مجلة الرسالة/العدد 984/القَصَصُ
→ البَريد الأدبيَ | مجلة الرسالة - العدد 984 القَصَصُ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 12 - 05 - 1952 |
هندي من الحمر
عن فرنز ميلر
للأستاذ كارنيك جورج ميناسيان
قال التلميذ عن نفسه وهو ينحني: روبرت سنو
لكنني كنت أعرفه من قبل، فهو أكبرنا سنا، وإن كنا أقدم منه عهداً في الدراسة. أنه يمتاز بلون برنزي، وعينين غائرتين تبرقان في الظلمة.
لم نلبث أن تعارفنا وأخذنا نتبادل التحايا والبسمات الصامتة، ثم جاء يسأل عن حجرة يسكن فيها، فأخبرته بوجود حجرة خالية إلى جانب الحجرة التي أقيم فيها، فوافقه ذلك. . أصبح جاري، فصار يزورني مساء، فأقدم إليه قدحاً من الشاي الساخن. . . حتى أوشك تحفظه أن يزول بتوطد الصلة بيننا، وسألته مرة:
- أتدري أني أغبطك؟
قال باسماً: - علام؟
- على لون طلعتك. . هذا الغريب الجذاب، الذي يذكرني بلون الهنود الحمر.
- لا غرابة في ذلك، فأنا هندي من الحمر!
وطفق يحدثني بأخباره الخاصة. . كان يحيا بين الغاب والبحيرات، فيجد في الغاب حيواناً يأنس إليه، كما يجد في البحيرات ماء يسبح فيه ويشرب منه. . فسألته:
- وما الذي دعاك إلى ترك عالمك الجميل واستبداله بعالم الدراسة.
فأجابني بقوله: - قال أحد العرافين لأبي أني ذكي وفطن، لا يجب تركي عابثاً عند بحيرة (هرنين)
- وبعد؟
- وبعد تركت عالمي وجئت إليكم.
فصمت، ولم ألبث أن سألته بكثير من الكياسة والتردد:
- ترى أرضيت عن ثقافتنا يا صاحبي؟ قال: - خلت نفسي ثملا. . وأنا أرى الشوارع والدور. . . وآلاف الأعاجيب الأخرى. . فكنت أمر مذهولا شارداً، أتحسس ما أرى وما أشاهد كي أتأكد أنني لست أحلم!
إن أمواج بحيرة هرنين لم تكن لتريني كل هذه الأعاجيب!
إن العجيبة الأولى التي أذهلتني هي السفينة العظيمة التي حملتني، وعبرت بي المحيط!
لقد خلت نفسي وأنا أراها تسير بسرعة وثبات على سطح البحر الزاخر. . أني أمام عمل من أعمال الآلهة. وقد ركعت حينئذ وصليت من شدة رهبتي!
ثم صمت، وأنشأ يحرك الملعقة في كوب الشاي، فتحدث حركته رنيناً حزيناً، عاد بعد انقطاعه يتمم حديثه فيقول.
- لم تكن حياتي الماضية تشمل غير الواضح المألوف. لكنني كنت أعجب وأنا أقصد البحيرة أن أجد في طريقة ريشة طير ذات ألوان جذابة مفرحة. كانت تبدو لي كأنها تخصني بتحية الصباح، لقد كنت أتناولها فرحاً وأداعبها مسروراً. . فأمسحها بجبيني تارة وبوجهي أخرى، وإذا ما هبت الريح كنت أرفعها وأرميها عالياً مع مسرى الريح.
- يا لها من لذة!
-. . كانت أموركم ألذ بكثير
- ولماذا تقول كانت، أو ليست كذلك الآن؟
- أبداً. .! إن التعليل والتشريح والتبسيط حطمتها، وذهبت بروعتها ولذتها. . .
- لا أفهم ما تقول
لم يجيبني، بل نهض وفارقني بعد تحية سريعة.
بقيت تلك الليلة أفكر في قول صاحبي. . . حتى طار النوم من عيني!
وفي الغد كنت أجلس بجانبه في المختبر، وأمامنا بطاريات الزجاج مبعثرة على المنضدة، في حين كان مصباح بونش يشع نوراً أزرق، توشك العين ألا تراه! وما كان أستاذنا قد حضر بعد، فقال لي رفيقي:
- ألم تلاحظ وجه السبورة السوداء تلك؟
- لاحظتها كثيراً، فقد كتبت عليها مئات المعادلات
- لم تفهم قولي، قلت لك وجهها. .
فحولت نظري إلى اللوحة، فلاحظت أن الأبخرة المتصاعدة من الأحماض قد تركت على سطحها أشكالا وخطوطاً غريبة، لو نظرها شخص بانتباه، لبدت له من تعاريج الخطوط رسم وجه لإنسان عبوس! فقلت لصاحبي:
- حقا أنه يبدو كوجه إنسان
- أتعلم وجه من هو؟. .
قلت ساخراً: - إنه. . وليد الاتفاق والمصادفة!
فقال مقاطعا - هذا هو وجه العلم! قد صورته مبتكرات العلم، فإذا هو وجه عنيد متجهم، لا تنبئ أساريره بأي معنى من معاني الرحمة!
وهنا دخل الأستاذ، فأنقطع كلامنا، لكني بقيت حائرا أستعيد رأي صاحبي ولا أدري أأصدقه أم أكذبه (وجه العلم العنيد المتجهم)؟ فأمضي بنظري إلى اللوحة، تاركا الأستاذ يشرح ويعلل، لأرى وجها عنيدا متجهما حقا!
لا ريب أن التبسيط يحطم اللذة والروعة، فلو بسطنا أسباب ظهور الوجه على سطح اللوحة فإننا لن نشعر بعد ذلك، بمثل ما يشعر هذا الهندي نحو ذلك الوجه الغريب!
. . وفي طريق عودتنا إلى غرفتينا قلت لصاحبي: -
- إني قادر على فهمك بعد الآن
قال - هيهات فأنت قد ولدت هنا في عالم العلوم، لا في عالم الطبيعة. . إنك لم تتمدد على العشب الأخضر، ولم تتفهم أسرار الحقول، فلا يمكنك أن تبثها أحزانك أو تشرح لها آلامك كما أفعل أنا! هذه لوحاتكم، ما رأيتم فيها غير المعادلات والمحاسبات. . والأحرف الكثيرة الجامدة! حين ثمة لوحات لنا عند بحيرة هرنين ترينا الطبيعة وكيف تحنو، والأيدي وكيف تتساند! حتى أنها ترينا الآلهة وهي ترتفع وتسمو عن. . .
وصمت فجأة! وكأنه استدرك ورأى أنه يقول ما لا ينبغي، فودعني ومضى عن طريقي. . لقد قدرت ألمه ولم أحنق عليه، وما كان المساء حتى طرق بابي وقال
- لقد كنت قاسيا معك
فكان جوابي أن قدمت إليه كوب الشاي.
وحين رفع الكوب إلى فمه، أخذ يبعث إلى بأنظاره من فوق حافة الكوب، فبدت لي عيناه عندئذ غائرتين أكثر من قبل! ثم واجهني وقال:
- كان الأجدر بي أن أتصف باسمي فأكون باردا كالثلج. . على الأقل معك أنت.
فلم أجب، فاستمر يقول:
- إن الهدوء والرزانة من صفاتي. . لكن التبسيط الذي يذهب بروعة الأشياء!
فسألته قائلا: لماذا تطلب العلم إذن؟
- كان المبشر قد أحسن إلى كثيرا، فحين زودني بالمال وحثني على طلب العلم لم أستطع الرفض.
- ولماذا تخصصت في العلوم؟
- أخبروني هنا أني أهل للعلوم! إنهم يريدون أن يجردوني من الخيال، من خيالي اللذيذ! لأفنى في المعادلات العقيمة، لكنني لن أفعل هذا. . لن أفعل!
فصمت قليلا في حين كانت عيناه تبرقان ثم عاد يقول:
إن أهل العلوم قد أفسدوا علي أحلامي وخيالي، قالوا لي إن هذا من هذا، وإن الماء هو الجمع بين ذرة من أكسجين مع ذرة من هيدروجين! وإن ورد الزنبق مؤلف من هيدرات الكاربوليك والنيتروجين! وإن ماكنة السفينة بسيطة، فالمحرك لا يدور بقدرة الإله كما كنت أعتقد، بل بقدرة. . البخار! لقد عللوا لي الأشياء، وبسطوها وشرحوها، حتى بدت لي عادية بسيطة تافهة لا روعة فيها أبدا.
قلت له: إننا لا نؤمن بوجود الإله في محرك السفينة لكننا نؤمن بوجوده في محل آخر.
- تعني الكنيسة؛ دخلتها مرة فشعرت بنفور أعمق من نفوري من المعادلات.
- ما قولك إذن في شعرائنا؟
- أولئك شعراء؟ إنهم لا يؤمنون بالله حين يدعون أبدا أنهم يؤمنون! لقد لاحظتهم وهم منفردون بأنفسهم يرتلون الشعر، فرأيت السخرية تبدو في وجوههم واضحة كلما جاء ذكر الإله!
وقلت وقد أزعجني كلامه - ألست معي في أن للعالم اسما مهيبا محترما؟
- أنا معك في أن له اسماً مهيباً محترما. . . فقط! لكنه هو نفسه خال من الصفتين! أنكم تقولون عن العلم أنه سام كالآلهة وأن له أغواراً عميقة ليس لها قرار! ثم أراكم تنزعون ثوب تلك الآلهة، المعبودة، وتتركونها عارية، ثم تجهزون عليها وتجردونها حتى من الخجل.
- الخجل، ما معنى الخجل يا سيدي؟
- ألم تسمع قول أستاذنا في الكيمياء؟ لقد قال إن ما ندعوها (بالحياة) مؤلفة من كذا أحماضا وكذا قلويات. . إلى آخر هذه الأشياء التي نسيتها.
فوجدت صاحبي يمضي إلى مذاهب متشعبة، وأن لا فائدة من معاندته ولا من تشجيعه على ما هو فيه، فقلت له:
- إذا نلت الدكتوراه فستغدو حرا، ولك ألا تنتبه إلى المحاضر ولا إلى المعادلات، ولك ألا تهتم إلا بعالمك الذي تحن إليه.
كل من قال الدكتوراه كان قد أجهده الاستذكار. . إلا الهندي سنو! فهو لم يراجع ولم يذاكر، فنال أجازة الدكتوراه من غير تعب أو إرهاق. وبدا لي أنه لم يعلق على الدكتوراه أملا من الآمال! إذ أن كثيرا ما رأيته وهو يسرح بأنظاره عبر الفضاء باحثا عن أحلام أخرى. غامضة، ما كنت أفهمها، ولعله هو نفسه أيضاً ما كان يفهمها، وبدا لي كأن وجهه قد تحجر وتجهم وأنه صار شبيهاً بوجه العلم الموسوم، على اللوحة السوداء.
احتفلنا بعد الامتحان، حيث خطب فينا العميد في قاعة الكيمياء، فلاحظت صديقي الهندي جالساً أمامي، وهو منصرف إلى تأمل ذبابة تطير عند النافذة! ولما قال العميد (علينا أن ندعو جيلنا بجيل العلم) ترك سنو ذبابته فتوجه إلى المحاضر فاستمر هذا يقول (ولكننا لسنا في المرحلة الأخيرة من مراحل العلم، فثمة معضلات أخرى كثيرة يجب أن نحاربها بالعلم). فلاحظت سنو يزداد انتباهاً. قال المحاضر (فنحن لن نرتاح حتى يسود العلم الأرض كلها، حتى نحطم العقائد البالية، حتى. .) وقاطعه بصوت عنيف (وماذا أبقيت للشياطين)؟ ووقف الصارخ فإذا هو سنو! فجعل يصرخ صراخاً كالعويل. . . لا ريب أن أهالي قريته يتسلحون به ضد الشياطين! ثم وثب على محبرة عامرة بالقرب منه، فألقاها على المحاضر. .! فتجنبها هذا. . ونزل من المنصة، فارتطمت المحبرة باللوحة السوداء؛ فتكسر زجاجها وسال مدادها على تعاريج وجه العلم، فتكالب على سنو من حوله، لكنه قاوم حتى نجح في أن يقذف بمحبرة أخرى في وجه. . العالم! فعلا الصخب والصراخ، حتى حملوا سنو إلى الخارج حملا.
. . ومضى عام!
وإذا أنا أستلم رسالة من كندا، كانت من سنو الهندي، وكانت فيها هذه الكلمات:
(. . بينما كنت أتوجه ذات صباح إلى بحيرة هونين، مثلما كنت أفعل قبل مغادرة وطني، وجدت أيضاً ريشة طائر، من النوع الذي كنت أجده دائما كما ذكرت لك، فتناولتها لأرى من من الآلهة قد بعثها لي. . ولأداعبها وألاعبها كما كنت أفعل! وإذا أنا أمام ريشة بسيطة عادية لطائر معروف، لا تولد في أية لذة. إنما هي ريشة تتألف من كالسيوم وكوبلت 3)!
كارنيك جورج ميناسيان