مجلة الرسالة/العدد 976/شذرات في الحياة
→ شعراء من أشعارهم | مجلة الرسالة - العدد 976 شذرات في الحياة [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 17 - 03 - 1952 |
(مهنة) الصداقة. .
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
إن ابتغاء صاحبي منصرف إلى ضرورة تصوير حقائق الحياة في ألفاظ، ومعان، وعبارات؛ فقد وقر في نفسه توقير البيان، وهمي على وقدة ثورته غيث الغوث مما يعاني من ضيق يشغل باله، وحزون مضايقات تعقد حزنه!
جاءني هذه المرء في تأفيف الضجر، وهو ينفخ في موقد غيظه؛ فحسبت أن أمرا عقيما التاث عليه عقمه، أو حادثاً مفاجئاً أذهب باتئاد صبره، ورأيت التثقيل عليه في المساءلة قد يدعوه إلى البرم بي؛ فخففت ولم استخف، وما زحته من دون أن أسف. ثم قلت: ماذا دار في فلك دولتك هذا اليوم؟
قال وقد لمعت في عينيه بوارق غضب: يحسبك الناس على انطوائك غير بصير لكنك تحب المشاغبة الساكنة، والإغاطة الساهية، وترسل القولة معربدة في حيائها، وهذا ما يجعلك معقدا في اعتقادي.
قلت: لا يعقد نفسه إلا (البسيط) وأحسبك تعلم أن حر النار قد يكون تحت رمادها، ولست على ما ترى، غير أن كثرة التعرف على الطبائع يعطي المرء حاسة الخبرة، ويوقفه على دقائق النفوس؛ فالبله أو التباله فيه شيء من الفطنة، كما أن مدعى الصمم يعرف رأى الناس فيه حينما يهمس الجبن في أذن النفاق، ويتكشف الواقع من بين صفاقه الإبهام!
قال: كأنك تقر اعتقادي في أنك داه بدهائك.؟
قلت: قبح ذو الدهاء المسخر عقلة للسخرية من الناس!.، وجمل ذو الفطنة الذي يفطن إلى الأمور من دون أن يفطن أليه أحد.
قال: أما قلت لك: إن تلاعبك باللفظ يستر ألاعيب نفسك؟
قلت: إن الحياة في عرف الحكماء ألعوبة، وعند اللاهين أرجوحة، ولدي القانعين دمية، وفي مرأى المخدوعين امرأة حسناء، وعند الشعراء رجاء مضيع، ولدي البخيل صديق ودود لا يخون عهده ولا يمنع رفده، ولا يقطع رده!
قال في سرور ساذج: لقد أتيت بما أردت؛ فقد دار في فلك دولتي كما تقول خاطر نحو الصديق، وقد قالوا: إنه مشتق من الصديق، وذهب الطيبون من الناس يستطيبون الحديث في شأنه ويصورونه صورا تخلب اللب، وتسترق القلب، حتى يحسب الإنسان أنه حقيقة من الحقائق التي يجب الإيمان بها، غير أني لست بمصدق شيئاً من ذلك؛ فالحياة لا تقرنا على ما ندعى ووقائع الأمور تنافي دعوانا في وجود هذا الشيء الذي أطلقوا عليه أربعة حروف يمكن الاستعاضة عنها بأربعة آخرها القاف أيضاً. . .!
قلت: ماذا؟. . ماذا. .؟، إنك تضرب في واد بعيد؛ فإن الرأي وليد المعرفة المستفادة من طبيعة الأمور؛ فما هي الألفاظ التي تريد استعاضتها حتى تصور حقيقة كلمة (صديق)!؟.
قال: لن يفلت زمام القول مني؛ لأعلمك مدى تعلقي بالحقائق، وعدم تحلقي بالأوهام.
قلت: قد يكون الوهم في بعض الأمور تصويرا لحقيقة عائبة لكني لا أريدك على ملازمة عقيدتي في تقدير طبائع الأشياء. . .
قال: على أية حال؛ سأعلمك أن الأحرف الأربعة لن تترك مدلولها في ذاتها لا تتعدى تركيبها إلى إنسان من لحم ودم؛ فلنقر بأن هناك صورة (لفظية) اسمها (صديق) لكن اللحم والدم مصوران في تصوير لشيء آخر مخيف، مفظع كئيب لا تود العين أن تقع عليه. . .
قلت: أعترف بأن بحثك مشوق، لكني لا أعلم قدر تسميتك لمن نطلق عليه اسم الصديق وهو موضع الأنس، وأصل الرجاء، وهتفة القلب!
قال - مستضحكا -: كلام شعر!، وكم جنى الشعراء على أمثالك؟
قلت: إنك لعنيف اليوم، فرقق ويرفق!
قال: لعلك بدعوتك إلى رقتي وترفقي تريد إنزالي منزلة ما تتوهم أنه (صديق)؟
قلت: ومن ذا أنت إذن؟
قال: أنا رجل أستطيب الحديث معك؛ فأحادثك أضيع وقتي في أمر ذي بال لأني لست عاشق لعبة النرد أو الورق أو (الشطرنج)!
قلت - معجبا -: تريد القول بأن تعرفك على مصدره (رغبة) في نفسك تريد الإفضاء إلى إحساس مشترك؟
قال. لقد قاربتني، وأدنيت شعورك مني؛ فلولا رغبتي في قضاء وقت ما أريتك وجهي.
قلت: أو تجابهني بهذا القول؟، أما نعلم أنه موضع إبجاعي؟ قال: قلتهلأني لست في منزلة (صديق)!
قلت: وما الذي كنت تصوغه إذا أنزلت نفسك منزلته؟
قال - في تهكم -: أقول: جئت لأطالع طلعتك البهية!!
قلت: وبماذا تطلق على نفسك إذ ذاك؟
قال: أطلق أربعة أحرف كما قلت، وسيكون آخرها (القاف)!.
قلت - معجلا -: قل؟. . جعلت فداءك. .
قال: (نفاق)!!.
أليست كلمة أنيقة، رشيقة، دقيقة؟، أليس فيها وقع موسيقى على السمع؟ لكن ما أقسى وقعها على قلوب الأطهار!
قلت: لقد كان اليوم دورك في هذا البحث الشائق، لكني أزيد عليه بأن الصداقة غدت (مهنة)، تسير ركاب المنافع، وتنصرف إلى النفاق لتستقر في الأعماق!!.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر