مجلة الرسالة/العدد 978/الكتب
→ حين ينظم الشاعر | مجلة الرسالة - العدد 978 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 31 - 03 - 1952 |
عهد جديد
تأليف الأستاذ شاكر خصباك
منشورات لجنة النشر للجامعيين بالقاهرة
للأستاذ سليم عبد الجبار
على الرغم من أن الأستاذ شاكر خصباك لا يزال في مطلع حياته الأدبية، فالقارئ المدمن، يدرك أثناء قراءته ل (عهد جديد) أن الأستاذ شاكر، قد أشرف على الطريق القديم في كتابة الأقصوصة الفنية
فالشخصيات التي تترادف في هذا الكتاب، تتخذ مادتها من الحياة الواقعية المألوفة، ومن الطبقة الوسطى، على الأخص، ولكننا نلمس خلال قراءتنا، أن تلك الشخصيات، ليست بالشخصيات التي تتراءى لكل عابر سبيل، يرمقها بعينيه، فلا يتجاوز، بنظراته، هذه الأجسام المادية المحدودة الصورة، بل نراها، أثناء حركتها وسكناتها، وأثناء هدوئها واضطرابها، تتجاوز هذه الحدود، لتكشف لنا ما وراءها، ما وراء هذه الأجسام، من نفوس إنسانية متغايرة، متشابكة، تتجه كل منها، في سبيلها التي أريد لها، أو - على الأصح - نحو سبيل اختارته طبيعة نفسيتها، وما ابتغته تلك الطبيعة من انبثاقات خاصة
فغضب الأب في (عهد جديد) وهي الأقصوصة الأولى، يرينا بكل وضوح تلك النفسية القلقة الحمقاء (الطيبة رغم ذلك) التي تغضب للاشيء، وسرعان ما تفئ من غضبها، فإذا هي نادمة واجمة، يتراءى لنا من خلال دموع (زينب) ووجوم (فطيمة) ذلك الحنان الهادئ العميق، الذي جبلت عليه إخواننا
وغضب نجم، وتركه لأهله، هو الأخر، احتجاج، أكيد، صارخ، لما ينتاب النفوس الحساسة الأبية، من ظلم محيط متراكم، ليس لدفعه من سبيل، إلا بمثل هذا الاحتجاج
كما تصور لنا أقصوصة (الرهان) تلك التضحية، التي يقدم عليها الأباء، في سبيل مستقبل أبنائهم، في مجتمع يقوم كل ما فيه على الاستغلال، والعبث بمصائر البشر
فالتضحية التي قام بها (حمود) لكي يتيح لابنته مستقبلا آمناً، والتي كلفته التضحية حياته، كانت بالنسبة للآخرين مجرد لهو يلهون به
ومثلما صورت لنا هذه الأقصوصة، هذا الجو المظلم، التعس،
صورت لنا أقصوصتا (المنزل رقم 54) و (أعوام الرعب)
جوانب مظلمة، قاسية، من جوانب هذا المجتمع المنهار
فأقصوصة (المنزل رقم 54) أبرزت لنا من زاوية خاصة، أثر
المال في تثمين الحياة الإنسانية، فإعطائها قيمتها الآنية. فتحكم
صاحب الدار، وعدم اكتراثه بحالة ساكني داره رغم ابتزازه
منهم، الضريبة الشهرية، وخضوع هؤلاء لسطوته، وتلون
حياتهم البائسة، وفق ما تضطرهم إليه هذه الحالة، من جهة،
وموقف الشاب من ابنتهم، ومن أهله، من جهة أخرى، يحيطان
بأتعس ما يمر على الإنسان، من ذل مقيت، وخضوع ظالم،
تتحول بهما الحياة الإنسانية إلى ما يقارب الحياة الحيوانية،
يزيدها مرارة، وألماً، شعور الإنسان بكرامته، وحقه في عيش
أصلح
وما إن نصل إلى نهايتها حتى يدركنا جمود فكري صارم، مرده إلى تلك النهاية الأليمة التي تحرت أليها (العائلة) نتيجة لتهدم دارها، فإذا ما تعلق مصير الإنسان ببضع قطرات تسقط من السماء، فتكفي لانهياره، تحت التراب. فأي قيمة لمثل هذا الإنسان، وأي معنى للحياة التي يحياها؟!
أما (أعوام الرعب) فقد صورت لنا، بطريق حاد، شائك ما يعانيه الشعب العراقي اليوم، من مآس دامية، وما يجتاز من أهوال شداد، في سبيل تحقيق حريته، وإنسانيته، وما يلاقيه في سبيل هذا التحقيق من انتقام عات ظالم، كما صورت التباين الشاسع بين عقليتين، تلتفتان لأمور واحدة، عقلية مؤمنة صاعدة (الابن) وعقلية، أشرفت على المشيب والتدهور (الأب) فخضوع الأب، واستسلامه، الناجمان عن الجهل وأساطير، يقابلهما الوعي العلمي الذي يتحسسه الابن، وكفاحه الجبار، الأوحد المؤدي إلى النهاية التي لا ريب فيها. فهي تعطينا في فلتة نادرة، اعمق العواطف الإنسانية المحتشدة في الينبوع الآسن
ومثلما صورت لنا (أعوام الرعب) الوعي الإيجابي المتغلغلفي دماء (الابن) طورت لنا أقصوصة (صديقي عبد علي) الوعي السلبي لذي يراود القلوب الجاهلة، والذي تمثل في العطار (عبد علي). فاهتمامه بالانتصارات الألمانية، وتهليله له، وتتبعه للانتكاسات البريطانية، وتشفيه منها يلفتان نظر القارئ المخلص، إلى تلك الناحية الخفية (فعبد علي) مثال لتلكالشخصيات المتعصبة، التي رأيناها في فترة الحرب، ولم نفهمها يومذاك. فهي في تحسسها الخاطئ، باعتمادها على أجنبي أخر، لا تقصد إلا إنقاذ بلادها، مما هي عليه، من جوع واضطهاد، فظنها الخاطئ، وعقليتها المحدودة الثقافية، توحيان لها أن الألمان ما داموا أعداء للإنكليز، فهم أصدقاء لشعوب المبتلاة بسطو (البارون) ومحرريها
وأقصوصة (بدر بنت عمي) هي الأخرى تعطينا، جانبا مظلما، من جوانب هذا المجتمع، بما فيها من تحجر وعبودية، فحب العذراء لشخص غريب عنها، واغتنامها لبعض الأمسيات الوادعة، تقضيها في التطلع - على بعد - إلى حبيبها، جريمة لها جزاءها الرادع، عند ابن العم الغيور. وهل غير لقتل من جزاء
على أننا نلاحظ أن (لخاتم الماسي) أقل نجاحا من الأقاصيص السابقة، وسرها أنها فاقدة الحركة، وعقدتها - كما يعبر الاصطلاحين - ساذجة. فقد حاول الأستاذ شاكر أن يسرد لنا في أقصوصة هذه (الأفكار) التي راودت بطل القصة، عندما عرض عليه (أحدهم) أن يشتري خاتما ماسيا، ومهما تكن حقيقة هذه الأفكار، ومن تطرقها للعدالة المطلقة، وصلاحية العقاب الاجتماعي، فهي تظل كما قلنا، وما ذاك إلا لأن (الفكرة) يجب أن تتواري، في الأقصوصة وسائر الأعمال الفنية - بحيث تدرك أهدافها وانية، وبطيئة، فشخصيات الأقصوصة إذا ما أصبحت رموزا يلتقطها الكاتب إدارة أفكاره، تفقد قيمتها، ويبهت الإطار وكذلك (الأغلال) فهي إلى الخيال أقرب، ولعدم واقعيتها، نستبعدها، فما في كل يوم نلحظ حمالا (صبيا) يكتري بخبزه اليومي، دراجة ليتعقب خطوات حبيبته الأرستقراطية، المترفة، وما في كل ليلة نلحظ وقوف مثل هذا الحمال تحت شرفة حبيبته. على أننا نستثني نهايتها فهي يتفق والواقع
ولم يبق لدينا إلا أقصوصتان الأولى (الدخيل) ونراها ذات صبغة علمية بحت (تستند إلى مفاهيم علم النفس) فمن المستبعد أن يبلغ الإدراك في طفلة لم تتجاوز السادسة لمثل هذا الحد، فالغير لا تتبلور إلا في سن المراهقة!
والثانية (قلب كبير) فهي مريحة القراءة، موفقة في تحليل نفسية الفتاة الغربية المراهقة، ولعل أعمق ما فيها تصويرها لفتات الفتاة، ونظراتها إلى صاحبها أثناء التقائه (مصادفة) بصويحباته، العابرات
ونظرة موحدة إلى أسلوب الأستاذ شاكر تعطينا ما نريد، فقد سار بطريق عرض موحد، إذ ألقى في كافة الأقاصيص، مهمة (العرض) إلى أبطال الأقاصيص نفسها، فكل واحد منهم يقص (قصته) وهذه الطريقة لها ميزاتها الخاصة، وموفقة في التحليل النفسي، إذ توهم القارئ أن البطل (المتكلم) قريبا منه كأنه يسر إليه خاصة بهمومه، ولو حاول الكاتب أن (يتملص) في بعض أقاصيصه من هذه الطريقة لكان عندي أحسن، فللتنويع اهميتة، لئلا يتداخل الملل في نفس القارئ، ولئلا يلمس الرتابة في العرض
وجمل الأستاذ واضحة العبارة، مألوفة، فلا التواء في للتعبير ولا تعقيد في المعنى، ومحاولة الأستاذ في تفصيح العبارات العامية العراقية وإدخالها في أقاصيصه محاولة ناجحة، بارزة الإيماء، إذ أدخلت على الأقاصيص جوا واقعيا، نابضا، والحق أن أهم مشكلة تواجه القصاص، هو هذا التباين الصارم بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، فإذا ما أراد الكاتب إدارة (حواره) باللغة العامية، تقلصت دائرة قراءتها، وأصبحت محلية، وإن يفقد بذلك أعز ما يتاح للأديب، اعني إبراز الروح الكامنة وراء الألفاظ، وفق ما يتداولها الناس، وإزاء ذلك، فمحاولة الأستاذ محاولة تنعش أدبنا المتكاسل وتزيده كمالا
ونود أن نشير إلى تلك اللوازم التي يلتزمها بعض أبطال الأقاصيص، ففي حياتنا كثيرا ما نشاهد مثل تلك اللوازم، تتكرر، بصورة لا إرادية أثناء الأحاديث، وقد تبلغ مرحلة من السيطرة بحيث يعجز صاحبها أن يسترسل في كلامه، إذا ما حاول إسقاط تلك اللوازم، وهي وإن وردت في بعض الأعمال الفنية العظيمة (مثل الشيء الصغير)، فهي جديدة على أقاصيصنا العربية، ولها دلالتها الخاصة في خلق جو حيوي ملائم
هذا وعهد جديد يمثل مرحلة انتقال في الأقاصيص العراقية فللمؤلف شكرنا
بغداد
سليم عبد الجبار