الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 972/بنات العرب في إسرائيل

مجلة الرسالة/العدد 972/بنات العرب في إسرائيل

بتاريخ: 18 - 02 - 1952


للأستاذ علي الطنطاوي

هذه قصة واقعية قرأتها ملخصة في سطور في كتاب (من اثر النكبة) للأستاذ نمر الخطيب، بطلها رجل من فلسطين يحسن الإنكليزية كان له صديق من أعضاء اللجنة الدولية، سأله أن يأخذه إلى تل أبيب ليجدد ببلاده عهدا، فأجابه إلى ما سأل وألبسه لباس أعضاء اللجنة حتى غدا كأنه واحد منها.

ووصلوا تل أبيب، فأنزلهم اليهود في فندق عظيم، وأولوهم أجمل العناية وأكبر الرعاية، حتى لقد أخبروهم أن إدارة الفندق ستبعث إلى غرفة كل واحد منهم فتاة بارعة الجمال، لتكون رفيقته تلك الليلة. قال:

ولما أويت إلى غرفتي، تمثلت لي الفتاة التي وعدت بها، فملأت صورتها نفسي وهاجت فيها أدنأ غرائزها، وأحط شهواتها، ونسيت أني في بلد العدو، وأن علي التوقي والحذر، وارتقبت ليلة (كما يقولون) حمراء، تلتهب فيها الأعصاب بنار الشهوة الجامحة، وخيل إلى منطق الغريزة أني إن نلت امرأة من يهود فقد غزوت يهود في ديارها. وثقلت علي الساعات الباقية دون الليل، وطالت دقائقها، وجثم وقت الانتظار على صدري فتقارب نفسي، وازداد خفقان قلبي، وأحسست بركبتي تصطكان، وكنت أقعد فلا أطيق القعود، فأقوم فلا أرتاح إلى القيام. وحاولت القراءة فكانت الكلمات تتراقص أمام بصري، ثم تستحيل إلى صور صبايا عاريات، وتضيع المعاني فلا أدرك إلا المعنى الواحد الذي هو في ذهني.

وكذلك تصرمت ساعات، ما أظن أنه مر علي في عمري أثقل منها. وما أظن لذائذ الوصال لو جمع لي ما يلقاه الناس كلهم منها، تعدل آلام هذه الساعات.

. . . وجاء النادل (الكارسون) يقدم إلي فتاة، جرفتها ببصري في لمحة واحدة، وجردتها بخيالي من ثيابها في ثانية، فرأيتها عارية أمامي، وجمحت بي الغريزة حتى لا أقدر على الصبر عن عناقها دقيقة، وعن ضمها إلي، وعن أن أشد يدي عليها، ثم آكلها عضا.

وكانت شقراء لها شعر ما علمت قبل اليوم كيف يكون الشعر كأسلاك الذهب، يتموج ويسترسل على كتفين مستديرتين كأنهما. . . ولكن مالي وهذا الولع بالتشبيهات، وبماذا أشبه كتفي فتاة عبلة في السابعة عشرة؟ وكان يبدو من جيب ثوبها الفاضح خط ما بين نهديها، كأنه خيط يسحب القلب من صدر رائيه، وأنف أشم كأنف صبي من ولد الإغريق الأولين، وفم كأنه زر ورد أحمر.

وكان ثوبها ينحسر عن ساقين ممتلئتين مستديرتين، يقطر الصبا منهما والجمال، ولم تكن فتاة ولكنها كانت فتنة في ثوب امرأة. وكان الحب الذي غنى له الشعراء، وسبحوا بحمده مصورا فتاة. كذلك كنت لما ثبت النظر أخيرا على عينيها.

لقد كانت لها عينان، لا يستطيع السمو إلى وصفهما البيان؛

عينان فيهما شيء لا أدري ما هو، ولكني أحلف أني ما مكنت بصري منهما حتى أحسست بأن أعصابي المشدودة قد استرخت، وأن دمي الفائر بالشهوة قد برد، وأن قد طارت من رأسي كل فكرة جنسية، وامتلأ قلبي عطفا وحنانا، كأن أمامي قطة صغيرة وديعة حلوة الوجه، ناعمة الشعر. هذا ما شعرت به وأن أعتذر من غرابة هذا الشعور، وتوهمتها من طهر عينيها زنبقة من زنابق الجبل، بيضاء كالثلج، نقية كالندى، لم يمسسها إلا نسيم الأصيل، ولم تقبلها إلا أشعة الشمس، ولم تبصر عريها إلا عين الشتاء.

وعجبت أنا من نفسي، مما عراني، قبل أن يعجب القارئ مما أروي.

عجبت كيف تكون لي هذه العاطفة على بغي!

أو ليست بغيا هذه التي يقدم جسدها اليهود قرى لضيوفهم كما يقدمون لحوم الخراف وشحوم الخنازير؟ وعدت أنعم النظر إليها، فأرى صبية في ثياب الغواني، ولكن في عينيها حياء العذارى، وأرى فيها ملامح رقة وتهذيب كأنها ملامح طالبة من طالبات المدرسة، لا فتاة من فتيات الليل، فرحت أحاول أن أوحي إلى نفسي أنه دل البغايا حين يسرقن نظرات الأبكار.

ووقفت ووقفت وساد الصمت والسكون، فلا حركة ولا كلام.

وعجبت هي مني أكثر من عجبي من نفسي، كأنها ما تعودت من قبل إلا لقاء وحوش في ثياب بشر، لا يرون فيها إلا ما يراه الذئب في جسم النعجة، لا يعنيه منه لونه في نظره، ولا ريحه في أنفه، ولا لينه في كفه، ولكن طعمه تحت أنيابه، وإن كان جسد النعجة ينال مرة فتموت وتستريح، وهذه (نعجة) يتعاورها الذئاب كل يوم، فهي تموت كل يوم ميتة جديدة.

وقفت متململة تحاول الابتسام فلا يلوح على شفتيها إلا بقايا ابتسامة ماتت من زمن طويل. وثقل الموقف ولم يفتح علي بكلمة، فأرادت الخلاص فأشارت إشارة المحكوم عليه إلى الجلاد ليعجل عليه بالإنقاذ ويخلصه من الانتظار الذي هو شر من الإنقاذ.

أشارت بيد إلى الفراش. كأنها تقول: تريد؟ وبالأخرى إلى ثيابها كأنها تقول: أنزع؟ وعاودت أعصابي هياجها، ولكني نظرت إلى عينيها فرأيتهما تقولان لقلبي شيئا غير ما تقول اليدان، فأجبت برأسي أن لا!

ودعوتها فقعدت إلى جنبي، وهمت بأن تلقي بذراعها على كتفي، وبصرها تائه في الأفق البعيد، كأنها تتحرك وهي منومة، فمنعتها برفق، وكلمتها بالإنكليزية، فأومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها الكلمات القليلة التي أحفظها من العبرية، فعلت وجهها سحابة سوداء من الألم، وغامت عيناها لحظة، ثم أومأت بأنها لا تفهمها، فكلمتها بالفرنسية فلم تفهم.

ففكرت هل أخاطر وأكلمها بالعربية، وكنت أعلم ما في ذلك من الأذى لي والضر بي، ولكني أقدمت وقلت لها: هل أنت عربية؟

فانتفضت انتفاضة لو كانت بصخرة لصبت فيها الروح، ولانبجست فيها الحياة. وأضاء ذلك الوجه الجميل، الذي كان عليه نقابان: نقاب من التبذل الظاهر، ونقاب من الألم المخفي، وأشرق بنور سماوي وحدقت في بعينيها العجيبتين، وفيهما لمعة الفرح، وفيهما حملقة الذعر، وقالت:

- هل أنت عربي؟

فترددت ما بين خوفي منها، وبين عطفي عليها، فخفت أن تكون يهودية فتشي بي، وأشفقت أن تكون عربية تحتاج إلى، ثم غلبت ثقتي بها، فقلت لها:

- نعم

- قالت: وأنا عربية، من أسرة (كذا) من بلدة (كذا) ومعي خمس وثمانون من بنات العرب. . . فأحسست كأن خنجراً مسموما قد أوقد عليه وغرز في قلبي، وكأن الأرض تدور بي، ولكني تثبت ولم أحب أن أفجع المسكينة بهذا الحلم البهي الذي رأيت ظلاله على وجهها، لقد حسبت من خلال الفرحة الطارئة أنها من يافا العربية، وأنها قد عادت إلى طفولتها المدللة، وعادت لها طهارة تلك الطفولة، وأنها لا تزال العذراء البكر تعيش بين أهليها وذويها في حمى الأبطال العرب الذين كانوا يحرسون أرض الوطن، وعرض بنات الوطن، وحمى الجيوش العربية التي كانت أعلامها تلوح على الآفاق الأربعة البعيدة، من وادي النيل، وجنبات الأردن، وخمائل الغوطة، وسهول العراق، وبطاح نجد، فتبعث في نفوس عذارى فلسطين الدعة والأمن، وفي قلوب شبابه الزهو والكبر، وتمنعها أن تطيف بها رهبة من يهود.

ولكن هذه الإشراقة ما لبثت أن بدت حتى اختفت. إن الصبح الذي حسبته قد انبلج بعد ما طال منها ارتقابه لا يزال بعيدا، والشاطئ الذي ظنته دنا بعد ما اشتد إليه حنينها لا يزال ضائعا في الضباب، ولا يزال مكتوبا عليها أن تقاسي الذل آماداً أخرى - لا يزال في الكأس المريرة بقايا عليها أن تتجرعها.

خبت إشراقة النور التي وقدت على جبينها. وانطفأ البريق الذي لمع في عينيها، وهيض الجناح فهبطت من سماء الأحلام إلى أرض الحقيقة التي قيدتها بها قيود اليهود. وصحت من سكرة الفرح فإذا هي حيث كانت، لا الحرية عادت ولا الأهل، ولا الليالي الماضيات تعود.

وفاضت النفس رحمة بها وحنانا عليها، فطوقتها بيدي فانكمشت والتصقت بي، كما تفعل القطة الوديعة، وأخفت وجهها في صدري، وهي تنشج نشيجا خافتا، تمنيت معه لو أستطيع أن أشتري سعادتها التي فقدتها بحياتي لأردها عليها، وأحسست أني أحبها منذ الأزل، وأني لم أعش يوما منفردا عنها، ولا أعيش يوما بعد فراقها، وأن قد امتزج منا الجسمان، واتحد الروحان، واختصر الزمان حتى كان هذه اللحظة وحدها، كما يختصر شعاع الشمس في عدسة الزجاج في نقطة واحدة، وفي هذه النقطة الأشعة كلها، فلا ماض مضى ولا آت يجيء. . .

وهتفت بي ووجهها خلال ثيابي، وأنا أحس خفق قلبها فوق صدري، كأنه حديث من قلبها إلى قلبي:

- لن أعود إلى حمأة الرذيلة. لن أعود. خذني معك، إلى الشام، إلى الأردن، إلى الصحراء، إلى أي بلد عربي لا حكم فيه لليهود. خذني أكن خادما لك، أكن أمة، أو فأعني على الموت، فإني لا أجرؤ وحدي عليه، حتى لا أهين بجسدي الملوث الأرض التي احتوت رفات الجدود.

لقد رأت في المسكينة شعاعة تخلفت من نهارها، وزهرة بقيت من روضها، فحسبت أن النهار الذي ولى وغربت شمسه يعود، وأن الروض الذي جف وصوح نبته يرجع. وهيهات هيهات! لقد فقد العرب كبرياء العرب، وأضاعوا عزة العرب، وشهامة العرب.

لقد هتفت أسرة عربية في قديم الدهر، باسم ملك العرب المعتصم فنحى الكأس وقد دعا بها ليشربها، ووثب من فوره يجيبها

(أجابها) معلنا بالسيف منصلتا ... ولو (أجاب) بغير السيف لم يجب

حتى اقتحم من أجلها جيش هرقل صاحب البرين والبحرين ونازل الروم من كانوا يوما سادة الأرض، وعاد بالمرأة وعاد بالنصر الذي طبق خبره الأرض، وطاول مجده السماء.

فهل من ينقذ اليوم آلاف النساء، نساء العرب، من سبي أذل الأمم: اليهود؟ هيهات! لقد فقد العرب كبرياء، العرب، وعزة العرب!

وعادت تقول وهي مخفية وجهها خجلا:

إن ترني اليوم ماشية في طريق الفجور، فلقد كنت يوما بعيدة عنه، جاهلة به، وكان لي أبوان شريفان وكانت لي أخت، وكانت. . .

وشهقت شهقة أليمة

. . . فهل يعلم أحد أين هي أختي؟

لقد أراد لي والدي الحياة الماجدة الكريمة - فربياني على الدين والخلق - وعلماني حتى نلت الشهادة المتوسطة، وتهيأت للبكالوريا، وأطلعني أبي على روائع الأدب، وكنوز المعرفة، وكان يرجو لي مستقبلا فكان مستقبلي. . كان. . . كان. . .

وشرقت بدمعها

لقد قتلوا أمي يوم الواقعة، أفتدري كيف قتلوها؟ إنهم وضعوا البندقية في. . . كيف أقول؟ في مكان العفاف منها، فوقعت أمامي تتخبط بدمها، أما أبي فهرب بي وبأختي وانطلق يعدو حتى لحقوه، فجعلوا يضربونه بأعقاب البنادق وبأيديهم وبأرجلهم حتى سقط. واستاقونا. . .

ورحت أتلفت وأنا أكاد أجن من الذعر، أنادي: أبي! أبي!

أحسب أن أبي يسمع ندائي بعد الذي نزل به أو يقدر على حراك. ولكن أبي قد سمع وشدت روح الأبوة، وسلائق العروبة من عزمه، فنهض يسعى لينقذني وكلما ونى ذكر أن ابنته التي رباها بدمه وغذاها من روحه ورجا لها المستقبل البارع ستغدو أمة لليهود، فتعاوده القوة حتى استنفد آخر قطرة من قواه، فسقط مرة ثانية قبل أن يدركنا.

تمر على الإنسان المصائب الثقال فينساها. يمرض حتى يتمنى الموت ثم يدركه الشفاء فينسى أيام المرض. ويموت أليفه فيألم حتى يعاف العيش ثم ينسى موت الحبيب، ولكن مصيبة الفتاة بعفافها لا تنسى حتى ترد ذكراها معها الموت.

لقد كانت هذي الساعة بداية آلامي التي سأحملها معي إلى القبر. فقدت الأب والأم، ثم فقدت العفاف وغدوت مثل البغايا، فأين عينا أبي ترياني؟ أين أبي؟ هل هو حي معذب مثلي أم قد مات واستراح؟

إني لأرجو أن يكون قد مات. أفرأيت ابنة تتمنى الموت لأبيها؟ نعم. حتى لا يرى ما حل ببنته فيجد ما هو أشد عليه من الموت.

ولما غدوت وحيدة في أيديهم، وعرفت أنه لا معين لي بعد أن فقدت أبي، تنبهت في القوى الكامنة، وأمدني اليأس بالعزم، وشعرت بأني كبرت فجأة حتى أصبحت بجنب أختي الصغيرة أما لها بعد أمها، وأبا بعد أبيها، وأن علي أن أحميها. وقلت لنفسي: إذا كانت الدجاجة تدفع عن فراخها هجمة النسر، والقطة إن ضويقت واستيأست تقاتل الذئب؟ فلم اعجز عن حماية هذه الطفلة؟ وقد كانت طفلة حقا، كانت في الثالثة عشرة تبكي بكاء، ما رأيت قط مثله، وترتجف كل عضلة من جسمها كما ترتجف كل ورقة في الشجرة هبت عليها رياح الخريف.

وتنمرت واستبسلت دونها ولكنه غلبوني وأخذوها مني ثم وضعوني في سيارة جيب مع ثلاثة من جنود يهود.

وطفقت أدافع بيدي ورجلي، وأعض بأسناني حتى عجز عني أنا البنت الضعيفة ثلاثة الرجال. فلو أن كل عربي من أهل فلسطين وكل امرأة وكل ولد، كان قاتل بسلاحه وقاتل بعصاه إن لم يجد السلاح، وبحجارة أرض الوطن وبيديه وأسنانه لما استطاع اليهود. . .

ولما ذكرت اليهود ارتجفت من الخوف. وتلفت حولها تخشى أن تسرق همسها آذان خفية في الجدار فتنقله إلى جلاديها قالت: وصب في الخوف على أختي قوة لم أكن أتصور أنها تكون لأحد، فاغتنمت لحظة غفلة ممن معي ووثبت من السيارة فوقعت على ركبتي.

وكشفت عن ركبتيها وقالت: أنظر، ثم عاودها حياء العذراء التي كانتها يوما والتي تقص قصتها فأسرعت فسترتهما.

قالت:

وجعلت أعدو حافية وقد سقط الحذاء من رجلي على التراب والشوك حتى لحقوا بي وأعادوني.

ورجعت أدافع، فأحسست غرز إبرة في يدي، ثم لم أعد أشعر بشيء.

وسكتت لحظة وكادت من الحياء يدخل بعضها في بعض. وصار وجهها بلون الحمرة ثم تكلمت بصوت خافت كأنه آهات مكتومة لم أتبينها حتى دنوت منها ولفحت أنفاسها الحري وجهي.

قالت:

ولما صحوت وجدتني ملقاة على أرض السيارة، مكشوفة. . . وعلى فخذي آثار دم!!

وعادت تنشج ذلك النشيج الذي يفتت القلب.

لقد أراقت دم عفافها لأن رجال قومها لم يريقوا دماء أجسادهم في سبيل الأرض وفي سبيل العرض. لقد خدروها بهذه الإبرة كما خدروا زعماء العرب بالوعود وبالخدع وبحطام من الدنيا قليل.

قالت:

وصرنا ننتقل من يد إلى يد أنا وبنات قومي العرب، كالإماء في سوق الرقيق لم تهدر كرامتنا وحدها ولم تضع أعراضنا فقط، بل لقد فقدنا صفات الإنسانية. غدونا (أشياء) تباع وتشرى، ويساوم عليها، صارت لحومنا قرى لضيوف اليهود!

إن البائس ليلقى في مغارات اللصوص، وفي سراديب السحرة قلبا طيبا يحنو عليه، ويخفف بؤسه. . ولكنا لم نلق هنا رحمة من أحد.

لقد قرأت مرة في قصة كان دفعها إلى أبي مترجمة عن الكاتبة الأمريكية أ. بيشرستو، أنه كان من أحلى أماني الرقيق أن يباع معه قريبه وألا يفصل الرق الأم عن بنتها والولد عن أخته، فكنت أعجب من تلك العصور وهوان الإنسانية فيها، فأي حقيقة مروعة مرعبة رأيت؟ بنات العرب صرن رقيقا لليهود لا للعمل ولا للخدمة بل للخزي والفجور. . . وهأنذى مثل ذلك الرقيق: كل ما أتمناه أن يجمع الرق الأبيض بيني وبين أختي!

هذا ما تتمناه بنت الأسرة العربية الشريفة بعد نكبة فلسطين. أما حنان الأب، أما حب الأم، أما عزة العفاف وكرامة العروبة، وتلك الأيام التي كانت ترتع فيها في روض الطفولة فلم يبق من ذلك كله إلا صور باهتة في أعماق الذاكرة، لا تجرؤ هي أن تحدق فيها. . كلا إنها لا تستطيع أن تسمو إلى بعث هذه الذكريات. . إن الرأس الذي أحنته وصمة العار لا يقدر أن يرتفع بنظره إلى السماء.

ولكن الوصمة يا أختي - يا أختي على ما أنت عليه، الوصمة ليست على جبينك أنت، إنها على جبين كل عربي يرضى لك هذا الذي أنت عليه.

وكانت ليلة ليلاء، ما عرفت فيها إلا لذع الآلام.

لقد كان من المستحيل أن نفكر بالغاية التي بعثوا بها من أجلها، ذلك لأن الشهوة لا تنام على فراش حشي بأشواك الذعر، وغريزة الجنس لا تسكن قلبا ملأته بالآلام نكبات الوطن.

لقد صيرتها جوامع الأحزان، أختي. ولا يستطيع الشيطان أن يدخل بين أخوين جمعتهما في ظلمة الليل أوجاع القلب الجريح.

وانتهت الليلة وجاء النادل في الصباح ليقدم الفطور قوت الصباح، ويحمل الفتاة قوت الليل، فاضطرمت في رأسي نار النخوة لما أبصرته، ولكنها كانت (يا للعار) نار القش لا تضطرم فلا تجد الحطب الجزل فتنطفئ.

وودعتني بنظرة. . . بنظرة لا يمكن أن يعبر عن وصفها ومعناها لسان بشري.

وجاءت السيارات تحملنا لنعود من حيث أتينا، نعود ونترك بناتنا يفتك بأعراضهن اليهود؛ ومررنا بيافا، ونظرت إلى هذه المنازل التي كانت بالأمس لنا فصارت لغيرنا، خرجنا منها في ساعة واحدة انحطت علينا فيها النكبة كما تنحط الصاعقة، الأثاث الذي نضدناه قعد عليه غيرنا، والطعام الذي طبخناه أكله غيرنا، والفراش الذي مهدناه، آه. هل أستطيع أن أنطق بالحقيقة المرعبة؟

ولكنها حقيقة، إن الفرش التي مهدناها، هتك اليهود عليه عفاف بناتنا! ويبقى إلى ظهر الأرض عربي لا ينقع وجهه حياء، ولا يواري وجهه خجلا، خجلا من أمجاد الأجداد، خجلا من سلائق العروبة، خجلا من عزة الإسلام!

يا رجال العرب إن لم تحموا أعراض نسائكم فلستم برجال.

يا جنود العرب، إن لم تدفعوا الأذى عن وطن العروبة وعن أعراض بناتها، فاخلعوا عنكم ثياب الجنود يا من أضاعوا فلسطين، عليكم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

واختفت يافا، وغابت وراء الأفق وأنا لا أزال أرى تلك النظرة التي ودعتني بها. لن أنساها أبداً، ولن أنسى أني تركتهم يأخذونها وأنا حي، وأني كنت جبانا، وكنت نذلا كالآخرين!

علي الطنطاوي