الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 971/القصص

مجلة الرسالة/العدد 971/القصص

بتاريخ: 11 - 02 - 1952


الصقر

للقصصي الإيطالي يوكانشو

كان بفلورنسا شاب من النبلاء الأغنياء يدعى فريديريك ألبيريني من أسرة عريقة في المجد، قد هذبه الفن والطبيعة وجعلا منه فتى كاملا كيسا لا نظير له بين أبناء النبلاء الثوسكانيين. وقد وقع في حبائل الحب كما جرت العادة بين أترابه ممن هم في صفه من السراة، فهام بسيدة من الأعيان تدعى جان كانت تعتبر من أجمل وأحب نساء فلورنسا، ولم يدع وسيلة لاستمالتها إلا نفذها، من ولائم فاخرة، وألعاب فروسية باهرة، وهدايا عظيمة. كانت هذه السيدة متمسكة بالتقوى والفضيلة ولم تحفل كثيرا بهذه النفقات الجنونية، ولكنها لم تحتقر قط هذا الشاب الظريف. ولم يتطرق اليأس ولا الملل إلى فريديريك واستمر في طريقه وإسرافه حتى أضاع ثروته ولم يبقى لديه إلا شيء قليل يعيش به في حالة بؤس لم يدخر من ماضيه الفخم غير بازي مدرب على الصيد. ولقد أصبح أشد تعلقا بحبيبته رغم فقره المدقع الذي أوقعه فيه، ورأى أنه لا يستطيع أن يعيش عيشة تليق به في المدينة، فصمم على الاعتكاف في البقية الصغيرة الباقية من أملاكه في الريف، فكان يصطاد في أغلب الأحيان بصقره ليسري عن همومه وليكفيه مؤونة السؤال. واستمر على ذلك الحال ردحا من الزمن مرض في أثنائه زوج حبيبته ثم مات، وقد أوصى بثروته العظيمة إلى الصغير، وبموته دون أن يعقب ينتقل الميراث إلى أمه التي كان يحبها زوجها حبا يقرب من العبادة.

أقبل الصيف فذهبت الأرملة كعادتها لتصطاف في أملاكها في الريف وكان بيتها قريبا من بيت فريديريك. وبمناسبة هذا الجوار تعرف ابنها بفريديريك وكان يتردد عليه ويلهو بكلاب صيده وطيوره، وشاهد البازي الذي تحدث الناس عن مهارته ففتن به، ولم يستطع أن يطلبه منه لأنه كان يعرف شدة تعلق فريديريك به. ولما علم أنه يستحيل عليه أن يحوزه ساوره الهم والقلق حتى مرض، ثم عرف والدته بسبب مصابه قائلا: (أماه، لو كنت تتمكنين من الحصول على بازي فريديريك لعاجلني الشفاء وعاودتني الصحة) وصمتت الأم هنيهة وسبحت في أحلامها وتأملاتها؛ فماذا تعمل مع من أحبها طويلا وبدد ثروته لإسعادها وهناءتها، فكانت تقابل منه هذا العطف بالفتور؟ وكيف تستطيع أن تطلب منه أعز شيء لديه وما به يعيش ويحصل على قوته من الصيد به، وهل يحسن أن تحرم نبيلا من أنفس شيء لديه؟ احتارت في أمرها ولم تدر ماذا تجيب ابنها والتزمت الصمت، ولكن الطفل ما فتئ مهموما ملحا في طلبه، وفي نهاية الأمر تغلب الحب البنوي على كل اعتبار وعزمت على إرضاء ولدها بأي ثمن كان وصممت أن تعرفه بأنه سينال البازي وستذهب في طلبه، قالت له: (لا تحزن يا بني وفكر في شفائك وصحتك، وأول شيء سأعمله في الصباح هو الذهاب لإحضار الصقر. فسر الولد لهذا الوعد وتحسنت صحته في المساء.

وفي الصباح ذهبت أمه هي وإحدى السيدات إلى فريديريك، ولما دخلت وجدته في الحديقة ينظمها لأن هذا اليوم لم يكن مناسبا للصيد بالبازي، وقالت للخادم أن يعلمه مجيئها لتحدثه في شأن من الشؤون. تصور أيها القارئ دهش فريديريك ومفاجأته بهذا الخبر السار، فطار من الفرح عدوا لاستقبالها، وسلم عليها بكل احترام من بعيد، فتقدمت إليه مدام جان وحيته بكل لطف وأدب. وبعد تبادل التحية قالت له: (لقد أقبلت يا سيد فريديريك لأكافئك على العناية التي بذلتها حينما أحببتني حبا يزيد على المعقول، والمكافأة هي حضوري أنا والسيدة لنتناول الغداء معك) فأجابها بكل لطف وتواضع (إنني لم أخسر شيئا قط لأجلك، بل بالعكس فإنك أعددتني لكثير من المزايا. ولئن عرفت بشيء منها فالفضل راجع إلى العواطف التي نفحتني بها. وهذه المكرمة التي نفحتنيها اليوم لجليلة جدا، وقد أثلجت صدري وشرحت فؤادي. ومع إنني فقير فإنني لا أريد أن أبيع هذه المنة بثروتي التي فقدتها) وبعد هذه المجاملة اللطيفة صحبها إلى الحديقة وترك بصحبتها البستانية وصاحبتها التي أقبلت معها، وذهب ليهيئ الطعام. وهذا النبيل الشريف لم يشعر في حياته بقسوة وطأة الفقر مثل ما شعر بها في هذا اليوم الذي أقبلت فيه أعز الناس لديه، وكان بوده أن يهيئ لها وليمة فاخرة، فما باله إذا لم يجد شيئا لديه في هذه اللحظة الحرجة؟ فاستشاط غضبا ولعن ثروته الضائعة وأخذ يهرول في أنحاء البيت. والأدهى أنه لم يكن عنده درهم ولا شيء يقوم بقيمة حتى يرهنه. ولما اقتربت ساعة الغداء حار في أمره فوقع نظره بغتة على البازي الذي كان مطمئنا في قفصه فصمم على تضحيته ليقدم شيئا مناسبا للأيم التي شرفته بزيارته. ثم لوى عنقه ونتف ريشه ثم وضعه في النار ولما نضج الطعام ذهب إلى الحديقة ليدعو السيدة وصاحبتها للطعام؛ وبعد انتهاء الغداء دار حديث لطيف ثم رأت مدام جان أن تطلع فريديريك على سر زيارتها قائلة: (أتذكر أيها السيد كل ما صنعته من صنوف العناية وحيائي الشديد الذي جعلك تظن أنني متوحشة. ولا شك في أنك تدهش حينما تعلم السبب الحقيقي الذي قادني إليك، ولو كان لك أولاد لكنت تعرف قوة الحنو الأمي، وإني واثقة أنك ستعذرني، ولكنك لا أولاد لك، ولي ولد واحد، ولا أستطيع أن أهرب من القوانين العامة للأمهات. وهذا الذي يضطرني أن أتعدى المعقول وأخالف إرادتي وأطلب منك شيئا أعلم أنك تعزه كثيرا، لأنه أصبح لك العزاء الوحيد لضياع ثروتك، وما هو إلا بازيك الذي أطلبه. إن ابني مريض وهو تواق للحصول على الصقر وأخشى إن لم أحضره له أن يقتله الحزن؛ ولذلك أتوسل إليك لا بحق الصداقة فلست مدينا لي فيها بشيء، بل أتوسل إليك بطيبة قلبك وحبك للخير العام الذي لم يكذب فيه الظن قط، والذي يميزك عن جميع الناس. وسيكون لك ابني مدينا بصحته وربما بحياته، وستتملك بهذا الصنيع قلبه وقلبي مدى الحياة)

ولما رأى فريديريك أنه لا يستطيع إرضاء هذه السيدة لأنه أطعمها ما تطلبه خنقته العبرات قبل أن يفوه برد، فظنت السيدة أنه يبكي حزنا على فقد بازيه وكادت تغير رأيها فيه وفضلت أن تسكت إلى أن يجيب فقال لها: (إنني منذ فتنت للمرة الأولى بمحاسنك تيقنت أن الثروة كانت تناوئني في كثير من الأمور، وكنت أشكو من شدة ما تفرضه علي، ولكن كل ما مر علي من بؤس وآلام لم يك شيئا بجانب بلية اليوم، وستترك في قرارة نفسي مرارة لا تفارقني. هل تستطيع المصائب أن تسدد إلى طعنة أفظع من صدمة اليوم حينما أرى أنك تفضلت بزيارتي في هذا البيت الحقير مع أنك لم تتنازلي بزيارتي حينما كنت غنيا ثم تطلبين مني شيئا لا أستطيع أن أحضره لك. ما أقساك أيها الحظ العاثر الذي ما فتئ يضطهدني! لقد تحملت بصبر جميل أصناف الرزايا والمحن، ولكنني رزحت تحت هذه الصدمة إذ ليس عندي الآن بازي , وبمجرد ما شرفتني وأظهرت رغبتك في تشريفي بالغداء معي فكرت أن أحضر غداء أرقى مما اعتاده الناس فذبحت الصقر دون تردد لمهارته العظيمة في الصيد؛ ومن سوء حظي لم أوفق لأن أقدمه إليك حيا. وبعد هذا الحديث رأى أن يقنعها بأن أحضر الرأس والريش والمخلبين.

دهشت مدام جان ولامته لوما شديدا لذبحه صقرا ثمينا ولكنها ارتاحت لهذا المثال العظيم في الكرم الحاتمي الذي لم يؤثر فيه الفقر والبؤس وقالت له: (إنني لا أنسى مدى حياتي هذه التضحية مهما كان تصرف الآلهة في ولدي). ثم استأذنت من فريديريك وانصرفت شاكرة له شرفه وحسن نواياه، وذهبت إلى ابنها حيرى حزينة لا تدري بماذا تجيبه، وقد اشتدت وطأة المرض عليه ومات بعد بضعة أيام وهي لا تدري إن كان الموت نشأ من شدة حزنه على البازي أو كان المرض بطبيعته قاتلا.

وقد آلمها مرض ابنها ووفاته وطفقت تبكيه عدة أيام. ثم توسل إليها اخوتها أن تتزوج لأنها فتية وغنية جدا. فلم تجد عندها رغبة في الزواج، ولكن أقاربها وأصدقاءها طفقوا يلحون عليها ويحثونها، فعاودتها الذكرى وفكرت في مكارم أخلاق فريديريك من شرف وثبات وكرم، وكيف قدم لها صقرا ثمينا للغداء. ثم قالت لأقاربها: إني أستطيع أن أبقى أيما سعيدة إن كان هذا يرضيكم، ولكن احتراما لرغبتكم لا أقبل زوجا غير فريديريك البيريني. فصاح اخوتها بلهجة التهكم. (هل أنت جادة في قولك؟ إننا لا نستطيع أن نتصور ذلك. هل تجهلين أن هذا النبيل أصبح في فقر مدقع؟)

- إنني أعلم ذلك ولكني أفضل رجلا محتاجا إلى المال على ثروة محتاجة إلى رجل. ولما رأى اخوتها أنها مصممة ألا تتزوج غير فريديريك وأنهم لا يستطيعون أن يغالطوا أنفسهم أنه شريف كيس صادقوا على زواجهما وأقاموا عرسا في منتهى الفخامة.

لقد صير البؤس الزوج الجديد حكيما بصيرا بعواقب الأمور فأصبح مقتصدا يدير شؤون الثروة الحديثة بحكمة وفطنة وعاش مع زوجته التي أحبها عيشة سعيدة هنيئة متمتعا بعطفها وحنانها.

م. ح