الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 97/عصر الخفاء في مصر الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 97/عصر الخفاء في مصر الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 97
عصر الخفاء في مصر الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 05 - 1935

6 - الحاكم بأمر الله

ختام البحث

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 10 -

إلى ذلك الحين سلخ الحاكم زهاء خمسة عشر عاماً في الحكم؛ وكانت فترة تحمل طابع الاضطراب والعنف والمفاجأة بما تخللها من غريب الأحكام والتطورات التي أتينا على ذكرها. . ولكن الحوادث تدخل من ذلك الحين في طور آخر، ويميل العهد إلى نوع من الهدوء، ويتجه الحاكم وجهة أخرى. كان ذلك الذهن المضطرم الهائم معاً لا يسكن إلى ركود الحياة العادية، وكان دائماً يؤثر التوغل في عوالم الحياة الروحية. وكانت أعوام العصر الأخيرة مليئة بهذه التيارات الخفية التي تحجب عنا أغوارها ريب وظلمات كثيفة. كانت مصر في هذه الأعوام مهداً خصباً لعصبة من الدعاة المغامرين الذين هبطوا إليها يبشرون بأديان وعقائد جديدة؛ وكان الحاكم من وراء هذه الدعوات يرعاها ويرقب تطوراتها حتى استحالت في أواخر عهده إلى دعوة جريئة إلى (ألوهيته)، ونعت الحاكم عندئذ بقائم الزمان وناطق النطقاء. وقد سبق أن فصلنا عناصر هذه الحوادث والدعوات في (الرسالة) في بحثنا (الدعوة الفاطمية السرية) فلا نعود إليها هنا

وكانت خاتمة الحاكم، كحياته، خفية مدهشة؛ فقد أغاض من هذا العالم وزهق في ظروف غامضة مازالت على التاريخ سراً عسير الجلاء

وهنا نحاول، بعد استعرضنا أعمال الحاكم بأمر الله وغريب أحكامه وتصرفاته، أن نعرض إلى أدق وأصعب نقطة في دراسة هذه الشخصية العجيبة

ماذا كانت حقيقة هذه الشخصية التي جمعت بين خلال وصفات يحمل أكثرها طابع العنف والشذوذ والتناقض؟ وبأي عين يجب أن ننظر إليها، وبأي معيار نستطيع أن نقدر صفاتها وأعمالها؟ وأي أحكام يسوغ لنا أن نصدرها لها أو عليها؟

لدينا في ذلك مادة منوعة: أقوال الرواية الإسلامية المعاصرة والمتأخرة، وحوادث العصر، وأعمال الحاكم وتصرفاته ذاتها. فأما الرواية الإسلامية، فلا ترى في أمر الحاكم لغزاً يصعب استجلاؤه؛ ولنلاحظأولاًأن ما انتهى إلينا من أقوال الرواية الإسلامية، إنما هو في الغالب أقوال المؤرخين السنيين، خصوم الشيعة وخصوم الدولة الفاطمية، وإننا لم نلتق من تراث الشيعة الذي بددته الحوادث والدول الخصيمة ما يلقي ضياء كافياً على ذلك الخفاء الذي يحيط بشخصية الحاكم وأعماله. والحقيقة أن الرواية الإسلامية تأخذ بظواهر الحوادث المادية، وتكتفي بأن تقدم إلينا الحاكم في تلك الصور المروعة المثيرة التي أشرنا إليها؛ وقلما تحاول أن نلتمس في ما وراء ذلك شيئا من البواعث والأسباب التي يمكن أن نعلل بها بعض نزعات الحاكم وتصرفاته العجيبة. وقد أوردنا بعض أقوال الرواية الإسلامية في وصف الحاكم؛ فهي لا ترى فيه أكثر من أمير مضطرب العقل والتفكير، عنيف الأهواء والنزعات، كثير العبث والسفك، شديد التناقض، لا يصدر عن رؤية أو منطق متزن، ولا يتحرى غاية أو مثلاً معقولة. هذه هي الصورة العامة التي يقدمها إلينا المؤرخون المسلمون عن الحاكم؛ وهي صورة بسيطة ساذجة مستمدة من ظاهر الحوادث المادية؛ فقد كان الحاكم طاغية شديد البطش والسفك، ولكنه كان يتخذ السفك وسيلة لا غاية، وكان القتل في نظره خطة سياسية؛ وكان عنيف الأهواء والنزعات، ولكنها لم تكن نزعات شهوة نفسية، وإنما نزعات ذهن يرتفع عن الوسائل العادية لتوجيه مجتمع يراه جديراً بالتغيير والتطور؛ وكان متناقضاً في كثير من تصرفاته، ولكن تناقض الذهن الذي يحاول مختلف الوسائل والتجارب لتحقيق غايات معينة. ومع ذلك فإنه لم يفت بعض المؤرخين أن يلاحظ أن عقلية الحاكم لم تكن بتلك البساطة التي تصور بها، فقد وصفه الذهبي بأنه كان (خبيثاً، ماكراً، ورديء الاعتقاد)، وهي صفات ليست من خواص الذهن المضطرب السقيم الذي يفكر دون تدبر ويعمل دون غاية

والواقع أن الحاكم بأمر الله كان عقلية مدهشة، وكان لغزا عسير الفهم؛ وإذا كان قد أشكل على المؤرخين المسلمين من معاصرين ومتأخرين فلم يحاولوا فهمه، فإنه مازال أيضاً في بعض نواحيه لغزا على عصرنا، وإن كنا نستطيع أن نحاول فهمه من بعض النواحي، وتعليل كثير من أعماله وأحكامه. ويصفه العلامة الألماني ميللر بأنه (من أعجب وأغمض الشخصيات التي عرفها التاريخ)؛ ويقول: (إن من يقرأ ما أورده المؤرخون المتأخرون من مختلف الأساطير والقصص يخرج بأنهم لم يفهموه، وأنهم اعتبروه مجنونا فقط؛ وقد جرى رأيهم فيه مجرى الحقيقة، ولكن توجد ثمة شواهد واضحة على أن هذا الأمير الذي هو أعجب من أنجبت أسرته، كان أشدهم إثارة للأساطير من حوله، وأن حجابا كثيفا قد أسبغ على صورته فلا نستطيع أن نظفر منها إلا بلمحات)

والآن ماذا نستطيع أن نقول في قوانين الحاكم وتصرفاته؟ وكيف ننظر إليها؟ هل كان في مجموعها فورات مجنون ونزعات مخبول كما تصورها معظم الروايات الإسلامية؟ إن كثيراً من هذه القوانين والأحكام يحمل طابع القسوة والإغراق، ولكن من التحامل والظلم إن نصفها بالسخف المطبق، وان ننعت صاحبها بالجنون ولقد ظلم التاريخ الحاكم كما ظلم كثيراً من الطغاة المصلحين؛ وقد كان الحاكم طاغيا، ولكن مصلحا على طريقته، وكان يرمي بما يصدر من القوانين والأحكام إلى تحقيق غايات معينة، دينية وسياسية واجتماعية، ربما خفيت على الكافة، لأنها تتعلق بسياسة الدولة العليا؛ ومن ثم كان الريب في حكمتها والسخط عليها؛ وكانت القسوة في تطبيقها

فأما معاملة الذميين: أعنى اليهود والنصارى، وما صدر في شأنها من الأوامر والأحكام المشدودة، فلم تكن بدعة في ذاتها ولم تكن حدثاً جديدا في الخلافة الإسلامية؛ ولم يكن فيها من الجديد سوى روحها ووسائلها الشديدة التي جعلت منها نوعا من الاضطهاد المنظم. ولقد كانت الخلافة الإسلامية تأخذ بسياسة التسامح الديني وتطلق لرعاياها الذميين الذين يؤدون الجزية حرية الاعتقاد والشعائر؛ ولكن الذميين كانوا يلقون من الوجهة الاجتماعية دائما نوعا من المعاملة الخاصة؛ ومنذ خلافة عمر فرضت عليهم بعض الأحكام والقيود التي تجعلهم من الوجهة الاجتماعية أدنى من المسلمين، وكان منها قيود تتعلق بالأزياء وركوب الخيل، وحمل السلاح واقتناء العبيد؛ وكانت هذه الأحكام تتخذ في عصور الحماسة الدينية لوناً من الشدة يختلف باختلاف الظروف والأحوال. قد رأينا إن الخلافة الفاطمية كانت تتبع سياسة التسامح الديني نحو اليهود والنصارى، وإنهم في ظلها ازدهروا وتبوءوا أرفع مناصب الثقة والنفوذ وإن موقف الحاكم نحوهم، واشتداده في معاملتهم على هذا النحو، كان انقلابا في السياسة الفاطمية. وقد نستطيع أن نفسر هذا التطرف من جانب الحاكم، بأنه نوع من الغلو الديني له بواعثه السياسية؛ ففي هذه المرحلة التي أشتد فيها الأمر على اليهود والنصارى، كان الحاكم يبدي كثيرا من التعصب والغلو سواء من الناحية الدينية العامة أو الناحية المذهبية الخاصة ولكن هذه الشدة استحالت في أواخر عصره إلى نوع من اللين والرفق بالنصارى واليهود؛ ذلك لان هذا الذهن المضطرم يستحيل عندئذ إلى ذهن فلسفي حر التفكير، ينظر إلى الأديان كلها نظرة واحدة؛ وإن كانت السياسة العليا تحتم عليه أن يؤيد دين الدولة ومذهبها الرسمي؛ وقد كان الحاكم ولد أم نصرانية كما قدمنا أفلا نستطيع، أثر هذه الأرومة أيضاً في هذا التكوين الديني المضطرب، وفي هذا التردد بين الشدة واللين؟ ومما يلاحظ في هذا الصدد إن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة، وإنه لن يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره حينما ظهر الدعاة السريون الذين يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة وقوانين الحكم الاجتماعية؟ هل كان تشريعاً جنونياً خاليا من كل باعث وحكمة؟ إن الحكم على هذه القوانين يقتضي أن نفهم روح العصر وخواص المجتمع المصري يومئذٍ؛ كان الحاكم بأمر الله على رأس خلافة مذهبية يقوم سلطانها السياسي على صفة الإمامة الدينية؛ وكانت هذه الخلافة تريد أن تحيط ملكها في مصر بسياج قوي من الخلال القوية التي أحاطت ملكها في المغرب؛ ولكنها الفت في مصر مجتمعا متحضراً يميل إلى الترف والحياة الناعمة، ولم ترد أن تضيق على هذا المجتمع بادئ بدء، لأنها كانت تخطب وده وتسعى إلى تأليفه؛ ولهذا كانت تسايره، وتغيره ببذخها وبهائها، وتطلق له أعنة البهجة والمرح، وتغمره بالمواسم الفخمة والحفلات والمواكب الشائقة؛ فكانت تذكر بذلك مرحه وخفته واستهتاره بدلا من أن تذكر فيه الخلال القوية التي تنشدها. وكانت عوامل الانحلال تجثم في قرارة هذا المجتمع الذي يخفى انحلاله تحث أثواب من الفخامة والبهجة؛ وكانت الرذائل الاجتماعية على اشدها حينما تولى الحاكم بأمر الله، وظهر ذلك الانحلال الاجتماعي في اشد مظاهره حينما نظمت حياة الليل، وشهد الأمير مواكبه الليلية مظاهر هذا الفساد الشامل. عندئذ عمد الحاكم إلى وضع هذه الخطة التي يمكن أن توصف بحق بأنها برنامج للإصلاح الاجتماعي، ولجأ إلى تلك القوانين والإجراءات الصارمة كوسيلة لمكافحة هذا الفساد الاجتماعي الشامل؛ وفيم تحريم الخمر ومطاردة المدمنين، وتحريم الغناء واللهو الخليع إلا أن يكون لتقويم أخلاق الشعب، وحماية أمواله وصحته من الإسراف والعبث، وحماية المجتمع من ضروب الفساد التي يغرق فيها؟ إن الأمم العظيمة في عصرنا تلجأ في أحيان كثيرة إلى إصدار مثل هذه القوانين لبث الإصلاح الاجتماعي؛ وما عهد التحريم الأمريكي ببعيد، فقد حرمت الخمر في أمريكا مدى أعوام، وكانت تجربة اجتماعية هائلة لا تزال ذاكراها ماثلة في الأذهان؛ وما تزال بعض الدول تحرم بعض الملاهي التي تراها خطرا على الأخلاق العامة؛ وما تزال بعض الحكومات تحد من حريات الشعب في التجوال بالليل في ظروف معينة حرصاً على الأخلاق والأمن العام

ومطاردة المرأة والحجر عليها؟ لا ريب أن الحاكم كان يذهب في ذلك إلى ذروة الغلو والإغراق، ولكن المرأة من أشد عوامل الفتنة والغواية، ولاسيما في عصور الفساد والانحلال، وقد رأى الحاكم، في الحجر على المرأة، والمباعدة بينها وبين الرجل في حياة المدينة، وسيلة لمكافحة الرذيلة وحماية الأخلاق الفاضلة. أما الإغراق في تطبيق التجربة، فهو بلا ريب أثر من إغراق هذا الذهن الهائم في كل ما يعتقد ويبتكر؛ وإذ كنا نستطيع أن نعلل فكرة الحجر على المرأة وإبعادها عن مجتمعات المدينة، فمن الصعب علينا ذلك الإغراق في تطبيقها إلى حدود من القسوة الذريعة. بيد أنه ليس من الإنصاف أن ننكر على الإجراء كل حكمة، فإن من المحقق أنه كان ذا اثر كبير في درء الفساد الشامل وتنقية حياة المدينة، وإنا لنشهد في عصرنا في بعض الأمم العظيمة فكرة مماثلة في الحد من حريات المرأة الاجتماعية وردها إلى حظيرة الأسرة مع فرق في العصر والظروف. ففي إيطاليا الفاشستية، وألمانيا الهتلرية تفقد المرأة كثيرا من حريتها، ويحضر عليها التبذل والتهتك في الأزياء؛ وفي إيطاليا تلزم بان لا يقل ثوبها عن طول معين؛ وفي ألمانيا وإيطاليا يحضر اليوم كثير من ضروب اللهو الخليع، وتمنع الحانات الليلية والملاهي العارية. ولا ريب أن الفكرة التي أملت على الحاكم خطته، وتملى اليوم على ألمانيا الهتلرية وإيطاليا الفاشستية خطتها نحو المرأة، ترجع في جوهرها إلى اصل واحد، هو مكافحة عوامل الغواية والفساد التي يبثها تهتك المجتمع النسوي وإمعانه في صنوف الاستهتار والخلاعة

وأما تحريم بعض أنواع الأطعمة فقد يرجع إلى أسباب صحية لها قيمتها في ذلك العصر، وإما تحريم ذبح الأبقار السليمة فهو إجراء ظاهر الحكمة وهو المحافظة على النسل. وأما قتل الكلاب فهو تحوط صحي لا يزال يتبع في عصرنا في جميع الأمم المتمدنة ولسنا ندعي أننا نستطيع أن نعلل كل قوانين الحاكم وإجراءاته وتصرفاته أو أن ننفذ إلى بواعثها وحكمتها جميعاً، فهناك الكثير منها مما لا يستطاع فهمه وتعليله؛ ولكن الذي نود أن نقوله هو إن هذه القوانين والإجراءات، كانت عكس ما تصورها الرواية الإسلامية بأنها نزعات طاغية مضطرب الذهن، تكون في مجموعها برنامجاً إصلاحياً شاملا، وترمي في مجموعها على تحقيق غايات لا ريب في حكمتها وسموها

يقول العلامة دوزي: (لم تكن قوانين الحاكم سخيفة كما يحب أن يصورها الرواد السنيون الذين اعتادوا ان يقدموا إلينا من هذا الأمير شخصية مضحكة لا صورة حقه) ثم يقول: (ولقد أراد الحاكم أن يكافح الانحلال الشامل الذي سرى إلى مجتمع عصره بقوانين بوليسية صارمة، وأحيانا غريبة شاذة) ثم يشرح رأيه بعد ذلك على ضوء هذه القوانين والأحكام المختلفة، ويحدثنا بعطف عن تواضع الحاكم وتقشفه، ويقول ميلر بعد أن يلخص قوانين الحاكم الاجتماعية (إن هذه التصرفات ليست كلها تنم عن الحماقة؛ وإذ كنا لا نستطيع أن نعلل كل أعماله، فليس ذلك مما يحملنا على أن نعتبر تصرفاته فورة أهواء مستبد ولا سيما ونحن نراها في نواحٍ أخرى سليمة معقولة. وكل ما وصلنا من الروايات إنما هو وقائع مجردة، مشوهة ومبالغ فيها بلا ريب؛ وإنه ليكون من المدهش اليوم أن نستطيع أن نحل رموز هذه المعضلة الشاملة) ثم يقول: (وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه أما باطني متعصب، توهم في نفسه الإغراق والألوهية، وأما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذبها، وأعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته. وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك وربما لا يستطيع أن يظفر بالحقيقة هنا سوى خيال شاعر)

والخلاصة أن الحاكم بأمر الله لم يكن تلك الشخصية الوضيعة الساذجة، ولا تلك العقلية المخرفة التي تقدمها إلينا الرواية؛ ولم تكن أعماله وأحكامه، كما صورت على كل العصور مزيجا من النزعات والأهواء الجنونية؛ وإنما كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهنا بعيد الغور وافر الابتكار وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل. وكان بالاختصار عبقرية يجب أن تتبوأ في التاريخ مكانها الحق.

تم البحث محمد عبد الله عنان

المحامي