الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 960/القَصَصٌ

مجلة الرسالة/العدد 960/القَصَصٌ

بتاريخ: 26 - 11 - 1951


سلطان مصر الشهيد

الفصل السادس

في بركة الرطلي

للأستاذ محمود رزق سليم

كانت بركة الرطلي! إحدى منازه القاهرة، وكان الخليج المصري يجري حولها. ومنذ أن جرى حولها هذا الخليج، بني الناس فيها الدور والقصور، وامتلأت بالقطان. وزرع بعض نواحيها. فأنبتت نباتا حسنا. فاكتملت مباهجها بالزرع النضير والمياه والخرير، وأخذت الزوارق تغدو من حولها وتروح، تحمل المرتاضين وطلاب السلوة وعشاق السمر. وبخاصة عندما يحل الأصيل أو يقبل الليل. وعلى حفافيها أضواء منتشرة. ومحال للهو معدة، تستقبل الوافدين إليها ببشاشة وترحاب، وتودع الراحلين عنها على أمل وإياب. .

وعاش في هذه البركة، وارتادها، كثير من شياطين العبث وأبالسة الفساد، وعشاق المنكر، فالتاثت بذلك سمعتها حينا. وأتى عليها حين من الدهر آخر، ابتني حولها كثير من العلية بيوتهم، فعجت بالرؤساء منهم والأعيان، وطلب فيها لهم اللقاء الجميل، والتأم الشمل في المجلس الحافل. وتلاقي منهم الأحباء والخلصان. ونافست البركة في كل ذلك؛ الأزبكية وبساتينها. وقبة يشبك وحدائقها

وفي بعض ليالي عام 919 هـ كنت تشهد هذه البركة، وقد تحولت إلى قطعة من نور لكثرة ما أضىء بها من قناديل. فقد نادي محتسب القاهرة (الزيني بركات بن موسى) بين سكانها بأمر من السلطان، أن يقيموا ضروب الزينة ومعالم الأفراح على جبهات دورهم وصفحات محالهم، ابتهاجا بشفاء السلطان مما ألم بعينيه، وكان السلطان قد بارتخاء في جفنه، وحار في علاجه. ثم عكف عليه أطباؤه وكحالوه - أطباء العيون - حتى من الله عليه بالشفاء، وكان الناس خلال مرضه قد أرجفوا، ودبت بينهم الإشاعات عنه دبيبها المسموم، حتى قال قائلهم: إن السلطان قد عمى، وأصبح لا يصلح للسلطنة، وصاروا ما بين متوجع له، وبرم به، ولاه عنه، وقد داخل أمراءه ومماليكه الريب فيه وحدثتهم النفس بالخروج عليه والغدر به، ابتغاء سلطان جديد يسخو عليهم ويجود، بدل هذا الشحيح الضنين، وقد بلغت أبناؤهم مسامع السلطان فاضطر إلى جمعهم وتوبيخهم حتى أقسموا له يمين الولاء على المصحف العثماني. . . ومن ثم أخذ يسترضيهم بشتى ضروب الاسترضاء

فلما بريء السلطان من مرضه، أحب أن يشيع خبر برئه بين الناس حتى يعلم به القاصي والداني، ويهيئ لهم، رغم أنفسهم وقتا للهو، ويفتح بابا للتمتع والابتهاج، فرحا بشفائه. .

لي سكان القاهرة نداء محتسبها، وازدانت بركة الرطلي وبدت في أجمل حلة، وتوجهت الطيقان بقطع الأقمشة الحريرية الملونة الجميلة، وعلقت حمائل القناديل وأمشاطها، واجتمعت كل معدات الهو ودواعيه، من طعام شهي، وشراب طلى، وغناء جديد، وألعاب نارية يحرق فيها زيت النفط

ومادنا الليل حتى كان اللهو قد نادي ببوقه، واستوي على سوقه. وأخذت الزوارق تذهب وتؤوب في الخليج، مرة ينفرج عنها ظلام الليل البعيد، كأنها ابتسامات العبيد، ومرة تنساب عائدة إلى ظلالته، فيطوي عليها حفافي ملاءته. وهكذا لبثت البركة في تبرجها وزينتها ثلاثة أسابيع متوالية، وهي مراد اللاهي وروضة الحائر، ومراح المرتاض، وموعد العشاق، حتى قال فيها الشاعر:

إلي بركة الرطلي أني ميمم ... لأبرئ كبري أو أزيل سقامي

ففيها لمعمود الفؤاد لبانة ... يطب برياها من الأسقام

إذا ظمئت نفسي من الوجد والهوى ... ذهبت إليها كي أبل أو أوامي

وأهفو كما أهوى إليها كريمة ... بغير عتاب عندها وملام

بها الراح تسقي في الكؤوس وتارة ... تدار بلحظ مرة وكلام

بها متع للعين والسمع والنهى ... وليست لعشاق الهوى بحرام

ولم تكن البركة وحدها منفردة بهذا التبرج - حينذاك - بل كانت كذلك، القلعة والقاهرة وأسواقها، وهناك كانت مصر العتيقة، وبولاق وغيرها وتبارى الأمراء وكبار الموظفين والقضاة والأعيان والخليفة في إظهار سرورهم، وبالغوا في مشاركة سلطانهم فرحة بهذا الشفاء: فجعلوا دورهم بالأعلام والثريات والأقمشة النفسية، وكانت أنواع الموسيقا تعزف في مختلف النواحي، حتى لتحسب القاهرة وضواحيها قد لبست ثياب العيد وحدها دون سائر البلاد بهرت الزينة الأنظار، وخلت الأفئدة، وجذبت إلى البركة مئات من الرواد، كان من بينهم شاعرنا (شهاب الدين) فجاس خلالها، وأشبع نفسه من مباهجها، وملأ فجاج قلبه من مرائيها، وعذى عواطفه المهتاجة بالجميل الرائع من مفاتنها

وبينما كان يلج في رياضته إذ التقى عرضا بصديقه الفقيه (ولي الدين) فحياه، وفي تحيته شيء من الإنكار والعجب. وقال له: (ويحك أيها الصديق! ألا تزال في نفسك بقية من شباب؟ ما الذي جذبك إلى بركة الرطلي؟)

ولي الدين: ما أحوج الشيب إلى متعتها! إنها لتجري ماءه، وتحي دماءه، وتطلق حياءه. . .

شهاب الدين: ألا تتركها لنا معشر الشعراء. . . يلهينا انسجامها مع عواطفنا، واتساقها مع احساساتنا عن البحث وراء حلالها وحرامها؟

ولي الدين: معاذ الله أن يغرينا دنسها أو يقربنا نجسها. والله يا بني! إن الحق أن لي ذوق المؤرخ الذي يجب أن يعرف كل شيء ويدون في صفحة فكره عن كل واقعة سطوراً، ويرسم في رقعة ذهنه لكل حادثة صوراً. لا يعنيه منها غير تسجيلها، قبل البحث في حرامها وحلالها. ثم هو بعد ذلك لا يصيبه من حلالها قلامة، ولا يصيبه من حرامها ظلامة

شهاب الدين: أما تزال تتأول أيها الشيخ كعادتك، وتهيئ لنفسك من كل حرج مخرجاً حسناً؟ أليس خيراً لك من بركة الرطلي، جزيرة بولاق حيث يقام مولد سيدي إسماعيل الأنبابي؟. . . أين صديقنا علم الدين الخياط؟

ولي الدين: هو هنا في عقر حانوت، ومعه أصدقائنا، وأنا منهم على ميعاد

(يؤمان الحانوت ويقابلان الأصدقاء، ومنهم علم الدين والتاجر والمستوفي وغيرهم. ويجلسان بين ترحيب حافل وفرح شامل ثم تدار على الجميع طاسات السكر والليمون، ثم يدبرون أكواب الأحاديث)

علم الدين الخياط يوجه الحديث إلى الشاعر شهاب الدين، قائلا - وكان لم يره منذ حين -:

حمام الأيك ما ألهاك عنى ... ومنذ أبعد الأطيار مني

شهاب الدين:

ذهبت وراء آمالي أغنى ... وعلمني الغنا طول التمني وما أنا بالغ منها قليلا ... وإن أك تحت شرفها أغني

لقد شغلتني - أيها الصديق - مباهج القاهرة ومفاتنها. وهي جديرة بأن تلهي وتشغل. وقد قيل:

سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت

لقد اعتاد القاهريون الترف، وأخذوا بأسباب الرفاهة منذ عم بينهم الرخاء وازداد الخير، ومنذ وجدوا في سلطانهم وعاداته وتنقلاته وأوامره ما يدعو إلى اللجاج في الترف والرفاهة، فلجوا وأترفوا ولو كارهين. . . فحضت في الذي خاضوا. . . ما دمن نرى في كل آونة موكبا وحفلا، وفي كل يوم انتقالا وسفرا، وفي كل التفاتة حشدا وركبا. . .

علم الدين الخياط: هل هذا هو ما شغلك عنا؟ وما نصيبك أنت من كل هذه البلهنية والنعيم؟ إذا لم يكن إلا نصيب المتفرج بهما المشاهد لهما فحسب، لا نصيب المتمتع اللاج في غمراتهما، فنحن إذن متساوون. .!

للقصة بقية

محمود رزق سليم