مجلة الرسالة/العدد 972/ذكرى وفاة الشيخ مصطفى عبد الرازق
→ بنات العرب في إسرائيل | مجلة الرسالة - العدد 972 ذكرى وفاة الشيخ مصطفى عبد الرازق [[مؤلف:|]] |
النجم الذي هوى ← |
بتاريخ: 18 - 02 - 1952 |
للأستاذ محمود الشرقاوي
في 15 فبراير الحالي تتم سنوات خمس على وفاة المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق. وقد أحببت، في هذه المناسبة، أن أبعث (للرسالة) بهذه الكلمة، لا عن مصطفى عبد الرازق الأستاذ في الجامعة، أو الوزير، أو السياسي، أو شيخ الأزهر. وإنما عن مصطفى عبد الرازق. فمصطفى عبد الرازق، بصفاته، وخصائصه، ومميزاته، هو الذي أريد أن أكتب فيه هذه الكلمة.
كانت أبرز صفات مصطفى عبد الرازق: رقة العاطفة، والتواضع، وحب الخير، والاعتداد بالنفس.
تحدث بعض تلاميذه - وقد تولى منصبا جليلا في القضاء - فقال: كان الشيخ مصطفى يدرس لنا في الأزهر مادة (الإنشاء) فوجد واحدا من طلبته زري الهندام، ولاحظ بعض إخوانه يكاد يعيره بذلك، وظن طلبة الشيخ أنه غير منتبه لما يجري بين هذا الطالب وإخوانه. ولكنه في أثناء الدرس، تطرق إلى موضوع القيمة الذاتية للفرد، وأنها لا تخضع لمقياس الثروة والجاه، وأن المال والثياب لا تجعل الرجل عظيما، وإنما قيمة الرجل وعظمته في فضائله وعلمه وآدابه.
وكان ليقظة الشيخ، ولطف توجيهه لأبنائه، وعدم إشارته أي إشارة للطالب الفقير، أكبر الأثر في تقويم تلاميذه وإدراكهم لما يقصد، واستقامة نفوسهم بعد ذلك، وصدق مودتهم بعضهم لبعض.
وقص تلميذ الشيخ فقال: وشكا واحد من طلبة الشيخ مصطفى إلى صديق له قلة ماله، وأنه يخشى أن تقطعه الحاجة عن طلب العلم، واستشاره، فقال له صاحبه، بعد تفكير، ليس لك إلا أستاذنا الشيخ مصطفى عبد الرازق. فقصد الطالب المحتاج بعد تردد، بيت شيخه، وكان لا يزوره، فلما أقبل على الشيخ وفي مجلسه جمع كبير من العظماء وأهل المكانة، قام الشيخ لاستقباله مرحبا، وقدمه لضيوفه مادحا له، ذاكرا نبوغه في الطلب وحسن استعداده وذكاءه، ثم أدرك الشيخ بعد قليل، من حياء تلميذه وتهيبه، أنه يعالج في نفسه شيئا، فأستأذن ضيوفه واختلى بتلميذه، فلما سمع منه قصته قال له: أمهلني أسبوعا ولا تجزع، وعد إ بعده.
وبعد أسبوع مر الطالب على شيخه فوجده قد وفق لتعيينه في وظيفة أعانته على مداومة الطلب. وأبلغه ذلك وكأنه يعتذر عن تقصيره.
وكثيرون من أبناء الشيخ وخاصته يعرفون عشرات من مثل هذه الحادثة.
وعندما عاد الشيخ مصطفى عبد الرازق من فرنسا في سنة 1914 وكان شقيقه المرحوم حسن باشا وكيلا للديوان الخديوي اختير سكرتيرا لمجلس الأزهر الأعلى. وحدث في إحدى الجلسات أن اشترك في مناقشة المسائل المعروضة، وتأثر بعض أعضاء المجلس من مناقشته، أو من أسلوبها، فقال له المرحوم حسن باشا جلال، وكان عضوا بالمجلس: يا شيخ مصطفى، أنت سكرتير، ولست عضوا معنا. أنت تكتب ما نقول ولكنك لا تشترك في المناقشة. فسكت الشيخ قليلا، ثم قام، ولم يتكلم فأخذ ورقة، وأقفل درج مكتبه، وذهب إلى بيته ولم يعد للأزهر. فلما عرف شقيقه حسن باشا ما حدث، اتصل بحسن باشا جلال معاتبا، فقال له: إن مصطفى ابني، وقد أردت توجهيه وإفادته. وزار جلال باشا بيت عبد الرازق، ثم عاد الشيخ مصطفى سكرتيرا للمجلس.
وقد قص علي هذه القصة من كان يحضر مجلس الأزهر الأعلى في ذلك الوقت.
وقص علي الشيخ، يرحمه الله، هذه الواقعة، قال:
كان أبي رحمه الله، وأنا أطلب العلم في فرنسا، يرسل إلى في أول كل شهر نفقاتي وكانت تصلني في موعد لا يتخلف. وفي شهر من الشهور ترقبتها في موعدها ولم ترد، وبقيت أنتظر يوما بعد يوم، حتى قل ما بيدي من المال قلة شديدة. وكنت شديد الحرص ألا يعلم إنسان ما أنا فيه. فلما خشيت أن يعلم أمري قصدت متسللا إلى السوق أبحث عن أرخص طعام في ذلك الوقت أشتريه بما بقي معي من فضلة مال، فكان أرخص الأشياء الموز، فابتعت منه كمية كبيرة بمال قليل، ووضعتها في حجرتي، وجعلت أنفرد فيها وقت الطعام لآكل منه ثم أدركت بعد ذلك أني تركت مسكني إلى آخر ولم أبلغ البنك ذلك. فلما ذهبت إلى البنك وجدت نفقاتي فيه في موعدها، ولكنه لا يستطيع إبلاغي وحمدت الله أن سترني ولم يعرف أحد كيف قضيت أيامي تلك.
وفي سنة 1936 - على ما أرجح - اختير رحمه الله ممثلا لمصر في مؤتمر المستشرقين.
وقبل سفره بأيام، قصدت إليه عن جريدة (البلاغ) أتحدث إليه في سفره ومهمته، وموضوع بحثه. فلما تحدث إلى في ذلك بما كفاني طلبت منه صورته لأنشرها مع حديثه، فعند ذلك رأيت وجهه قد كسته حمرة وقال: وهل أنا رجل كبير حتى تنشر صورتي في الصحف. . .؟ ومع أني حاورته في ذلك محاورة شديدة وألححت عليه إلحاحا شديدا فإنه غلبني بقوله: أرجوك أن تقدر رغبتي وتعفيني من هذا الطلب. فأعفيته وقد زاد إعجابي به وحبي له.
ولكن هذه الصفات نفسها، من الحياء، والتواضع، ورقة العاطفة، وحب الخير، وهي كلها فضائل، كانت سببا في متاعب عاتية وقع فيها وهو شيخ للأزهر. وتعبيري بكلمة (متاعب) فيه كثير من التساهل، وعندما يكتب تاريخ هذه الفترة، التي قضاها الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخا للأزهر، سيعرف الناس أي ظلم، وأي مضض، لقيه الشيخ في مشيخة الأزهر، لبعد، أو تناقض ما بين طبيعته وبيئته إذ ذاك.
ذهبت إليه، بعد عودته من الحجاز، وكان أمير الحج في سنة 1946 وقبل أن يؤوب إلى مكتبه، وكان في نفسي كثير من الضيق، بسبب أشياء ظالمة كتبها عنه رجال من شيوخ الأزهر، فأخبرته بها وقلت له: إن هذا الذي أحدثك به، كتبه القوم بأسمائهم وأعلنوه على الناس، وهو متداول بينهم مشهور. ولولا ذلك ما حدثتك به. فغضب رحمه الله حتى اضطرب، وفارقه أنسه، وظهر عليه الضيق حتى أشفقت عليه. ثم قال بإصرار وحزم: لن أسكت على ذلك.
وبعد أيام رجع إلى مكتبه، وجاء إليه الشيوخ الذين كتبوا فيه ما كتبوا، وكان قد قرأه، فاستقبلهم مرحباً، وآنسهم، واستبقاهم، وودعهم إلى باب حجرته شاكراً، مكرراً شكره.
وقد عرفني الشيخ، وعرفته دهراً طويلا، وأحببته، وكيف لا أحبه؟ ثم وقعت في نفسه نحوي جفوة لم أدرك أسبابها إلا بعد موته. فعسى أن يغفرها الله لي، وأن يغفرها لي الشيخ أيضاً؛ فقد كان يغفر، حتى لظالميه.
هكذا كان الشيخ مصطفى عبد الرازق في شبابه، وهكذا كان في كهولته وشيخوخته.
رجل وهبه الله أجل هباته من الجاه، والمال، والمجد. ووهبه أجمل هباته من الخلق الطيب والحياء الجميل، الذي يزيد صاحبه رفعة، ومهابة، ومحبة. وجعل حياته كلها مثلا كريما للعمل الخير الدؤوب الذي يصدق أن يقال في صاحبه إن يسراه لا تعرف ما تقدمه يمينه.
من أجل ذلك كان فقده موجعاً أليماً، ومحبته باقية في قلوب الذين عرفوه فأحبوه، وأيقنوا أنه من طراز قل أن يوجد في الرجال.
محمود الشرقاوي