الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 97/السكون في الظلام

مجلة الرسالة/العدد 97/السكون في الظلام

بتاريخ: 13 - 05 - 1935


للأستاذ أحمد أمين

ما ألذه، وما أهنئه، وما أحلاه!

يذهب بالأوصاب، ويرد العافية إلى الأعصاب

فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم - وإذا كان كل الناس في حاجة إليها فرجال الفكر إليها أحوج، هي راحة من عناه مجهودهم، واسترداد لما فقدوا من رءوسهم، واسترجاع لما قطروا من عصارة عقولهم

وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن، وصحة التفكير، وجودة الإنتاج - فالبذرة لا تنبت في جلبة وضوضاء وضياء، إنما تنبت في جوف الأرض، حيث لا تراها عين، ولا تؤذيها حركة، وحيث تستمتع بكل ما في السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى النور والهواء والحركة بساقها وفروعها، لا بنفسها -

لا وردة تفتن بجمالها ومنظرها وعبيرها قبل أن تدفن بذرتها، يجب أن تمر بها أيام وأيام، تشعر بنفسها ولا يشعر الناس بها، وحتى إذا أعجبت الناس ونفحتهم بنعيمها يجب أن يبقى اصلها منعماً بظلامه وسكونه، فإذا أقلقًتَ مضجعها، وسلبتها هدوءها سلبتك محاسنها

وكذلك كل حي لابد أن يموت ليحيا، وهل النوم إلا ضرب من الموت، ونوع من الفناء. دع الحي يحيا أياماً من غير نوم تره وقد تهدلت أعصابه، وتهدمت قواه، وقرب من الفناء الأبدي

وليس يكفي النوم للمفكر، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبهاً نائماً، وشاعراً حالماً، يلذ فيها لذة النوم، كما يلذ لذة الصحو، يتعرض فيها لنفحات الله، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، وتأتيه الفكرة الناضجة، أو الخَطْرة الكاشفة، أو اللمحة الدالة؛ فتكون خيراً من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، والصحف والكتب

قرأت مرة أن متعلماً كان يقص على معلمه أنه يصبح مبكراً فيقضي ساعات في استذكار دروسه، وساعات في تعلم لغات أجنبية، وساعات في أخذ دروس جديدة في علوم مختلفة، حتى يمضي جزء كبير من الليل فيذهب إلى فراشه وقد أنهكه التعب، وأخذ منه كل مأخذ، فقال له أستاذه: ومتى تفكر، وأين تجد نفسك؟

وهو سؤال له دلالته ومغزاه، فاكثر الناس لا يفكرون، وإن ظنوا أنهم فيما يقرءون ويكتبون ويفكرون، وأكثر الناس يفقدون أنفسهم في ثنايا صحفهم وكتبهم

ولأمر ما كان النبي ﷺ (يخلوا بغار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء)

في غار حراء حيث السكون والظلام. بعيداً عن الخلق قريباً إلى الحق، قد انقطع عن العالم وضوضائه، والدنيا وألاعيبها، قد صفت نفسه من صفاء محيطه، ووجد نفسه فوجد ربه، وتعرض للإلهام فجاءه الإلهام، وتهيا للوحي فنزل عليه الوحي

لكَمْ تمنيت أن يكون للمسلمين تكايا أو خانقات في أمكنه نزهة منقطعة، ليست من هذا النوع الذي يأوي إليه العاجزون والعاطلون، والذين يأكلون ولا يعملون، ولكنها من طراز حديث يهرع إليها من أراد أن يَسْتجِم نفسه، ويريح قلبه، ويسترد هدوءه، بعد أن أتلفتها ضوضاء المدينة، وجلبة الحياة العصرية - تكون مستشفى للنفوس بجانب مستشفيات الأبدان، ويترهب فيها من أضناه العمل، وأعياه الجهد، رهبانية مؤقتة يجدد فيها نفسه، ويغذي بهدوئها وسكونها عقله وحسه، ويُبعْث إلى العالم خلقاً جديداً كما يبعث النوم الحياة - إذَنْ لقلّت أخطاء الناس ومظالمهم، فأكثرها مبعثه فساد الأعصاب - وإذن لقلّ إلحادهم فأكثره منشؤه الانغماس في المادة وشؤونها، فإذا تجرد المرء منها زمناً وخلا بنفسه وأتيحت له فرصة التفكير في هدوء وسكون وظلام تحرك قلبه للعبادة، ونزع إلى الإيمان، فاستجاب لفطرته، واستمع لطبيعته - وإذن لقلة مطامع الناس، وتكالبهم على الحياة، فحياة الهدوء والسكينة توحي بأن الحياة ظل زائل، ومرحلة مسافر

لقد اعتاد الناس أن يفروا من متاعبهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم ولا تفيد - كثيراً - الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها - عادة - كل مظاهر المدينة وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناء صحيحاً في العلاج النفسي والروحي - إنما يغني هنا الغناء أنواع من المعاهد والمؤسسات قد بني على أساسٍ نفسي وروحي لا يعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، يربح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، ويسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات. فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة. وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها

في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء، على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بإذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويتذوق موسيقاه، ويدرك معاني المياه في تحريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها - فكأنه منح من الحواس ضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته - وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله ويثلم ذوقه، فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت، ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا اقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون، ولئن كانت عيننا البصيرة لا تبصر إلا في ضياء، وأذننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما نستعين بالضوء والهواء

إني لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين يقضون نارهم في وظائفهم وأعمالهم. ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضاً لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم. ثم لهو قليل ونوم، واعتقد أن هناك عنصرا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل، ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما اعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقوله: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق على الغرب قديما، ومن ثم كان مبعث الأديان، ومصدر الإلهام

في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم

وأظن أن في الاستطاعة أن يوضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بيائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يأجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، وإنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس - وليست تحتاج إلا إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك

أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام. ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها؛ واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك؛ وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟

وتدرج من هذا إلى التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم

وارق إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك، ما غايتك وما مبادئك في الحياة، وهل وضعت لها خططاً؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟

سيسلمك ذلك - من غير شك - إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بينت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى

في الحديث: (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا) ولعل هذا الضرب من التأمل ينبههم في حياتهم، من غير أن ينتظروا أن ينتبهوا بموتهم

ربما كان هذا ضرباً من التصوف يتفق وروح العصر، وإن شئت فقل إنه نوع من التصوف على أحدث طراز وأبدع نمط، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم، ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدينة الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت، ولعلنا نستروح من هذا البرنامج نسيم الراحة فيراجعنا نشاطنا، وتثوب إلينا قوتنا، وتعود إلينا نفوسنا

أحمد أمين