مجلة الرسالة/العدد 96/محاورات أفلاطون
→ قصة المكروب | مجلة الرسالة - العدد 96 محاورات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
شاعرنا العالمي ← |
بتاريخ: 06 - 05 - 1935 |
21 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- ولكن ألست ترى أنك إنما تقرر هذا فعلاً حينما تقول إن الروح كانت موجودة قبل أن تأخذ صورة الإنسان وجسده، وأنها تألفت من عناصر لم يكن لها وجود بعد؟ فليس الانسجام شيئاً يشبه الروح كما تظن، وإنما القيثارة والأوتار والأصوات توجد أولاً في حالة من التنافر، فيجئ الانسجام بعد هذه جميعاً، ثم هو يسبقها جميعاً في الفناء. فكيف يمكن أن نلائم بين هذا الرأي في الروح وبين الرأي الآخر؟
أجاب سمياس: لا يمكن قطعاً
قال: ومع ذلك فينبغي بلا ريب أن يكون ثم انسجام، ما دام الانسجام هو موضوع الحديث
أجاب سمياس: ينبغي أن يكون
قال: ولكن ليس ثم انسجام بين هاتين القضيتين. إن المعرفة عبارة عن تذكر، وان الروح انسجام، فأيهما إذن تستبقي لنفسك؟
أجاب: إني لأحسبني يا سقراط أشد يقينا بأولاهما التي أقيم لي عليها الدليل الوافي، مني بالثانية التي لم ينهض عليها دليل قط، فليست ترتكز إلا على أسس من الظن والأستحسان، وأنا عليم علم اليقين أن هذه الأدلة التي تعتمد على الظنون مضللة، وهي خداعة ما لم يؤخذ عند استخدامها حذر شديد - هي خداعة في علم الهندسة وفي سائر الأشياء أيضا. أما نظرية المعرفة والتذكر فقد أقيم برهانها على أسس من اليقين، والبرهان هو أن الروح لابد كانت موجودة قبل أن تحل في الجسد، لأن الجوهر متعلق بها، ومجرد أسم الجوهر يقتضي الوجود، وما دمت قد ارتضيت هذه النتيجة بحق وعلى أسس وافية، كما أعتقد، فينبغي، فيما أظن، ألا أستطرد في الجدل، وألا أسمح لسواي أن يزعم بأن الروح هي عبارة عن انسجام
قال: دعني يا سمياس أبسط الموضوع من وجهة نظر أخرى: هل يمكن فيما تتص يكون الانسجام أو أي مركب آخر، في حالة تختلف عن حالة العناصر التي تألف منها؟
- لا ولا ريب
- أم هل هو يفعل أو يعاني شيئاً غير الذي تفعله هي أو تعانيه؟
فوافق سمياس
- لأنه يستحيل على الانسجام أن يكون على شيء من الحركة أو الصوت أو أية صفة أخرى تكون مضادة للأجزاء.
فأجاب: يستحيل أن يكون ذلك
- أو ليس كل انسجام يتوقف على الحالة التي تنسجم فيها العناصر؟
قال: لست أفهم ما تقول
- أريد أن أقول أن الانسجام يقبل التدرج، فهو أكثر انسجاماً، وهو أقرب إلى الانسجام التام، حينما تدنو الأجزاء في تناسقها إلى التمام، إن أمكن لها ذلك. وهو أقل انسجاماً، وأبعد عن الانسجام التام، حينما تكون الأجزاء اقل تناسقاً.
- حقاً
ولكن هل تقبل الروح التدرج؟ أعني هل تكون الروح، ولو إلى أقل حد ممكن، أكثر أو أقل روحانية من غيرها، أو أبعد عن تمام الروحانية، أو أدنى إليه من روح أخرى؟
- لا يكون ذلك قطعاً
- ومع ذلك فقد يقال بحق إن روحاً تتصف بالذكاء والفضيلة وأنها خيرة؛ وأن روحا أخرى تتصف بالغباوة والرذيلة، وأنها شريرة: وحق هذا الذي يقال؟
- نعم هو حق
- ولكن ماذا يقول أولئك الذين يصرون على أن الروح انسجام، فيما رأيت من وجود الفضيلة والرذيلة في الروح؟ - أيقولون إن ثم انسجاماً آخر وتنافراً آخر، وإن الروح الفاضلة تكون منسجمةً، وما دامت هي نفسها انسجاما، ففي باطنا انسجام آخر، وان الروح الرذلة ليست منسجمة ولا يكون في باطنها انسجام؟
- أجاب سمياس: إني لا أحير جوابا، ولكني أحسب أن سيزعم أولئك الذين يأخذون بهذا الرأي شيئاً كهذا ونحن قد اتفقنا فيما سبق أن ليست روح أكثر روحانيةً من غيرها، وهذا الاتفاق يساوي الموافقة على أن الانسجام لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص، أي لا يكون أكمل ولا أنقص انسجاما
- جد صحيح
- وما لا يزيد في درجة انسجامه ولا ينقص لا يكون أكثر ولا أقل تناسقاً!
- صحيح
- وما لا يكون أكثر ولا أقل تناسقاً لا يكون فيه من الانسجام أكثر ولا أقل، ولكنه دائماً مقدار متساو من الانسجام
- نعم هو الانسجام متساو
- فإذا لم تزد روح ولم تنقص في روحانيتها المجردة عن غيرها، فهي ليست أكثر ولا أقل انسجاما منها؟
- تماماً
- وعلى ذلك فليس فيها من الانسجام أو التنافر مقدار أكثر أو أقل؟
- ليس فيها ذلك
- ولما كان ما فيها من الانسجام أو التنافر ليس أقل ولا أكثر فلا يكون لروح من الرذيلة أو الفضيلة اكثر مما يكون لغيرها، على فرض أن الرذيلة تنافر، وان الفضيلة انسجام؟
- أنها لا تكون أكثر من غيرها أبداً
- وان توخينا يا سمياس في حديثنا دقة أكثر فلن يكون لروح أية رذيلة، إن كانت الروح انسجاما، لأنه ما دام الانسجام مطلقاً فهو لا يساهم في غير المنسجم؟
- لا
- وعلى ذلك فلا تقع رذيلة من روح هي روح مطلقة؟
- كيف يمكن، وفاقاً لما سبق من حديث، أن تقع منها الرذيلة؟
- وبناء على هذا إذن تكون أرواح الحيوانات جميعاً سواء في الخير ما دامت كلها متساوية ومطلقة في روحانيتها؟
فقال: إني موافقك يا سقراط فقال: وهل يمكن في ظنك أن يصدق كل هذا؟ أنسلم بهذه النتائج كلها - وهي مع ذلك ناتجة فيما ظهر من الزعم بأن الروح انسجام؟
فقال: كلا ولا ريب
قال: وأيضاً، أي عنصر بين الأشياء البشرية تراه مسيطراً، سوى الروح، والروح الحكيمة بنوع خاص؟ أترى بينها مثل ذلك العنصر؟
- حقاً أني لا أرى
وهل الروح على اتفاق مع رغبات الجسد، أم هي وإياها في خلاف؟ فمثلا عندما يكون الجسد ظمآن ساخناً، أفلا تصدف الروح بنا عن الشرب؟ وعندما يحس الجسد جوعاً، أفلا تصدفنا عن الأكل! وذلك وأحد فقط من عشرة آلاف من أمثلة التضاد بين الروح وبين أشياء الجسد
- جد صحيح
ولكن سبق منا اعتراف بأن الروح ما دامت انسجاماً، فلا يمكنها أن تنطق بإشارة لا تتفق مع الأوتار التي تألفت هي منها، من حيث حالات التوتر والاسترخاء والتموج وسائر المؤثرات، أنها تتبعها فقط، ولا تستطيع أن تقودها؟
فقال: نعم؛ إنا اعترفنا بذلك يقيناً
- ومع ذلك فلسنا نرى الآن أن الروح تفعل الضد تماماً - فهي تقود العناصر التي يظن أنها تتألف منها، وهي في معظم الأحوال تعارضها وتقهرها طيلة الحياة بكل ما أمكنها من سبل
وقد تكون معها أحياناً أشد عنفاً بأن ترغمها على آلام الأدوية والألعاب، ثم قد تعود فتكون وإياها أرق وداعة، وهي في ذلك تتهدد بل وتزجر الشهوات والعواطف والمخاوف، كأنما هي بذلك تتحدث إلى شئ غير نفسها، كما يصور لنا هوميروس أو ذيسيوس في الأوذيسة بهذه الكلمات:
لقد ضرب على صدره لكي يؤنب قلبه:
يا قلب صبراً، فيا طالما احتملت أسوأ من ذلك شراً)
أفتظن هوميروس قد تأثر حين سطر هذا بالفكرة القائلة إن الروح انسجام، وأن رغبات الجسد قمينة أن تسوقها، وإنه لم يكن يرى أنها هي التي بطبيعتها تسيطر على تلك الرغبات وتقودها، وأنها أمعن في الألوهية من أي انسجام؟
نعم يا سقراط، إني موافق جدا على ذلك
إذن فلن نصيب يا صاح في قولنا أن الروح انسجام، لان في ذلك تناقضا ظاهرا مع هوميروس الإلهي، كما أنه متناقض وإيانا
- فقال: حقا
(يتبع)
زكي نجيب محمود