الحقائق أيضاً هذا العدد الهائل من القوات العسكرية الروسية التي توجد الآن تحت السلاح أو في عداد القوات الاحتياطية.
ويستشهد الأمريكان في معرض انتقادهم لحملة السلم الروسية بما يلمسه المراقبون في منطقة النفوذ السوفيتي من ازدياد السيطرة الروسية على مقدرات دول أوربا الشرقية والصين الشيوعية. وحين يحلل الساسة الأمريكان حملة السلم الروسية على هذا النحو فإنهم بالطبع واثقون من أن مؤتمر موسكو الاقتصادي لترويج التبادل التجاري بين الغرب والدول الشيوعية هو جزء من هذا التشويش السياسي الذي تهدف إليه روسيا في حملتها السلمية.
ورأى خبراء الشؤون الروسية في واشنطن أن مؤتمر موسكو يهدف إلى ثلاثة أمور رئيسية:
أولها - تشجيع الدول الأوربية الأسيوية ودول أمريكا اللاتينية التي تعاني أزمة اقتصادية بأن تقدم على المتاجرة مع الشعوب الشيوعية على أساس يضمن لهذه الدول التغلب على ضائقاتها الاقتصادية ومن ثم اتجاهها أكثر فأكثر نحو موسكو في السلوك التجاري والسياسي. فإذا استدرجت روسيا وحلفاؤها في بادئ الأمر هذه الدول الأوربية الأسيوية واللاتينية إلى المتاجرة الحرة فإن هذا الاستدراج كفيل بأن يربط عجلة الاقتصاد في هذه الدول التي ليست شيوعية إلى عجلة الاقتصاد السوفيتي بحيث تستطيع روسيا وحلفاؤها الشيوعيون معه الحصول على بعض المواد الحربية مع مضي الزمن.
ثانيها - تستطيع روسيا بخطوتها الأخيرة في مؤتمر موسكو أن تصرف ما تختزنه من بضائع ومنتجات لا يسري عليها الخطر الذي فرضه الأمريكان على حلفائهم في المعاملات التجارية مع منطقة النفوذ السوفيتي.
فالمعروف مثلاً أن محاصيل القمح والحبوب في روسيا تفوق حاجة الشعب الروسي. وللروس منفعة في تصريف هذه المحاصيل مقابل الحصول على سلع يستهلكها الشعب الروسي؛ وبذلك تتجه المصانع والأيدي الروسية العاملة التي تنتج الآن هذه السلع السلمية إلى إنتاج الصناعات الثقيلة النافعة للمجهود الحربي.
ثالثها - حين يزداد التبادل التجاري بين منطقة النفوذ السوفيتي والعالم الخارجي تزول بالتدريج من أفكار الناس المخاوف التي تحيط بنشاط الروس وعملائهم في سائر أقطار العالم. وهذا أسلوب يلغم النفوذ الواسع الذي بناه الأمريكان في أوربا الغربية وبقية بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية وتصاب فكرة الحلف الأطلنطي ومشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط وعن المحيط الهادي بنكسات خطيرة.
هذا بعض ما أثاره مؤتمر موسكو الاقتصادي من تعليقات في صحف العالم وأنديته.
ولقد انفض المؤتمر الآن ونتائج أعماله رهينة بمدى حماس الأوساط التجارية في أوربا الغربية وآسيا وأمريكا الجنوبية إلى متابعة الاتصال بالأوساط التجارية الشيوعية التي كان عملاؤها يملئون قاعات الاجتماع وأروقته في مؤتمر موسكو. وقد عاد بعض رجال الأعمال الأوربيين والأسيويين إلى بلادهم يحملون عروضاً تجارية للتبادل التجاري مع الدول الشيوعية بمبالغ قدرت بحوالي 300مليون دولار.
إن هذه الخطوة الروسية الأخيرة دليل على أن العقلية الشيوعية مرنة تتلون حسب الحاجة وتتلاءم مع الظروف والمناسبات، وتستنبط من أساليب السلوك ما يلائم الأوضاع الطارئة وإن كانت هذه العقلية في قرارة النفس مقيدة بالهدف الجوهري لفلسفة ماركس ولينين وستالين.
عمر حليق