مجلة الرسالة/العدد 960/البريد الأدبي
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 960 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
القَصَصٌ ← |
بتاريخ: 26 - 11 - 1951 |
جمال الدين أباظة بك:
من هذا المكان يا عمي الذي طالما أحببت أن تقرأ لي فيه، والذي كنت تقرأ فيه ما سمعته قبل أن ينشر. .
من هذا المكان الذي رأيتني فيه منذ بدأت أكتب حتى اليوم. . من هذا المكان أحب أن أكتب. .
ولكن أتراني أستطيع؟ أحاول كلما فكرت في ذلك أن أنفي عنك فكرة الموت ولكنها تلاحقني فيك فأبعدها. . هي الحقيقة الثابتة. وأنا الجازع منها لا أستطيع أن أصدق. ولا أستطيع أن أكذب، فماذا أقول لك؟
أحقا انتهي الأمر؟ أحقا لم يعد في استطاعتي أن أذهب إلى الضاحية التي أشرقت بك حينا من الزمان، والتي بها لاقيت أو لاقينا نحن فيك المصاب؟ أحقا لن أخاطبك بعد الآن لأسألك رأيك وأطلب مشورتك؟ أحقا لن نلتقي في تلك الأماكن التي طالما التقينا بها؟ أحقا لن تراعيني بعد اليوم كما كنت تفعل. . أحقا لن تفرح بي كلما فرحت بنفسي وكلما فرح بي أبواي؟ وحقا لن تألم كلما ألمت لنفسي أو ألم لي أبواي؟ أحقا لن نذهب بعد اليوم في كل يوم سبت إلى الندوة المعهودة؟ أحقا لن تطلب مني أن أنتظرك في المقصف الملاسق لباب اللوق. . أحقا لن أقرأ عليك هذا الكلام. . أحقا خلت كل هذه الأماكن منك؟ أو لتخل هذه الأمكنة المادية. ولتقفر المناضد التي جلسنا إليها ولينضب الورد الذي نهلت منه. ولكن مكانك في النفس لن يخلو. . سأنظر إليه كلما أقدمت على أمر. . سأظل أنظر إليه ألتمس العون وأسأل المشورة. ولن يبخل. وهل بخلت أنت يوما. . وهل بخلت أنت بشيء. . كنت الصفاء في هذه الحياة العكرة. . كنا كلما فكرنا في شخصك تمثلت لنا القمة التي ترتقي إليها الإنسانية. بل تمثلت لنا الملائكة. كنت تثبت لنا بوجودك أن هذه المعاني السامية التي قد نسمع بها ولا نراها موجودة قائمة رائعة. سامية. جليلة. كانت إياك في تسامحك حتى لتنزل عن نفسك، وكانت إباك في رقتك حتى ليخجل محادثك من ماديته. ثم أنت لا تشعره بأرتفاعك. . وكانت إباك في تواضعك وترفعك. . في بساطتك وكبريائك. . وكانت إياك في كل خلقك. . وبعد. . عساه. . ماذا أقول. . أأقول ألمنا. .؟ ما أهون! أأقول جزعنا. . لا يكفي. . أأقٌول فقدنا فيك إيمانا بالسمو مع التواضع والزهد مع العظمة. . أأقول فقدنا فيك إيمانا بإنسانية الإنسان. . لا. . إن شيئا من هذا لا يجرؤ أن يعبر عما فقدنا. كل ما نستطيع أن نقول إننا فقدنا جمال الدين أباظة بك. . فقدناه لراحته هو فنحن لم نفقده. . وإنما نفتقده ولا نجده. .
كنت هنا في الأرض تشيع حولك جوا ملائكيا، ساميا، طاهرا. رفيعا. وكنت تنعم بما تشيع وينعم به الجالسون إليك؛ ثم ما تلبث هذه الأرض النكدة أن تذكرك أنك ما زلت عليها ليشتبك الحديث في ماديات أنت أزهد الناس فيها. وإذا انتهت الجلسة وانصرف أصحابها واضطربوا مع الحياة أذلتهم وأذكرتهم بأنهم هنا. . هنا ما زالوا أبناءها وعبادها. وكنت وحدك تترفع عن عبادتها فلا تتجه بوجهك لغير الله. ولا تذكر في نفسك غير هذه الملائكية الرقيقة التي أنشأتها على الأرض. . أما الآن فاهدأ ولنجزع نحن. . اهدأ فقد أصبحت في المكان الذي طالما تمنيت أن تكون فيه، وها نحن أولاء ما زلنا ننظر إلى مكانك فترتفع معك بأفكارنا لنهدأ وترتاح جوانينا أن أصبحت أنت في أهنأ مقام ثم نهبط بأنفسنا إلى هنا. . إلى حيث نحن الآن، فتلتاع النفس حسرات وشوقا، ونريد أن نهرب من هذه الحياة إلى سمائك التي كنت تنشئها على الأرض فإذا هي قد ارتفعت إلى السماء التي أعد الله فيها جنات لك وللمتقين. . وهكذا نهرب من الحياة إلى الحزن عليك، ثم هي تحاول أن تلهينا ولكن عز فيك التلهي وجل فيك العزاء
وبعد فيا عماه. . ماذا أقول؟. أينتهي هكذا مجال القول فيك؟ أقسم أنه ما ضاق إلا لسعته وما عجزنا إلا لمصابنا. . فما أنت بالراحل الذي يكفي فيه البكاء؟ ولكنه من هذا المكان الذي أحببت أن تقرأ لي أحببت أنا أكتب إليك مما كنت تسمع وتقرأ. . ولكنني اليوم وا مصيبتاه. . لن أستطيع أن أسمعك. . فإذا قرأته فلن أعرف رأيك فيه. . وما أحتاج الرأي اليوم، فما هي إلا عبرات شاء بها القلم أن يجاري تلك العبرات المنهمرة من صاحبه. وكلانا العاجز الذي يعلم عجزه ولا يستطيع أن يواريه. بل هو يرى في الظهور به بعض التخفيف مما يلاقى. . وحسبنا الله ونعم الوكيل
ثروت أباظة
كيف نشأ إمام العبد؟ سؤال طريف وجهه إلينا الأديب الفاضل الأستاذ محمد فتحي الجعلي بعد أن قرأ مقالنا السالف عن الشاعر المسكين. وقد لاحظت أن الإجابة عن أكثره تتضح من مقالنا عنه، فقد ألمعت إلى نشأته المضطربة، وتربيته العوجاء، لأحلل الدوافع النفسية التي أضرمت في شعره جذوات الأسف والاكتئاب. ولعل الناقد الفاضل ممن لا يقنعون بالتحليل الأدبي الذي يتخذ من تاريخ الأديب دعامة يستند إليها في فهم الدوافع والأسباب، فهو يريده تاريخيا محددا باليوم والشهر والمكان قبل كل شيء
ومن الإنصاف أن نقول إن سؤال الأديب عن الحياة إمام لتعليمة، يحتاج إلى إجابة لا توجد في المقال، وقد جاء في كتاب (تاريخ أدب الشعب) للأستاذين حسين مظلوم رياض ومحمد الصباحي: (أن إماما مكث في مدرسة ابتدائية مدة قصيرة، ثم انقطع فجأة عن التعليم دون أن يتم المرحلة الأولى) ولعله فعل ذلك ليلقي دراسته الواسعة في ساحة الحياة، بين صفحات الكتب، وفي الحلقات الأدبية التي كان يعقدها المتأدبون لعهده بالأندية والمقاهي الشعبية، وفيها تخرج أكثر أدباء العهد الماضي من كتاب وشعراء
وإني لأشكر الأديب الفاضل شكرا جزيلا، راجيا أن أكون عند ظنه الكريم
(الرمل)
محمد رجب البيومي
حول كلمة (سائر)
من الاطلاع على كثير من كتابات ومقالات الكتاب الذين يوردون كلمة (سائر) في كتاباتهم، روي أنهم يضعون هذه اللفظة للدلالة على (الكل والجميع) والحقيقة أنه لا يصح معنى هذه اللفظة إلا بمعنى (البعض أو البقية) فقد جاء في (القاموس المحيط) في مادة (السؤر): وفيه سؤرة، أي بقية شباب، وسؤرة من القرآن، لغة في سورة، والسائر الباقي لا الجميع. وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية تطييبه، فقال بطني عطري وسائري ذرى. الخ. انتهى
وجاء أيضاً في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة عند ذكر الشارح لبيت (الشنفرى) من قصية:
إذا حملوا رأسي وفي الرأس أكتري ... وغودر عند الملتقي ثم سائري سائري، أي باقي جسدي، وسائر كل شيء باقيه وليس جميعه، نبه عليه الحريري في درة الغواص
شرق الأردن
محمد سعيد الجنيدي العلوي
في كتاب (المهدي والمهدوية):
قرأت ما كتبه حضرة المفضال الدكتور أحمد أمين بك في سلسلة (اقرأ) تحت عنوان: (المهدي والمهدوية)، وهو بلا ريب في الذروة من الطرافة والفائدة، ككل ما يطلع به علينا الأستاذ من مقالات ومؤلفات في مختلف الموضوعات
وقد استوقف نظري أثناء المطالعة بيت من الشعر في أسفل الصفحة الرابعة والستين من الكتاب المذكور وهو:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن (جسمان) حللنا بدنا
وقد استعصى على ذهني معني الشطر الثاني، إذا الجسم والبدن مؤداهما واحد. والذي دعاني إلى كد الذهن في فهم هذا الشطر أنه من أقوال الصوفية، وللصوفية في تفسير الألفاظ مذاهب شتي ملتوية، وقد وقعت أخيرا على كتاب حديث يبحث في (الشعر الصوفي) للأستاذ نسيب الاختيار، فعثرت في الصفحة التاسعة والستين منه على هذه الأبيات مروية على هذا النحو:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن (روحان) حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
وهذه هي نزعة الحلاج الحولية والواحدة المطلقة التي يدين بها في حياته واضطهد من أجلها ومات في سبيلها، وهي تظهر أجلى ما يكون لفهم هذين البيتين على ضوء هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لا هوته الثقاب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كخطة الحاجب بالحاجب وقد استعمل الأستاذ لفظه (كافة) مضافة إلى ما بعدها في الصفحة الثانية بعد المائة من هذا الكتاب وذلك:
(وأن من حق الصوفي أن يتخطى (كافة) النواميس الخلقية وأن يخرج على العرف الاجتماعي) - وإنما لفظه (كافة) كلفظه (قاطبة) تكون دائما ملازمة للنصب على الحالية لا تتغير بأي حال، وقد وردت هذه اللفظة بهذا الاستعمال في عدة مواطن من القرآن الكريم
هذا: ومن دواعي الغبطة وبواعث السرور أن يتفضل حضرة الدكتور الأستاذ الكبير أحمد أمين بك بقبول احترامي الفائق مقرونا بأطيب تحية، وإلى صاحب الرسالة اللامعة أرفع تحيتي الخالصة وتحيتي الباقية -
طرابلس المغرب
محمد مهدي أبو حامد