مجلة الرسالة/العدد 965/المستقبل وأسرار الوجود
→ الصلبة | مجلة الرسالة - العدد 965 المستقبل وأسرار الوجود [[مؤلف:|]] |
من حروب التحرير: ← |
بتاريخ: 31 - 12 - 1951 |
3 - المستقبل وأسرار الوجود
للأديب عبد الجليل سيد حسن
(تتمة)
نحن والمستقبل:
قلنا إن الوجود مستقبل نسج وهو الماضي، ومستقبل ينسج وهو الحاضر، ومستقبل سينسج وهو (المستقبل) ونريد الآن أن ننظر في هذا التيار المتصل من الوجود: (1) هل هو منفصل بعضه عن بعض، بمعنى أن الذي سبق منه لا تأثير له فيما يليه؟ (2) وإلى أي حد يتأثر وجودنا وتتلون نظرتنا للحياة بمقدار هذه الأوجه الثلاثة للوجود!
أولا: مشكلة تأثير السابق في اللاحق تشمل الحديث عن -: السبب والمسبب. وعن: تأثير الماضي في الحاضر. أما عن الأمر الأول فقد تحدثنا عنه. وأما عن الأمر الثاني: فنحن نعرف أن تكويننا الجسمي والعقلي لم يتكون ولم ينم إلا في الماضي - أو المستقبل الذي نسج - بمعنى أن الماضي يدخل في بناء شخصيتنا، أو أن شخصيتنا بناء على تجارب الماضي قد صيغت. وهذه الشخصية هي التي تملي علينا اتجاهاتنا الحاضرة، وهي التي تلزمنا أن نتجه هذا الاتجاه دون سواه، ونتخذ هذه الخطة ونرفض تلك، ونختار ما يلائم شخصيتنا ويناسب مزاجنا الذي خلقته التجارب الماضية. فالماضي غير منقطع الصلة بالحاضر، وهو لا يؤثر فيه فقط، بل هو الذي يصوغه ويشكله ويوجهه. ويعين الماضي على ذلك، اللاشعور بأنواعه، من اللاشعور الجنسي أو الجمعي الذي هو عبارة عن خصائص الجماعة الإنسانية ومميزات الجنس البشري ومجموعة التجارب والخبرات التي اكتسبها أسلافنا والتي ورثناها عن أجدادنا الأولين، فهناك صفات عامة يشترك فيها النوع الإنساني، كالاستعداد للتثقيف والتعليم والتهذيب، تنتقل من جيل إلى جيل - وكل جيل يضيف إليها قليلا من التطور - كامنة في أعماق اللاشعور. وليس هذا تأثير الماضي القريب في الحاضر، بل تأثير الماضي السحيق الذي يعد بآلاف السنين في هذا الحاضر. وهناك اللاشعور الفردي الذي يختص بفرد دون آخر، ويلون حياته بلون خاص. وأيضا فالذاكرة هي التي تجعلنا واعين لتجارب الماضي، مستفيدين منها في الحاضر. وهذا إ لهذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل كبير، فالماضي مستقبل نسج وعلى غراره ينسج الحاضر
أما تأثرنا أفرادا وجماعات بأوجه الوجود الثلاثة، فهناك أمر من الوضوح بمكان كبير. فالمشاهد أن كل الناس يسيطر على تفكيرهم شيء معين فيوجههم وجهات مخصوصة، ويجعلهم ينتحون نواحي خاصة. فبعض الناس يغلب على طبعهم حب المغامرة والمخاطرة، فترى حياتهم مصبوغة بهذه الصيغة؛ وبعضهم يميلون إلى الحذر والانكماش على أنفسهم. فتصطبغ حياتهم بلون من الكسل والجمود والجبن. والسبب الذي فرق بين اتجاهات الناس وجعلهم يسلكون ما يسلكون هو انطباع شخصياتهم بطابع من أوجه الزمن الثلاثة، فنجد بعض الناس يحنون دائما إلى الماضي ويعيشون عليه، وبعضهم لا يهتم إلا بالحاضر ولا ينظر إلى ما دونه. وبعضهم ينظر إلى المستقبل ويرى سعادته في طيا ته. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم الناس إلى ثلاثة أنماط مختلفة، لكل منها خصائصه ومميزاته. وهذا تخطيط أولى لهذه الأنماط:
1 - منطوون:
وهم الذين يوجهون اهتمامهم وانتباههم نحو الماضي، يرقعون مهلهله، ويزخرفون سيئه، ويبالغون في حسناته، ويكبرون من أمره، ويلهجون بذكره، مقرونا بالثناء والإجلال. مطابعهم الحسرة على ما فات، وإفراده وحده بالتعظيم، والانتقاص من الحاضر ورميه بالقصور والضعف (قلة الخير) أما الخير كل الخير والبركة كل البركة. ففي أيام (زمان) أيام العز والبلهنية، أيام كانت الدنيا دنيا والناس ناسا. وهذا الطابع هو طابع الشرق الذي لا تجيده إلا قيثارته؛ وسبب هذا الاتجاه الذي تمثله الحركات الرجعية والنظم المحافظة - ونحن نعلم ما لهذه النظم من خطر في شئون الحياة السياسية والدينية والفكرة - أمور منها:
أ - حب الحياة الذي يدفع بالناس إلى الكسل والجمود، ينأى بهم عن المخاطرة والمجازفة؛ والطبيعة التي تجعل الناس يتشبثون بالحياة على أية صورة كانت من عذاب مهين وبؤس مرير، فالناس لا يحبون أن يتخلصوا من الحياة بسهولة، حتى ولو كانت مملوءة بالذل، فهذا الحب للحياة على أية صورة، هو الذي يدفع بالناس إلى مقت التغيير خوفا على حياتهم الراهنة، وهذا يؤدي إلى الحنين إلى الماضي.
ب - الرغبة المستترة في أعماق النفوس التي تدفع الإنسان إلى الفخر، والبحث عن التقدير والإحساس بالاعتبار وأن له أهمية في هذا الوجود. فالإنسان إذا فقد التقدير الذي يريده في الحاضر فلا ضير عليه أن ينسبه إلى نفسه أو إلى أجداده في الماضي. والماضي قد مضى وأندثر، فمن السهل إدخال الزيادة والنقصان عليه، ولفه في إطار جميل معجب.
جـ - سنة الحياة التي تتدرج بالإنسان من طفولة لاهية مرحة، إلى شيخوخة عاجزة عابثة، فالحياة تتدرج من سهل لين خال من المسؤلية، إلى جهم مثقل بها. فالإنسان يجب أن ينطوي على نفسه ليجتر الأيام الخالية اللاهية.
د - طبيعة الخيال الإنساني الذي يفتن ضمن ما يفتن في رسم صور الماضي زاهية يعكس عليها رغبات الإنسان وآماله التي تنقصه في عالم الحقيقة. والخيال من طبيعته التكبير والتهويل، فالرجل الطيب قديس، والملك العادل أبن الله، والفارس الشجاع بطل مغوار ومحارب قهار. يفتح المدن وحده والديار. وهكذا. . وأمامك من ذلك آلاف الأمثلة؛ فمن هو عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي؟ ألم يكونا بطلين شجاعين عاديين؟ ولكن انظر ماذا جعلت منهما الأساطير في أذهان المنطوين. وما حقيقة الأولياء والقديسين؟ ألم يكونا إلا بشرا مثلنا؟ ولكنهم بالغوا في التقوى، وأتوا قوة مهما تبدو خارقة معجزة. فهي لا تؤهلهم بحق للمكانة التي يحتلونها في صدور مقدسيهم الذين ينسبون إليهم من الأعمال كل جليل، حتى أنهم قد يؤلهونهم! وما هي حقيقة أكثر الآلهة القديمة؟ ألم تكن إلا أرواح الأسلاف والأجداد عبدها أبناؤهم في صورة آلهة، كما يقرر أكثر علماء الاجتماع
2 - انتهازيون
وهؤلاء انكبوا على الحاضر وحده، فلم يلتفتوا إلى الوراء، ولم ينظروا إلى الأمام، بل هم أبناء وقتهم. وشعارهم ما مضى فات والمغيب أمر، ولك الساعة التي أنت فيها فإطفاء نار شهواتهم مقصدهم، وأخذهم من اللذة ولو على أي نحو وبأي سبيل أو في نصيب ومن الألم أقل قدر غايتهم وأمنيتهم. وضيق الأفق وبلادة الحس وعدم تقدير الوجود صفاتهم.
3 - منفتحون
وهم هؤلاء الذين يسيطر عليهم الشعور بالمستقبل، فهم يعلقون عليه آمالهم، ويطيلون النظر إليه كأن فيه خلاصهم ونجاتهم؛ أو على الأقل ينظرون إليه كعزاء لهم. وهؤلاء يحسون بأن الحياة في التغير والحركة، س والموت في الثبات والجمود؛ فهم يحبون المغامرة والمخاطرة ويميلون إلى المقامرة، وهؤلاء هم الطامحون أصحاب المثل العليا وذوو القلوب الكبيرة والآمال العريضة والهمم العالية، منهم العلماء والرواد والمخترعون والمكتشفون والمصلحون وأصحاب المبادئ والمذاهب الذين ينظرون دوما إلى الأمام، ويرون في المستقبل الخلاص والنجاة. وهذا الاهتمام بالمستقبل، والتعلق بالمثل العليا هو علة التقدم والدافع الوحيد إلى الرقي، فلو لم يكن لكل إنسان أمل يجهد لتحقيقه، وغاية ما يسعى إليها، وهدف من الحياة يقصده ويلد له العذاب في سبيله، لما وجدت الدنيا، ولا وجد الناس في الحياة طعما، ولا من سبب يقهرهم على أن يعيشوا. ولو وجدوا الحياة مترعة بالآلام، وإلا فلماذا إذن يعيشون؟ ولماذا لا يتخلصون من هذه الحياة المزعجة القاسية المؤلمة بأنفسهم؟ شيء واحد هو الذي يجعلهم لا يقدمون على ذلك: أنه الأمل على شتى ألوانه من أدناها إلى أسماها؛ فبعضهم همه لقمه سائغة ووجه مليح وملبس جميل وبعضهم همه هم الإنسانية يريد سعادتها. وبعضهم همه الذي يؤرقه أن يتشبث بمركبة الخلود إن لم يستطع أن يقفز في قلبها. فالأمل وإن كان سرابا، والأماني وإن كانت خداعا، تفيد الإنسانية وتدفع الناس إلى التضحية واستعذاب الموت، فالجندي يستشهد راضيا في سبيل وهم إسعاد وطنه، والمؤمن في سبيل إرضاء ربه. وعلى قدر الآمال والعمل على نيلها يكون حظ الأمة من الحياة والرقي.
وهذا الصنف المستقبلي غير مقطوع الصلة بالماضي، فإنه كثيرا ما ينعم النظر في الماضي والحاضر وهذا التلفت الدائم إلى الماضي هو الذي يجعله يضع أمله في المستقبل ويتطلع إليه على إنه طريق الخلاص. فالرجل الذي يشعر بالخطيئة الماضية يظل ندمان أسفا، ولكنه يرجو النجاة والخلاص في المستقبل. والإنسان الذي مسه الضر ولحقه الفشل بأمل الفلاح والتوفيق في المستقبل، وتكاد تكون فكرة التأرجح بين الماضي البعيد والقريب، والمستقبل البعيد والقريب كذلك، هي التي أوجدت الأديان عامة وخلقتها وجعلت لها مكانا في الوجود، أو على الأقل هي العمد الأولى التي ترتكز عليها الأديان، ولولاها لما كان هناك شيء اسمه الدين؛ فنحن إذا أخذنا ننظر في نشأة المسيحية مثلا: وجدنا السبب في وجودها وقت توتر، جعل أنظار الناس تتطلع إلى المستقبل وهي يائسة حائرة متلهفة مترقبة تبحث عن مخلص يخرج من بينهم، فيفتح لهم باب الرحمة في السماء، وباب النعمة في الأرض.
. . . يفتح باب الرحمة بأن يطهرهم من أدناسهم وأرجا سهم برسالته النبوية. . ويفتح باب النعمة بأن ينشر الأمن في ربوع أرض يهوذا، ويعلى ألوية بني إسرائيل، ويخلصهم من هذا العذاب الروماني المتلاحق. وحين مولد المسيح عليه السلام كانت القلوب قد بلغت الحناجر، ولم يعد في القوس منزع. وترقب اليهود ظهور المخلص على أحر من الجمر، واعتقدوا أنهم لن يموتوا حتى يروه يخلصهم وينشر الأمن على أرض يهوذا. وكثرت النبوءات عن ظهوره، وبشر به الشيخ المهيب الذي يعمد الناس في نهر الأردن وهو يوحنا المعمدان. وما أن ظهر عيسى حتى تلقت به الأنظار وكان ما كان من أمره. وكذلك وجدت فكرة المخلص في الإسلام، ولعبت دوراها ما في التاريخ والتفكير الإسلامي. وقد ظهرت تحت أسم المهدي والإمام القائم الذي يعلمه جبريل عليه السلام، وإذا مات بدل غيره والذي لابد أن يحكم يوما ما ويملأ الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا.
وفكرة الخلاص والمخلص ظهرت في حقب مختلفة تحت أسماء مختلفة من إسماعيلية وقرامطة وسنوسية ووهابية، وحديثنا البابية والبهائية ومهدي السودان.
ونجد كذلك أن الناس لا يقف تأثير المستقبل فيهم عند الحد الذي يجعلهم ينتظرون الخلاص فيه في الدنيا، بل تعداها إلى الآخرة. فالمستقبل هو الذي جعل الفقراء يتعزون عن البؤس الذي هم فيه باليوم الآخر حيث يجزون على النصب والشقاء في هذه الدنيا حنة عدن ونهر عند مليك مقتدر، إذ أن الله بعدله لن يذيق الإنسان الشقاء مرتين: شقاء في الدنيا، وشقاء في الآخرة. ولا النعيم مرتين: نعيما في الدنيا ونعيما في الآخرة. وهكذا نرى خطر هذا التأثير في الدين وبالتالي في المجتمع
وقد رأينا كيف تتشكل حياة الناس أفراد وجماعات بأوجه الزمن الثلاثة. وقد كنا نود أن نحدثك عن هذا التشكيل للحياة في الدول الكبرى وكيف تسير سياستها على هذا الأساس؛ فأمريكا مثلا تسيرها سياسة الاهتمام بالحاضر والمستقبل، وبريطانيا يسيطر على سياستها التوازن بين الماضي (حزب المحافظين) والمستقبل (الأحرار) فأما نحن فأرجو أن نكون قد بدأنا نتجرد من تفاخر العاجز وتعزى الناقص بماضيه الوضاء ولكن نترك ذلك إلى فرصة أخرى
عبد الجليل السير حسن