مجلة الرسالة/العدد 986/كيف وجدت العالم العربي؟
→ رمضان | مجلة الرسالة - العدد 986 كيف وجدت العالم العربي؟ [[مؤلف:|]] |
وجهات النظر في مؤتمر موسكو الاقتصادي العالمي ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1952 |
تقرير مرفوع إلى جزيرة العرب
للأستاذ أبي الحسن علي الحسني الندوي
لقد كتبت وأنا متوجه إلى مصر، وقد تحركت بنا الباخرة في ميناء جدة يوم السبت 12 ربيع الآخر سنة 1370هـ 20 يناير 1951م، (وداعاً أيتها الجزيرة العربية غير مهجورة ولا مملولة، فليست هذه الرحلة إلا في سبيلك وللاتصال بأسرتك العزيزة المنتشرة على ساحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أبلغها تحياتك وأرى ما فعلت الأيام بها بعد انفصالها عنك، وما فعلت برسالتك التي حملتها عنك للعالم والأمانة التي تقلدتها، ثم أعود إليك إن شاء الله أحكي لك قصة هذه الأقطار الإسلامية العربية وما شاهدت في هذه البلاد من خير وشر، وما رأيت لأبنائك من وفاء لك وجفاء، بكل أمانة وصراحة، فالرائد لا يكذب أهله، ومن الكذب المهلك والخيانة المردية المجاملة في الأخبار والمبالغة في التفاؤل).
وهذا أوان إنجاز الوعد.
يسرني أن أقول لك أيتها الجزيرة العزيزة أن أسرتك العربية لا تزال تنتمي إلى الإسلام ولا تزال تعتز بعروبتها ولا تزال تنسب نفسها إليك وترد دينها ولغتها إلى منبعهما في ربوعك، ويبدأ تاريخ حياتها الجديدة بيوم أشرق فيه النور من غار حراء فكان الصبح الصادق للعالم، وقد احتضنت هذه البلاد تراثك الأدبي والثقافي وتبنت لغتك وضمتها إلى صدرها وزادت في ثروتها زيادة لا تخطر على بال منك ولا من شعراء جاهليتك، ولا يسعك عليها إلا الشكر والاعتراف بالجميل، وقد كانت هذه البلاد وفية للغتك، وفية لقوميتك، وفية لثقافتك وفية لتاريخك.
وأن أسرتك العربية لم تقطع صلتها في يوم من الأيام عن دينك الذي عاهدتها عليه وأوصيتها به يوم ودعتها وأرسلتها لتفتح العالم وتنقذه من الجاهلية. وكم حاول الحساد أن تقطع هذه الأسرة الكريمة صلتها عن الإسلام وترجع إلى جاهليتها الأولى أو تعتنق الجاهليات الحديثة. وكم زينوا لها الانسلاخ عن عقيدتها الإسلامية والانفصال عن الجامعة الإسلامية، وأن تدين بالقومية العربية والوطنية الضيقة، فلم تكن منها في كل عصر ومص إلا أن ثارت روحها الإسلامية وهاجت غيرتها الدينية فازدادت إيماناً بهذا الدين وأحبطت مساعي المفسدين، ولا نعرف من بين الشعوب والأمم أسرة أكثر وفاء وأعظم أمانة وأشد تعلقاً بالماضي وغيرة على اللغة من هذه الأسرة العربية التي تسكن الشرق الأوسط الذي هو مجرى تيارات المدنية والغزوات السياسية، فقد تطور كل شيء وقد تطورت هي كذلك في ثقافتها وأدبها وحياتها تطوراً كبيراً ولكنها لا تزال متشبثة بدينها متعصبة للغتها، فليهنك أيتها الجزيرة من أبنائك هذا الوفاء وهذه الاستقامة.
إن في العالم العربي كثيراً مما يسرك ويسر جيلك الأول لو بعث، فلا يزال الأذان تدوي به الآفاق؛ ولا يزال التوحيد والرسالة المحمدية يعلن بهما على الشرفات، والصلوات تقام والقرآن يتلى بلحن عربي شجي لو سمعته أيتها الجزيرة لطربت له واعتقدت أنه لم يقرأ إلا في هذه البلاد، ولو سمعت العلماء يفسرونه ويتكلمون في موضوع ديني لتوهمت أنه لم يفهم إلا في هذا العصر، والعلم يخدم وينشر، وفي كل يوم يتدفق سيل من المطبوعات الدينية لا يقل في الفيضان عن الزيت الذي يتدفق من شرقك إلى غرب العالم.
هذا كله مما أشهد به وأهنئك عليه، فقري عيناً وطيبي نفساً يا أم العالم العربي؛ فمن أحق منك بالسرور على ذلك ومن الأجدر منك بالتهنئة؟
ولكني وعدتك وأنا أودعك على ميناء جدة أني لا أخفي عنك شيئاً وأني أحمل إليك في رجوعي كل حلو ومر، وأروي لك من رحلتي ما يسوء ويسر، وقديماً قلت: أنجز حرماً وعد.
لست أدري أيتها الجزيرة العزيزة كيف أعبر عن شعوري المزدوج المركب، وكيف أصف لك ما وجدته وما افتقدته في هذه الرحلة الطويلة، وكيف أصور المعاني المتناقضة وكيف أجمع لك بين آلام وآمال. إني أستعير أولاً كلمة لشاعر مؤمن من بلادي قد زار العالم العربي قبلي ورجع منه حزيناً يلخص رحلته في بيتين من شعر، ذلك الشاعر هو الدكتور محمد إقبال الذي يقول:
(لم أسمع في مصر ولا في فلسطين ذلك الآذان الذي ارتجفت له الجبال بالأمس. إن السجدة التي كانت تهتز لها روح الأرض لقد طال عهد المحراب بها واشتاق إليها المسجد كما تشتاق الأرض الجديبة الخاشعة إلى المطر).
لا يخفى عليك أيتها الجزيرة أن مصدر هذا الآذان الذي كانت الجبال ترتجف له ارتجافاً وهذه السجدة التي كانت الأرض تهتز لها اهتزازاً، إنما هو القلب الفائض بالإيمان، الممتلئ بالحب والحنان، الجريء على الموت، الحريص على الشهادة، الزاهد في الدنيا، المستهين بالمادة، وقد ضعف هذا القلب من مدة طويلة وجنت عليه المادة الغربية والتعليم المادي فأفقدته كثيراً من حنانه وحرارته وخفقانه، وتأثرت بهذا التحول الحياة في كل ناحية من نواحيها ومظهر من مظاهرها وعم المسجد والمدرسة والمنزل والسوق، وشعر به كل من لم يفقد شعوره حتى قام بالأمس أمير الشعراء شوقي في دمشق يقول:
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان.
لقد عاتبت هذه البلاد العزيزة على هذا التحول كثيراً وحدثتها حديث رجل لرجل، ولكنها قالت لي: إن الجزيرة العربية هي المسئولة عن هذا التحول، فقد كانت مصدر الحياة والقوة والإيمان والروح في العالم كله، وقد كانت توزع الدم الجديد إلى شرايين العالم الإسلامي وعروقه فضلاً عن العالم العربي فشغلت في العهد الأخير بتصدير البترول عن تصدير دم الحياة الإيمانية، واكتفت باستصدار البضائع الأجنبية عن توريد بضاعة الإيمان وغذاء الروح إلى العالم. وجادلت عنك أيتها الجزيرة العربية كثيراً ولقد أوتيت جدلاً ولكنها أفحمتني بالدلائل والأمر الواقع، فأقنعيها بما شئت وأدلي بحجتك فإنما هي أسرتك ومن أقرب الناس إليك.
وسواء كان منك التقصير أولاً، وكنت المسئولة عن هذا التحول المؤسف أم كان غيرك، فإني أبشرك أني شاهدت في العالم العربي طلائع نهضة إسلامية قوية شاملة، وتباشير صبح صادق، فقد بدأ الرأي العام يستيقظ، وبدأ القلق الشديد يساور النفوس، والتذمر من الأوضاع الفاسدة يكاد يكتسح البلاد. وقد بدت حركة رد فعل عنيفة ضد الحضارة الغربية وقيمتها، وظهرت آثار ثورة فكرية سياسية ضد سيادة الغرب والوصاية العالمية التي سلطها الغرب على العالم وفرضها على العالم العربي فرضاً، واستمر يتحكم في أمواله وكنوزه وخيراته، كأنه سفيه أو مجنون أو طفل لم يبلغ سن الرشد، فها هي الأقطار العربية قد بدأت تفهم الحقائق وبدأت تواجه الغرب المتغطرس كرجل كريم يؤمن بشرفه وإنسانيته ويشعر بشخصيته وكرامته، وكرجل حي يعرف الغضب كما يعرف الرضا ويملك حق الثورة إذا وجدت لها موجبات.
لقد بدأ العالم الربي يكفر بالغرب أحياناً بعد ما آمن به طويلاً وخضع له طويلاً وربط نفسه بعجلته فأصبح يرى نفسه مستقلاً؛ وعضواً كريماً في أسرة العالم، يعلم المفسد من المصلح ويميز بين الصديق والعدو ويحتفظ بحقه في الصلح والحرب والحلف والصداقة.
لقد بدأ بعض الأقطار العربية يرنو إلى التقدم الصحيح والاستقلال الصادق. قد بدأ يفهم أهمية الصناعات الوطنية والإنتاج والاكتفاء الذاتي والاستغناء عن البلاد الأجنبية في مرافق الحياة. وقد بدأ بعض هذه الأقطار يخطو نحو هذه الغاية وإن كانت هذه الخطوات بطيئة وقصيرة، خطوات رجل مثقل يئن من أثقال القديم، ولكنها بدأت تزحف كما يزحف الطفل بعد ما بقيت مدة طويلة تلهو بما كان الغرب يرمي إليها من ودعات، وبما يصدر إليها من بضائع وآلات. لقد بدأت الأقطار العربية تتعلم صناعة الموت بعد ما جهلتها طويلاً وهجرتها طويلاً، وأصبحت تعتقد أنه لا يعيش في العالم إلا من يستطيع أن يموت.
وأعظم ما يبعث الأمل في النفوس ويبشر بالمستقبل الإسلامي هو ظهور آثار الإيمان الجديد في العالم العربي، فإنك تعلمين أيتها الجزيرة العربية حق العلم أن أسرتك الكريمة ليست في حاجة - وكذلك العالم البشري كله - إلى دين جديد، فإن الدين الذي جاء به محمد ﷺ هو الدين الخالد والرسالة الخالدة، وأنه لا يزال على جدته وقوته مهما تقادم الزمان، وانه يسع العالم كله والعصور كلها، ولكن أسرتك التي تدين بهذا الدين في حاجة ملحة اليوم إلى إيمان جديد بهذا الدين الخالد، دين كل عصر وجيل، فقد ضعف هذا الإيمان، وقد تجددت فتن، ونشطت دعوات متطرفة وقويت، وكثرت النكبات، ولا يمكن أن يواجه العالم العربي هذه الفتن، وهذه الدعوات وهذه النكبات بإيمان ضعيف بال، لا يستطيع أن يتحمل صدمة، أو يتغلب على شهوة، أو ينتصر على أنانية، أو يتحمل شدة، أو يقف في وجه دعوة، إنما هو إيمان منهار لا يستطيع أن يعيش ويتماسك في عصر قد جد فيه الجد.
ولكني رأيت في الأقطار التي مررت بها في هذه الرحلة بواكير إيمان جديد وطلائعه. لقد رأيت إيمانا فتياً وثاباً، لقد رأيت فتية وصفهم ربهم قديماً بقوله (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) هؤلاء الفتية الأقوياء في إيمانهم - وإن كانوا كباراً في سنهم - الذين يعتزون بهذا الدين أكثر ما يعتزون بشيء، إنهم لا ينظرون إليه كتراث قديم وكأثر من الآثار العتيقة أو كشجرة قد انتهى نموها وانقطعت أثمارها، إنما ينظرون إليه كمنبع فياض يستمدون منه القوة والحياة، وكشمس ساطعة يقتبسون منها النور والحرارة في كل زمان ومكان، ولا قديم في الشمس ولا جديد، إنما هي حاجة الإنسان الدائمة ورسول النور والحياة في كل عصر ومصر، وبينما كان ينظر إلى الدين كقضية شخصية لا دخل لها في الحياة العامة، ولا رسالة لها للسياسة والاجتماع، ولا صلة لها بالحكم والتشريع، أصبح ينظر إليه كمنهج للحياة ومنهج للتفكير تتوقف عليه سعادة البشرية، وتنحل به عقد المدنية الحديثة. إن الإسلام لا يعيش على هامش حياتهم إنما يحل منهم محل القلب والعقل والروح. إنهم لا ينظرون إليه كدين من الأديان الكثيرة وكمنهج للحياة من مناهجها الجديدة، إنما ينظرون إليه كالدين الحق الوحيد الذي لا يبقى بعده إلا الضلال ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه. هؤلاء هم الذين قام بهم الإسلام في عصره الأول وسيقوم بهم في هذا العصر.
وأعجب ما رأيت هو قوة هذا الإيمان وجدته في الشباب المتعلم، فقد رأيت هذا الجيل الجديد يكاد يفوق الجيل القديم في قوة الإيمان والحماسة الدينية، رأيته يقبل على الدين كنعمة جليلة أو طرفة ثمينة، ويذكرنا بسروره وتقديره أولئك الرواد المغامرين الذين كانوا يخرجون لاكتشاف البحار والأقطار المجهولة ويتكبدون في سبيله من المصائب ما يشيب لهولها الولدان، فكان إذا نجح أحدهم في مهمته ملكه الفرح واعترته نشوة الانتصار ونسي ما لقي في طريقه من النصب والتعب واعتبر ما اكتشفه فتحاً جديداً في حياته وأعز من كل ما يملكه من قديم وما يعلم من قديم، رأيت في هذا الشباب من الشجاعة الأدبية ومن الثقة بالدين وتعاليمه والإعجاب بشخصياته التاريخية ومن التطلع إلى النظام الصالح ومن روح التضحية والإيثار والثورة على النظم الجائرة والأوضاع الفاسدة والتمرد على المادة ومكيائيلية المجتمع الزائفة ما يندر وجوده في الجيل القديم. لقد قرت بهم عيني وانشرحت لهم نفسي واجتمعت بهم وحادثتهم كثيراً في عواصم الشرق الأوسط، وقلت: هذا هو الجيل المنتظر الذي سينهض بالشرق ويرد إليه قوته، وزعامته إن شاء الله.
إن نهضة العالم الإسلامي ونهضة العالم العربي أمر واقع لا يقبل شكاً ولا جدلاً، ولكن الذي أخشى أن تسبقك هذه الأقطار وأن يتأخر دورك كثيراً وحقك أن تسبقيها وتتزعمي هذه النهضة المباركة فأنت مادة الإسلام والبلد الأمين.
أما بعد فإني لست يائساً من العالم العربي ولا منك أيتها الجزيرة العربية، وأقول في لفظ شاعر الإسلام (إن إقبال ليس يائساً من زرعه الكريم الذي عاث فيه الوحوش والسباع فإن تربته الكريمة تأتي بحاصل كبير إذا تندت قليلاً) ولك أيتها الجزيرة أن تسقي هذه التربة الكريمة بزمزم، وبما شئت من دمع ودم.
أبو الحسن علي الحسني الندوي