مجلة الرسالة/العدد 964/تعقيبات
→ رسالة الشعر | مجلة الرسالة - العدد 964 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 24 - 12 - 1951 |
للأستاذ أنور المعداوي
محنة الأخلاق في الجامعة
هذه الكلمات التي انقلها هنا، كما وردت بنصها في رسالة من أحد (تلاميذ) الدكتور عبد الرحمن بدوي، أود أن أقدمها مرة أخرى إلى معالي وزير المعارف، والى مدير جامعة إبراهيم، والى عميد كلية الآداب بتلك الجامعة. . أود أن أقدمها إلى هؤلاء الذين بيدهم الأمر، ولهم سلطة الاشراف، وعليهم في النهاية تقع المسؤولية!
قال التلميذ (الفاضل) وهو من ناشئة الجيل الذي اشرف على (تربيته) الأستاذ (الفاضل): (قرأت تعقيبكم على فقرات من كتاب (الحور والنور) للدكتور عبد الرحمن بدوي، فرأيت أن أراد ما جاء به من اتهام مجحف بما يلي:
(1) أن العلاقة الجنسية عملية (بيولوجية) لاستمرار الحياة. . فالتحدث عنها وعما يستلزمها من استمتاع بالأعطاف والأرداف ليس فيه ما يخجل!!
(2) ما هي قيم الناس المقدسة؟ أن هي إلا أضحوكة صاغها العرف ودعمها من يسميهم الناس أنبياء. . فله الحق (يقصد الدكتور بدوي) في رفضها أو قبولها!!
(3) أن عبد الرحمن بدوي لا ينال بمثل هذه الكلمات من سمعة الجامعة العلمية أو الخلقية. . بل أن الجامعة لتفتخر به)!!
إلى هنا وتنتهي رسالة التلميذ (الفاضل)، وهو كما قلت من ناشئة الجيل الذي يشرف على (تربيته) الأستاذ (الفاضل). . أن هذه الرسالة هي الدليل المادي الذي لا يدفع، على أن هذا الأستاذ قد استطاع أن يطبع تلاميذه بطباعه، وان يخلق منهم (رجالا) يواجهون معركة الحياة الطويلة بسلاح الخلق. . الخلق الذي يطالعك معدنه (النفيس) من وراء تلك الكلمات!
هذا هو ما كنت انتظره وأخشاه، وهذا هو ما دفعني إلى إثارة المشكلة من قبل أمام المسؤولين، مشكلة التدهور الخلقي الذي يخشى منه على طلاب الجامعة. هذه التيارات الفكرية التي تعصف بالقيم وتحتقر المثل وتهزأ بالتقاليد، من الذي نثر بذورها الآثمة ورعى ثمارها المجرمة في رؤوس أصحاب الغد، رؤوس هذا الجيل المرتقب من شباب الجامعة؟ ترى هل يحتاج السؤال إلى جواب؟ وإذا كان محتاجا فمن يجيب؟ هال أجيب أن أم يجيب مدير جامعة إبراهيم، أم يجيب عميد كلية الآداب بتلك الجامعة؟!
أن مثل هذا الطالب الذي يدافع عن العلاقة الجنسية بأنها عملية بيولوجية، ويؤكد أن الاستمتاع بالأعطاف والأرداف ليس فيه ما يخجل، وان القيم المقدسة أن هي إلا أضحوكة من صنع العرف أو من صنع من (يسميهم) الناس أنبياء. . مثل هذا الطالب - وهو نموذج مادي صارخ لغيره من الطلاب - لا ذنب له في رأي الحق ولا لوم عليه؛ لأن هناك (الأستاذ) الذي أقنعه بان هذه هي القيم، وبان هذه هي المثل، وبان هذا هو الطريق. . هناك الأستاذ الذي أتقنعه بهذا كله في قاعات الدرس وهو يحاضر، وبين صفحات الكتب وهو يؤلف، ولا بأس في منطق (الدين الجديد) من أن نفخر الجامعة بداعي الدعاة!!
أرأيت كيف يفخر التلميذ (الفاضل) بكلمات أستاذه (الفاضل)؟! لقد علمه فاحسن التعليم، وأدبه فأحسن التأديب، ووجهه فاحسن التوجيه، وبلغ من ذلك كله الأوج واشرف على الغاية. . أن هذا الطالب وأمثاله شهداء؛ وإذا كان الشيء يذكرنا بنقيضه، فإنني لأذكر في هذا المجال شهداء آخرين، وما أبعد الفارق في حساب الشعور بين شهداء (الوطنية المحمومة) وشهداء (الأفكار المسمومة). . أن (أبناء القنال) مثلا يفخرون بحديث الجهاد والبذل، وبمعنى الفداء والتضحية، ثم بشرف الانتحار بين يدي العدو اللدود؛ أما (أبناء الجامعة) فيفخرون بحديث الأعطاف والأرداف، وبمعنى المساواة بين الخالق والمخلوق، ثم بشرف الانتحار بين النهود. . ألبست هذه الألفاظ هي ألفاظ (أستاذ الجيل) كما أزدان بها كتاب (الحور والنور)؟!
حديث وحديث، ومعنى ومعنى، وشرف وشرف، وهي في جوهرها دروس ودروس. . دروس في (الاستقلال) يتلقاها فريق من شباب مصر، ودروس في (الانحلال) يتلقاها فريق آخر من هؤلاء الشباب، وأبحث عن الدوافع النفسية لهذه الظواهر الخلقية، أبحث عنها في تعاليم (القادة) والموجهين هنا وهناك!!
لقد بقي شيء كنت أود أن أذكره وهو أسم هذا الطالب الجامعي لعله يخجل. . كنت والله أود أن افعل ولكنني تذكرت أن أستاذه (الفاضل) قد علمه وعلم أمثاله أن الهبوط والسقوط، ليس فيهما ما يبعث على الخجل أو ما يدعو إلى الحياء!!
ذكرى شاعرة سورية: هل تذكرون تلك الفتاة الأنيقة الرشيقة. . (الآنسة) هجران شوقي؟ وهل تذكرون ذلك اليوم الذي رفعت فيه القناع عن الوجه المزيف والحديث الكاذب والشعور المصنوع؟! لقد استطاع ذلك الشاعر السوري (المعروف) أن يلقاني بوجه امرأة، وان يتحدث إلي بصورة أمرأة، ولكنه نسي شيئاً واحداً لم يفطن أليه. . وهو أن يتزود بدهاء النساء، نسي مع الأسف الشديد هذا السلاح الخالد من أسلحة حواء. . ومن هنا انكشف أمره وانتهت المعركة!
أقسم إنني كنت اعرفه، اعني (الأستاذ) هجران. . وإنني ذكرت أسمه لكثير من أهل الأدب حين سئلت عنه، بعد تلك الكلمة التي وجهتها إليه على صفحات (الرسالة) ورجوته فيها أن يفصح عن اسمه وإلا أفصحت عنه!. . رجوته فخيب الرجاء ولج في الهجر، وأمعن في الدلائل، شأن ربات الحجال! ومن هنا خانني الصبر فبحت باسم الأستاذ الشاعر في مجالس الأدب فصدق أناس وتردد في التصديق آخرون. . ترددوا على الرغم من الأدلة المادية المقنعة التي تقوم على المقارنة بين شعره وشعر (الآنسة)، وبين النماذج الخطية لكتابتها وكتابته وهي موجودة بدار (الرسالة)؛ فضلا عن السبب الرئيسي الذي من أجله بدل من قسمات الوجه وغير من نبرات الصوت. . وهو دفاعه الصادق المخلص عن شاعر يمينه في مسابقة شعرية أقامتها مجلة (العصبة) المهجرية!!
تلك الفئة المترددة في التصديق كانت قليلة على كل حال، وعذرها في ذلك مقبول حين نضع نصب أعيننا هذه الحقيقة، وهي أن الشاعر الذي وضع على وجهه نقاب امرأة شاعرة معروف تعرفه صفحات (الرسالة) منذ خمسة عشر عاما على وجه التقريب وتبعا لهذا (الشرف) يعرفه القراء في مصر والبلاد العربية. . ومن هنا عز على بعض المقول أن تصدق تلك (الفعلة) التي لا يقدم عليها غير الأدباء الناشئين أو غير الصبية المراهقين!!
وأترك تلك الفئة المترددة وأخاطب القراء، مقدما إلى أذواقهم هذه الأبيات التي اقتطفها من قصيدة ألقاها الشاعر الذي أعنيه، في حفلة تكريم أقيمت للشاعر المهجري جورج صيدح بدمشق، ونشرتها مجلة (الأديب) اللبنانية في عدد ديسمبر عام 1951. . قال الأستاذ الشاعر وهو يتحدث عن نكبة فلسطين بصوت (لرجال) محييا الشاعر المهجري الذي نذر لها ديوانه (النوافل) هبة شعر وشعور، قال حفظ له الله وجهه الحقيقي بغير نقاب: عليك سلام العرب يندى مواجعا ... ويشرب دمع العين غربا إلى غرب
ولم رحت لا تلوين إلا على النوى ... أمن أمل رحب إلى أمل نهب؟
ديار الهوى لا زلت مخضرة المنى ... ترف على مغناك فينانة العشب!
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... وبي منك ما يغري المحب وما يصبي
وما غبت عن طرفي وإن بعد المدى ... ولكننا في الحب جنبا إلى جنب
وما ذكرتك النفس إلا تولهت ... وهيمها رح فباتت بلالب!
يهيج جواها الشوق والشوق عاصف ... كان على أنفاسه زفرة النحب!
دهتك من الدنيا كوارث جمة ... وألقت بك الويلات في مسلك صعب
فقد ينجلي الليل الطويل عن السنا ... وتزدهر الأعواد في المهمه الجدب!
إذا دهمته الداهمات تلجلجت ... به النفس وأنهارت تقول له حسبي
وطوف رباع الخلد تطواف عاشق ... حسير الأماني وابك بالدمع السكب
إليك أؤدي بعض ما تستحقه ... رفيفا من التحنان والنغم العذب
وأنت جدير بالدراري فليتني ... أصوغ بياتي من سنا الأنجم الشهب!
هذه هي الأبيات، ومعذرة لضياع الوحدة النفسية فيها وكذلك الوحدة الفنية، لأن هناك بيتا مقتطفا من هنا وبيتا مقتطفا من هناك، تبعا لحرصي على جمع (الأكليشيهات اللفظية) التي سأترك لك المقارنة بينها وبين (أكليشيهات أخرى) مماثلة، هناك في قصيدة قديمة وجهتها (الآنسة) هجران شوقي إلى الشاعر عزيز أباظة، في العدد (901) من الرسالة. . وهو العدد الصادر في 9 أكتوبر عام 1950! قالت (الآنسة) الشاعرة التي نسيت إنني اقرأ مجلة (الأديب) وما زلت اذكر شعرها الحبيب:
وأنت سماوي القصيد قبسته ... من اللاعج المشبوب والمدمع السكب
ولما نزل سؤل النفوس وقصدها ... وشغل الليالي الزهر والأنجم الشهب
فيالك من شعر رقيق منغم ... برف رفيف الطل في ناضر العشب
ترقرق بالشكوى وضمخ بالأسى ... فجاد بما يغري وجاش بما يصبي
وأشربته نجوى تذوب رهافة ... وتخضل بالتذكار والأمل النهب
تخلده الأحقاب في الطير شاديا ... فأما شدا بات المحب بلا لب وفي الغائب النائي الذي لفه الردى ... ففاض حنانا وهو في زفرة النحب
غريب حريب لا يقر قراره ... إلى أن نرى في الخلد جنبا إلى جنب
فما الشعر إلا أبن المدامع والأسى ... تجود به الأجفان غربا إلى غرب
إذا خاطب الأرواح رفت بشاشة ... ولو أنها في وحشة المهمه الجدب
يظل حداء الركب ترمي به النوى ... فينسيه ما يلقاه من مسلك صعب
نشاوي وما ملوا غناء ولا سرى ... ولا تعبوا أو قال قائلهم حسبي!
فيالك صداحا ويالك شاعرا ... تفرد بالتحنان والنغم العذب
أرأيت إلى هذه (الأكليشيهات اللفظية) المكررة في هذه القصيدة وفي القصيدة السابقة؟!. . إنها (أكليشيهات) تطالعك كثيرا في شعر هذا الشاعر، وهي من (لوازم) التعبير التي تكشف لك عن شخصية الأديب أو الشاعر ولو حججت تلك الشخصية وراء الأستار!. . (المدمع السكب)، والدمع الذي تجود به الأجفان (غربا إلى غرب)، و (الأنجم الشهب)، و (المسلك الصعب)، و (المهمه الجدب)، و (زفرة النحب)، و (بات بلا لب)، و (الأمل النهب)، وفي الحب أو في الخلد (جنبا إلى جنب)، وتلك أو الذي (يقول له حسبي)، وذلك (التحنان والنغم العذب). . إلى آخر تلك (الأكليشيهات) المحفوظة على طريقة تلاميذ المدارس، والتي يمكنك أن تجد الكثير منها بلحمه ودمه في قصيدة أخرى نشرت (للآنسة) هجران على صفحات الرسالة، وهي القصيدة التي رثت بها (أختها) الشاعرة المصرية الراحلة، الآنسة ناهد طه رحمها الله!!
عيب الأستاذ الشاعر أنه ضعيف الذاكرة، ولو لم يكن ضعيف الذاكرة لما نسي أن وظيفتي الفنية هي النقد، وان النقد من عاداته أن يرفع الستر عن الأشياء الدفينة. . لقد سطا الأستاذ في جرأة بالغة على شعر الآنسة هجران، ولم يتحرج من أن يحيى الشاعر جورج صيدح بهذا الشعر المسروق!
ليصدقني القراء إنني لم اكن أنتظر أن يسطو هذا الشاعر المعروف على شعر هذه الشاعرة الناشئة. . ق يدافع هو عن نفسه فيقول لنا بصوته الطبيعي الذي لا تشويه رقة الغانيات: هذا اتهام جائر لأن الشعر شعري هنا وهناك، سواء نظمته من وراء الأستار أم نظمته في وضح النهار. . عندئذ لا يسعنا إلا أن نعتذر للأستاذ أنور شوقي أو للآنسة هجران العطار!!
حول أسئلة القراء:
يؤسفني جد الأسف أن تشغلني محنة الأخلاق في الجامعة وذكرى الشاعرة السورية، عن التفرغ للأسئلة التي تلقيتها من بعض القراء وأشرت إليها في العدد الأسبق من (الرسالة). . ولقد تلقيت فيضا آخر من الرسائل في الأيام الأخيرة، وارجوا ألا تشغلني من التعقيب محن أخرى وذكريات!
بقي أن أوجه أنظار القراء إلى هذه الحقيقة، وهي أن وقتي لا يتسع لكتابة الرسائل الخاصة حول المشكلات الخاصة؛ المشكلات النفسية التي تمتلئ بها نفوس الشباب في هذا الجيل. إنني أقدر هذه المشكلات كل تقدير وأعطف على أصحابها كل العطف، ولكنني أعتذر لهم بضيق الوقت وبشيء آخر، وهو أن كثيراً من المشكلات لا يمكن علاجه بكلمة أو كلمات!
أنور المعداوي