مجلة الرسالة/العدد 973/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 973 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 25 - 02 - 1952 |
انتقام الأميرال
للقصصي الفرنسي أرنست دوويه
كان القصر العتيق يجثم كالحصن الجبار فوق صخرة عظيمة هائلة على سيف البحر. وكانت الشمس حينذاك تضيف للغروب وتنحدر رويدا من شارف السماء، إلى ما بين الأفق والماء. وقد سالت حولها أباطح الدم، وارتسم على جبينها الكلال والابن. ويشرف القصر أيضاً على الطرق الممتد إلى (برست) وعلى قارعة هذا الطريق تقع الميناء وقد أطلت من وزرائها سواري السفن ومداخنها مصبوغة بألوان الشفق الزاهي الجميل. . . ومن نوافذ القصر الضيقة بان البحر كأنه بساط من سندس وإستبرق تجري عليه السفن بقلاعها التي يهددها نسيم الأصيل فتتموج، وتداعبها الرياح الخفيفة فتترجرج. . . وتعلو من القصر المنيف قباب وأبراج شامخة في الفضاء تتحدى الزوابع العاتية والعواصف الهوجاء. . وتحف أغصان الأشجار اللفاء الوارقة بجدران تحركها الرياح العواتي فتبدو كضفائر جافة خشنة لطيف امرأة تضرب فزعا في الليل المدلهم. . . وعندما غسق الليل وأجن الكون في مسوحه الطاخي الأسحم، أترعت السماء سحاب ثقال منشئات تحركها العواصف الهوج في شدة وعنف. وعب عباب الرياح فهاجت الأمواج الصاخبة المزبدة فراحت تصطدم بصخرة القصر الهائلة وتنحسر عنها فيسمع لها زئير كزئير الأسد وهزيم كهزيم الرعد.
في تلك الأثناء كان الأميرال المركيز (دي بك هيلوين) جالسا إلى عضد صغير وضع عليه بضع رسائل عفى على لونها الزمن فاصفر وخال، وبضع زهور ذاوية ونوط قلادة وشريط من الحرير الأزرق، وبجوار هذه الأشياء صندوق صغير مفتوح من خشب الأبنوس المطعم بالعاج، كان ولا ريب يضم تلك الآثار الغرامية المتناثرة على النضد وتجلت إمارات الحزن على وجه الأميرال بينا لمعت عيناه فجأة ببريق الغضب المسحور.
وكان الأميرال رجلا رقيق البدن واهن العظم له وجه مغضن بارز العضام، وعينان غائرتان قد أنطفأ فيهما التألق والبريق، ويدان معروقتان عاريتا الأشاجع. وعلى الجملة كان بدنه المنهوك قد ذبل بفعل المرض الذي يفتك به فتكا ذريعا. ولقد فقد أميرال البحر العظيم قوة العزم التي كانت تسبح ثائرة في دمعه وتشع من عينيه، وخفت فيه ذلك الصوت الجهوري المليء الذي كان يمزق العواصف ويطغي عليها. ولم تبق فيه ذرة من القوة التي طالما أعجب بها رجال أسطوله وبحارته من قبل. وأبت الجرأة والبسالة أن تسكنا ذلك الجسم المهدم الفاني ففارقتاه بعد إذ كانتا تفوران فيه فورانا حينما كان يزخر بقوة الشباب ويموج بفتوة الرجولة واشتد به السقام حتى صيره هزيلا ناحلا. ولم يبق عليه المرض الجاثم فوق صدره ألا ليعالج هذه الجريمة النكراء التي اكتشف الآن فقط دليلها الحاسم، وليرى مدى قدرته على الثأر وهو من الموت قاب قوسين أو أدنى.
لقد تسلم صباح اليوم رسالة من (نيس) حيث أعتاد أن يقضي فصل الشتاء من كل سنة، يقول فيها كاتبها: (لقد خلت أربع عشرة سنة وزوجك ممعنة في خيانتك، دائبة على العبث بشرفك؛ ولعلك وحدك الشخص الذي لا يعلم شيئا عن علاقتها الآثمة بمساعدك السابق الكابتن (فوشيرون). وإذا أردت على ما أقول شاهدا ودليلا فاذهب إلى مخدع المركيزة، فهناك من ناحية رأس السرير ترى تحت إحدى الصور المعلقة خزانة في الحائط، بها صندوق صغير. افتح هذا الصندوق واقرأ ما فيه، فستنقشع الغشاوة عن عينيك، وتتبين بوضوح ما غاب عن بصيرتك كل تلك السنين المواضي).
وعزا المركيز هذه السعاية إلى خادم مطرود. لذلك قضى سريعا على ما أثاره الخطاب في نفسه من شكوك وأوهام، وفرك الرسالة في يمناه وهم بتمزيقها لولا أن حاك الشك في صدره فأرجع الكتاب يتلوه مرة أخرى. . . وللمرة الأولى في كل حياته مع زوجته تساوره الظنون والريب. وتحامل على نفسه وغادر مضجعه، ثم راح يجر نفسه جرا، وفي الحرز المعين في الكتاب ألفى أدلة الاتهام السود.
وراح يتمثل ويعجب كيف مرت عليه هذه السنون الطوال وهو غارق في لجج هذا الوحل دون أن يدري. . . ها هو ذا يمضي إلى مثواه الأخير تكتنفه قرائن الجريمة الدنسة التي اكتشفها اليوم فقط هازئة ساخرة. . . فكيف إذن يتسنى له الثأر لنفسه من هذين المجرمين قبل أن ينطفئ سراج حياته الخافت الضئيل.
يا للخيانة والغدر! أزوجه الذي شملها بحبه ووهب لها كل قلبه؟! ومرؤوسه الذي أمطره بوابل من عنايته، وغمره بفيض من صداقته. . يا للعار ويا لدرن! أنسى هذا السافل الخؤون، هذا الجاحد الكنود. . . أنسى كيف كان يرعاه كابنه وزيادة؟ وهذه الشقية زوجه؟ لا نكران أنه اقترن بها والفرق بين عمريهما جد كبير. إذ كانت في العشرين وهو في الخمسين. . . بيد أنه ليس ثمة من ينكر أيضاً أنه انتشلها من وهدات اليتم والمسبغة، وأضفى عليها لقبه المجيد التالد وقلبها في ثرائه الواسع وضمن لها الحماية والرعاية في حياته، وسيخلع عليها من تراثه درعا يقيها من بعده عدوان الناس وغدرات الزمن. أبدا. . ما أرغمها امرؤ على الزواج منه، بل كان هذا على اختيار منها ورغبة. . . ولم يكن يوما ليني عن تلبية رغبة لها مهما صعبت وشقت. فالصيف في الريف الجميل الساحر، والشتاء في أرفع فنادق باريس الفواخر. أو إذا شاءت في قصره العظيم في (نيس). في كل حفل كانت تبدو زينة الأتراب والصواحب، وفي كل جمع كان يعلو بها اسم زوجها إلى أرفع مكان وأسمى منزلة بين سائر الفتيات والعقائل. وبينا كان يثق في وفائها وإخلاصها ويعجب بجمالها وفتنتها ويتيه لسحرها وأنوثتها، إذا هي تخونه وهو لا يدري.
لقد خدم بلاده أربعين سنة سويا. حارب في أفريقيا وفي المكسيك، وحاز أرفع القلائد والأوسمة، وجلب المجد والفخار لأبنه. . . ثم ماذا بعد كل تلك الحياة الحافلة بجلائل الأعمال وطيب المآثر؟ عار تجلبه عليه هذه المخلوقة الشقية وهو من الموت على شفا جرف هار.
وليت الأمر قاصر على هذا فحسب، بل جرته إلى شك مظلم يتخبط فيه حتى ليكاد يذهب عقله فيمضي إلى رمسه مخبولا. ابنه (باتريك) زهرة آماله وعمره الثاني. . . ابنه هو، أم ابن غريمه فوشيرون؟ باتريك. لقد شب ونما في قصره العتيد حيث تقضي أمه كل شتاء وحيث كان يذهب هو ليعانقه ويتملى من رؤيته. أنه يبدو قويا كغصن شامخ فتي، ويتجلى الزهو والكبرياء في نظراته، ويبدو الصلف والخيلاء في لفتته، وتنطلق ملامح وجهه بقوة العزم وشدة المراس. يا له من إله صغير من آلهة القوة والجمال! خير خلف لأشرف سلف. ومما زاد الرجل تعلقا بابنه وحبا له أنه ورث عنه قوة العزم وصلابة الرأي وثبات الجنان.
والآن تقضي هذه الجريمة التي اقترفتها زوجه على كل تلك الذكريات السامية حول ابنه وذلك الإعجاب الذي يجنه الرجل لوحيده.
وأمسك الرجل التعس رأسه الثائر بين كفيه كأنه يمنعه من الانفجار، وسرت حمى الغضب في دمه فغمغم وهو في تلك الحال من اليأس والضعف والمرض.
- سأنتقم لنفسي. . . سوف أثأر لشرفي. . .
ولكن كيف؟ أيقتل ذينك اللذين لوثا اسمه ولطخا شرفه وكيف السبيل إليهما وهذه الفراسخ العديدة تفصلهما عنه، فلا هو بمستطيع أن يبلغهما، ولا هما ببالغيه قبل أن يموت. . . وأوغل في سبل الانتقام الكثيرة المتشعبة. . . وأغطش الليل ولما يهتد فكره إلى سبيل يبلغه طيته فيشفي غليله. . . واستلقى على الفراش بقلب ممزق وأضلع تكتنز نارا تكاد تأتي على بقايا جسمه المحطم.
وعندما انصدع عامود الفجر أقبل طبيب الطوافة (العتيد) التي اعتلاها علم الأميرال طويلا، ليعود رئيسه العليل؛ وذعر لدى رؤيته وجه رئيسه الشاحب الممتقع، ودهش لتقدم المرض السريع في يوم وليلة. . . ونم وجهه عن ذعره ودهشته فقال الأميرال:
- قل إني انتهيت يا دكتور.
لم يضع الأمل بعد يا سيدي. . . إنك في حال سيئة ولكن. . .
- لا تراوغني. لقد صمدت للموت مرارا، ولا أود أن يأخذني هذه المرة على حين غرة. قل الحق إني آمرك. . .
فظل الطبيب صامتا لا ينبس دقيقتين قال بعدهما:
- سيختارك الله هذا المساء على الأكثر يا سيدي إن لم تحدث معجزة وتلقى الأميرال الصدمة بكل ثبات. . . قال:
- حسن. . . وستعودني طبعا مرة أخرى. . . أليس كذلك؟
- بالتأكيد يا سيدي الأميرال. ألا تحب أن تخطر سيدتي المركيزة؟
- وأي جدوى في ذلك وهي في نيس. ثم إني لا أود أن أحملها الحزن فجأة. إنها تعلم أني مريض، وستعرف على كل حال أنها ترملت، ولكن يجب أن يكون هذا بعد أن أموت.
فانسحب الطبيب
وقابله باتريك لدى الباب فقال له:
كيف أبي؟
فلم ينبس الطبيب بل أجابت عنه عيناه، فأسرع الصبي نحو أبيه بقلب جزوع. فنهض الأميرال بجهد جهيد على مرفقه وقال: - أدن مني يا بني. إن لي حديثا معك. . . إنك في الثانية عشرة من عمرك يا باتريك، ولكني مضطر أن أحدثك كما أحدث رجلا.
ولم يأخذ منهما الحديث طويلا. ولكن حينما انتهى ومضت عينا الصبي ببريق من نار، وتثلج بدنه حتى كأنما انتقلت برودة الاحتضار من بدن أبيه إلى بدنه. وفي أثناء هذا الوقت القصير انتقل فجأة من طور الطفولة إلى طور الرجولة، وما تحمل من متاعب وأعباء.
وفي السنة التي تلت ذلك، أي بعد موت الأميرال بعشرة أشهر أو تقل راح الناس يلغطون بقرب زواج أرملته من الشاب الوسيم القسيم فوشيرون. تناقلوا ذلك فيما بينهم في غمز ولمز كأنما كان ذلك عين ما يتوقعون. ويبدو أن العاشقين قد آثرا بعد علاقتهما الدنسة الآثمة أن يرتبطا بعلاقة يقرها العرف والدين.
ووصل الكابتن فوشيرون ذات صباح إلى القصر العتيد حيث تنتظره المركيزة مع ابنها بعد إذ قضى زوجها نحبه.
وعندما متع النهار وارتفعت الشمس دخل باتريك على أمه يحمل من الأعباء ما ينوه به عمره الصغير. قال لها:
- أحقا أنك تعدين العدة للزواج من الكابتن فوشيرون يا أماه؟
فأجابته بصوت مضطرب.
- من أبلغك هذا؟
لم ينبس الغلام. فاستطردت المرأة
- على كل يجب ألا يستجوب الغلام أمه.
- إني لا أقبل مهما يكن الأمر أن يشغل الكابتن فوشيرون مكان أبي.
لا تقبل! ماذا تقصد بهذا الهراء؟ ثم أشارت إلى الباب ماضية واستأنفت.
- أخرج من هنا حالا يا سيدي.
فانصرف من لدنها إلى غرفته، ثم غادرها بعد بضع دقائق إلى غرفة فوشيرون واقتحمها دون استئذان واضعا إحدى يديه فغي جيب بنطلونه.
وكان فوشيرون يحلق لحيته أمام مرآة، فاستدار نحو باتريك وقال:!
- إن اللياقة تقضي بدق الباب قبل الدخول.
أنه بيتي يا سيدي، ومن حقي أن أدخل أية غرفة فيه بدون دق ولا استئذان، ثم أن لي حديثا معك.
- لك حديث معي؟ تكلم
- إني أعلم سبب وجودك هنا. وإن ما تبغيه لا يمكن أن يتم. ويجب أن ترحل الليلة على ألا تعود أبدا. إنني أمنعك من الزواج بأمي.
- إنك مجنون ولا ريب أيها الطفل.
- من الخير لك أن تطيعني.
- فشحب وجه فوشيرون من شدة الغضب. وومضت عيناه من فرط الغيظ. وقال:
- أخرج أيها الغرير وإلا عركت أذنيك. واتجه نحو باتريك رافعا يده فتراجع الغلام عنه ثمة وأخرج من جيبه شيئا كان يخفيه، مسدسا ورفع به يده. ضغط الزناد، فأنطلق.
فأنشق صدر فوشيرون عن صرخة هائلة دوت في سكون القصر العميق. وترنح ثم سقط جثة هامدة وقد اخترقت الرصاصة جبينه. . .
وأقبلت الماركيزة على عجل ورأت كل شيء. . . ثم صرخت تقول بعد أن ألقت بنفسها على ابنها وجردته منة سلاحه.
- ماذا فعلت أيها الشقي؟
وتركها باتريك تأخذ منه السلاح ثم قال: وقد رآها ترتمي على الجثة تبكيها وتندبها!
- لقد أنبأني أبي قبيل وفاته أن هذا الرجل عدو لي وعدو لك، وأوصاني بحمايتك من شره وغدره حتى ولو أدت الحال إلى قتله. وقد نفذت وصية أبي.
ثم أشيع بين الناس أن الكابتن قوشيرون مات منتحرا
م. ع