الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 963/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 963/الكتب

بتاريخ: 17 - 12 - 1951


أناشيد المهزلة العربية

تأليف الأستاذ محمود الحوت

للأستاذ نجاتي صدقي

أصدر الشاعر الفلسطيني الموهوب الأستاذ محمود الحوت قصيدة مطولة تقع، في ستة وعشرين نشيدا. أطلق عليها اسم (المهزلة العربية - أناشيد عربي من فلسطين ضل في الآفاق) فقدمها:

إلى القائد الذي سيسترد أول شبر.

إلى الكتيبة التي ستغرس أول بند في تربة الفردوس المغتصب.

إلى أكل من سيلبي النفير العام.

إلى الشعب العربي الأكبر.

وقد عمد الشاعر في أناشيده هذه إلى استعراض النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وما رافقها من أخطاء، فجاءت الأناشيد سياسية تتسم باتجاهمجازى، أي أن الشاعرلا يقصد في نقده للسياسة التي اتبعتها الدول العربية في فلسطين الإعراب عن وجهة نظر سياسية معينة، فلما يقول:

لو لم يقولوا احتضناها لما وقعت ... ولا تنافر عنها الأسد كالغنم

فلا يعنى أنه لا يريد تدخل الدول العربية في القضية الفلسطينية، ولكنه ساخط على النتائج

وحين يقول:

ليت العروبة في إبان وثبتها ... لم تشهر السيف بتارا ولم تثب

ليت العروبة ما زالت تهددهم ... من خلف عسكرها المستأسد اللجب

إذن لكان لها في قلبهم هلع ... وكان بعض الذي نبغيه من أرب

فهو هنا أيضا يعرب عن ألمه لعدم تمكن القوات العربية من إحراز الانتصار، وحثها في الوقت ذاته على الأخذ بالثأر، ويتضح لنا ذلك من كلمة الإهداء.

وهكذا يسير الشاعر في أناشيده من نقد إلى نقد، وهو يشنها حربا شعراء على من وعد ونكت وأقبل وأدبر.

وأكرر القول بأن الأستاذ الحوت لا يبغي من (هجومه) السياسي هذا إلا استثارة العواطف، وشحذ الهمم، وهو على حق فيما رمى إليه. لأنه يخشى أن تمتد يد السوء إلى الأقطار الشقيقة المجاورة وعندها تنتقل المسألة من نكبة صغرى إلى طامة كبرى.

لقد برهن شاعرنا في ملحمة هذه على أنه فنان قدير، يتقن اختيار الكلم، وحسن الوصف والتصور فيقول في نشيده الأول:

بئس الحياة التي هان الزمان بها ... فلم تعد غير خفق صامت بدم

أي أن الحياة هذه هي خفقان القلب لا أكثر. . وهذا لعمري أقصى ما يمكن أن يقال في التشاؤم

ويقول أيضا:

صلب العقيدة ما لانت عزائمه ... كأنه في صراع المشركين نبي

تشبيه جميل للشعب العربي الفلسطيني بأنه رسول حتى يحارب الوثنية الاستعمارية.

ثم يصف وصفا أليما خروج أهل يافا هائمين على أمواج البحر فيقول:

لئن نسينا فلن ننساه ذا شره ... جهم الضمير، عبوس الوجه مصطفقا

غضبان، يهدر فيه الغمر، مائجة ... جباله، زاحفات بالردى غرقا

والناس في عرضه حيرى زوارقهم ... كالريش في عصفات الريح منطلقا

مدوا على الأزرق العاتي بساطهم ... كي لا يروا حرم الأبطال مخترقا

وهو يرى في تشتيت عرب فلسطين (طريقة) سهلة للقضاء على الشعوب المستضعفة فيقول:

من شاء إفناء جيل فليكن حذرا ... من قتلهم بالسيوف البيض والنار

يكفي فناء بطيئا فرط عقدهم ... ونثرهم غرباء الحي والدار

وأجمل ما قيل في الكونت برنادوت وفي نهايته العجيبة:

شيخ وإن قيل قد طابت ظواهره ... فنحن لم ندر ما ضمت سرائره

رمت به في فم الجلي منظمة ... رعناء فاستلم القربان ناحره

ما مزق المجرمون الكونت بل نحروا ... ومزقوا أمما كانت تظاهره!. .

وكفر الشاعر بالزعامات، ويأتي الاجتماع بها حتى في جنات النعيم فيقول:

فهل تخلد أصناما ترقصها ... شمطاء ما روضت إلا تغابينا

لو أن جنة خلد تحتنا فرشت ... وأنتم جيزة - وردا ونسرينا

لعفتها بعد أن أمسيت مرتحلا ... في الكون قد ضل لا دنيا ولا دينا

ونقم الشاعر على الشعب الذي لا تحركه النكبات، فيقول له هذا البيت البديع:

حتى الوفاة لها يا قوم يقظتها ... قبل الرحيل إلى الفردوس أو سقر!. .

ومستهل نشيده التاسع عشر بهذه الصرخة المدوية:

فما نسينا دماء ها هنا وهنا ... غصت بها الأرض من حاب ومنطرح

إن لا نعبئ قوى التاريخ أعنفها ... والحاضر الجهم والمستقبل السمح

ونتحد أمة تفنى بها أمم ... وتنفض النوم عنها صيحة الجرح

فلا فلسطين تبقى يا رفاق لنا ... ولا الشقيقات (من أدر) إلى (رفح)

هذه صرخة كل فلسطيني شردته العدالة الديمقراطية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين. . بل ولا تزال تمعن في تشتيته وتشريده غير عابثة بأبسط حق من حقوقه العامة ليعيش في بيته ووطنه، وغير مكترثة بحق الملكيات الفردية التي تدافع عنها بإيمان وحرارة.

وما أن يذكر الشاعر المسكين مسقط رأسه يافا، البلد الذي نشأ فيه وترعرع، والذي بنى فيه مستقبله ومستقبل أولاده، حتى استحال إلى مجموعة من الأسى والألم، فسلم أمره إلى الله بعد أن يئس من عبيده وعبدانه، وقال:

يافا، لقد جف دمعي فانتحبت دما ... متى أراك، وهل في العمر من أمد

أمسى، وأصبح والذكرى مجددة ... محمولة في طوايا النفس للأبد

كيف الشقيقات، يا شوقي لها مدنا ... كأنها قطع من جنة الخلد

ما حالها اليوم يا يافا وهل نعمت ... من بعد أن سلمت أمسا يدا بيد

وكيف من قد تبقى في مرابعها ... وقد تركناه فيها ترك ملتحد

ما بال قلبي إذا ما سرت من بلد ... يصيع من وجده في الصدر: وابدي

مهما استقام به من عيشة رفد ... وجدته هازئا يا لعيشة الرعد تعبت لكنني ما زلت في تعبي ... أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحد

لقد اختار الشاعر اسم (المهزلة العربية) عنوانا لأناشيده، وهو اسم عنيف، مبالغ فيه، ومن الإنصاف أن نذكر أن عددا لا يستهان به من إخواننا العراقيين، والأردنيين، والمصريين، والسوريين، قد لاقوا حتفهم في فلسطين. . أما فشلهم في التغلب على الخصم فله أسباب عديدة لا مجال لبحثها في هذا المقال

(المهزلة العربية) أسم مشتق من (المهزلة الإلهية) لدانتي، فالشاعر الإيطالي يسخر من أناس خطاة يتقلبون بين طبقات الجحيم. وشاعرنا يحمل على أناس أكثر من خطاة وجلهم في نعيم الدنيا مقيم.

(المهزلة العربية) وثيقة اتهام شعرية، ورسالة أدانه عاطفية، طبعت في بغداد، وضعت إلى (مكتبة القضية الفلسطينية) في دمشق، ونرجو مع الشاعر إلا تضم إلى المكتبة الأندلسية.

نجاتي صدقي