مجلة الرسالة/العدد 96/قصة المكروب
→ فتح العرب للأندلس | مجلة الرسالة - العدد 96 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 06 - 05 - 1935 |
12 - قصة المكروب
كيف كشف رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: أثبت بستور أن الذي يخمر السكر فيحيله إلى كحول إنما هو خمائر كرية صغيرة تتزايد بالانشقاق. وان الذي يحيله إلى حامض اللبن هو مكروبات كالعصى. وأخترع بستور حساء من السكر وملح النشادر تتكاثر فيه هذه الأحياء بدل مرق اللحم ونقيع الحب. وقال للناس أن اللحم يفسد لان المكروب يناله، فتخرج منه بالتحلل روائح كريهة تحمل المرض والموت في طياتها. وأنه سيخوض في سبيل البحث غمار هذه الأوبئة لخير الإنسانية
- 4 -
وبذلك هيأ بستور المسرح لإجراء تجاربه الخطيرة. هيأه قبل إجرائها بزمن طويل. فوضع فيه المناظر ووزع فيه الستائر، ومازج وآلف بين الألوان، وأخفت الأنوار حيث وجب خفوتها، وأسطعها حيث يجمل سطوعها، فأثار بذلك طبيعة العلماء الباردة، فاستمعوا له بآذان مرهفة، وقلوب واجفة، انتظارا لدور البطولة الذي سيقوم به في القريب على أعينهم، حتى لكائني بهؤلاء الأساتذة الموقرين يسيرون في شوارع الحي اللاتيني العتيق، بين ربوعه الغبراء، رائحين في الإمساء إلى منازلهم، وقد ثارت ثائرتهم، والتهب خيالهم، فتمثلوا بستور يودعهم في حرقة وداع الفراق الذي لا أوبة له، ثم يوليهم ظهره، ويسير بقدم ثابتة، وصدر مفتوح، ورأس مرفوع، وانف وسيع، نحو تلك الروائح الكريهة قد حملت في طياتها جراثيم الموت وأسباب الهلاك. . .
في هذا فاق بستور صاحبنا لوفن هوك، وفي هذا آفاق أسبلنزاني كذلك. كان بستور يجيد التجربة، ولكنه كان كذلك يجيد عرضها على الناس والدعاية لها فيهم. أما العلماء فاضطربوا واشرأبو للمزيد من أنبائه، وأما البسطاء فاغتبطوا بصورة الخمائر التي أحلها واضحة في أذهانهم، تلك الخمائر التي تصنع لهم الخمر الذي هو شرابهم الأول في فرنسا، ولكنهم كذلك ارتاعوا لما تصوروا تلك المكروبات المعفنة ترفرف بها أجنحة الهواء من فوق رؤوسهم في سكون الليل، فتبذر فيهم أسباب الموت، وتفتح لهم أفواه القبور
وأجرى بستور تجارب غريبة طالت سنوات. تناول قوارير ووضع في بعضها شيئا من اللبن، ووضع في البعض الأخر شيئا من البول، ثم غطسها مدة في الماء الغالي، ثم ختم رقابها الدقيقة في النار، ثم أختزنها عدة سنين. وأخيرا فتحها ليثبت إن اللبن لم يتخثر، وأن البول لم يتغير، وان الهواء الذي علاهما في القبابات أحتفظ بكل أكسجنه أو كاد، فلا مكروب ولا فساد.
ثم أعاد التجربة على اللبن والبول مرة أخرى، ولم يغل القبابات، بل أذن للمكروبات أن تنمو وتتزايد فيهما. فلما فتح القوارير لم يجد اكسجينها، فإن المكروبات استخدمته فاستنفذته لتحرق به مادة البول واللبن وتحللهما لتتغذى بها. وعندئذ بسط بستور جناحين عظيمين وطار في سماء الخيال، فتمثل هذه الأرض العظيمة ليس بها مكروب واحد، وتمثل حيوانها يموت، في جو مليء بالأكسجين، ولكنه أكسجين عاجز في غيبة المكروب عن أكسدة هذه الحيوانات والنباتات، عاجز عن حرقها وتحليلها وتطهير الأرض منها. سمع السامعون من بستور ذلك فراعهم ما سمعوا، وجاء الليل، فتمثلت لهم مدينتهم في الأحلام، وقد خلت شوارعها من وقعة قدم أو قرعة حافر، من كل مظهر من مظاهر الحياة، إلا جثث اموات، ورمما سدت الطرقات لما أعوزتها المكروبات. قال بستور: إن عجلة الحياة لا تدور بغير مكروب
ولم يلبث بستور أن جاءه السؤال الذي جاء البحاث قبله، جاءه وجها لوجه يتطلب الجواب بلا مراوغة أو تسويف. ولم يكن بد من مجيئه أما اليوم واما غدا. وهو نفس السؤال الذي جاء أسبلنزاني من قبله فأثار من الفكاهة بينه وبين خصمائه ما أثار.
هذا هو السؤال البسيط، المفرط في بساطته، هذا السؤال المحير المفرط في تحييره: من أين تأتي المكروبات؟ سأل بستور خصومه: (من أين تأتي هذه الخمائر؟ أنها تظهر في عصير العنب فتصيره خمرا أين كان من الأرض، وفي أية ساعة كان من الزمان. وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى التي تحمض اللبن، وتفسد الزبد في كل قدر أين وجد من مشارق الأرض ومغاربها، تلك الأحياء كيف مأتاها؟)
اعتقد بستور كما اعتقد أسبلنزاني، أن هذه المكروبات لا يمكن أن تأتي من مادة اللبن أو مادة الزبد، وهي ميتة لا روح فيها. واعتقد أنه لأبد لها من آباء. فترى من هذا أنه كان كاثوليكيا صميما. نعم لقد عاش بين الشكاكين ذوي العقول الراجحة على ضفة (السين) اليسرى في باريس، حيث لم يكن يذكر أسم الله إلا كما يذكر أسم (لينين) في بورصة نيويورك. ولكن هذا الشك لم ينل شيئا من عقيدة بستور. وكانت نظرية النشوء قد بدأت تشيع بين هؤلاء الشكاكين على أنها طراز للتفكير مستحب جديد. كانت أنشودة الكون العظمى تحكي لنا كيف بدأت الحياة مادة لا شكل لها ولا قوام، تخرج من حمأ وبخار، ثم تظل تتحول على ملايين السنين، فتتشكل في عدد عديد من الصور، وتمر في موكب حافل طويل من الاطوار، حتى تصل إلى طور القردة، وعندئذ تتمطى القردة فتصير رجالا تمشى على رأس هذه الخلائق. وقال الفلاسفة في شيء من يقين العلم ووثوق العلماء: أن هذا الاستعراض الهائل ليس بحاجة إلى إله يبدؤه، ولا إله يديره
وأجابهم بستور يقول: (أما فلسفتي أنا ففلسفة قلبي لا فلسفة عقولكم. فلسفتي تأتي من مثل هذا الشعور الذي يأتي بالسليقة إلى قلب المرء وقد جلس إلى سرير ولد عزيز عليه أخذ يجود في عسر بالبقية الباقية من أنفاسه. من مثل هذا الشعور أتعلم فلسفتي عن الوجود. وفي مثل هذه الدقائق الرهيبة أسمع أصداء تأتي من أعماق روحي تقول لي: (من يدريك، فلعل هذه الدنيا أكثر مما يزعمون، لعلها أكثر من مجموعة أحداث تأتي من توازن آلي يخرج من عماء العناصر بفعل قوى المادة وحدها).
لقد كان بستور رجلا تقياً نقياً
ولى بستور للفلسفة ظهره، وتوجه للعمل. واعتقد أن الخمائر، وأن العصى الحية، وتلك الأحياء الصغيرة الأخرى إنما تأتي من الهواء. وتخيل الهواء مليئاً بتلك الخلائق التي لا ترى. بالطبع كان غيره من بحاث المكروب قد أثبتوا أن هذه الأحياء مأتاها من الهواء، ولكن بستور اصطنع أجهزة مركبة ضخمة لإثبات ما أثبتوه مرة أخرى. حشا أنبوبة من الزجاج بشيء من القطن، ثم أخرج أحد طرفيها من الشباك، ووصل الطرف الآخر داخل الغرفة بمضخة تجر الهواء، وشغلها حتى امتص نصف هواء الجنينة، ثم أنتزع القطن، وحاول أن يعد الأحياء التي احتبست عليه. واصطنع أجهزة أخرى غير أنيقة المنظر ليحمل سدادات القطن هذه بما عليها من المكروب إلى مثل هذا الحساء الذي كان نما فيه الخمائر ليعلم أيتكاثر هذا المكروب فيه. وأعاد تجربة أسبلنزاني القديمة، فأتى بقارورة مكورة، ووضع فيها بعض هذا الحساء وختم على رقابها بإساحتها في اللهب، ثم أغلاها دقائق، وامتحن حساءها من بعد ذلك فلم يجد فيه مكروباً أصلاً.
صاح به من كانوا لا يزالون يعتقدون في انبعاث الحياة من ذات نفسها، من غير آباء وأمهات. صاحوا به يقولون: (ولكنك يا هذا أغليت الحساء فأسخنت معه الهواء، وهذه الأحياء الصغيرة إنما تحيا في الهواء وهو على طبيعته من غير تسخين. وشركهم في صياحهم النشوئيون، والنباتيون المرتابون، والفلاسفة الملحدون، صاحوا من بين المداد والكتاب، لا من بين اللهب والقباب)
فاختلط الأمر على بستور حيناً، وحاول عدة طرائق ليجمع بين حساء مغلي، وبين هواء لم تنله النار بالتسخين، ومع هذا خلو من تلك الأحياء. وجاهد في أثناء ذلك ما استطاع أن يلبس وجهاً مطمئناً للأمراء والأساتذة وأرباب الصحف الذين أحاطوه عندئذ يترقبون المعجزات التي أوشكت أن تقع على يديه.
وكان أولو الأمر قد نقلوه من معمله الضيق ذي الفئران بسطح المكان، إلى بناء صغير يقع على أربع دقائق أو خمس من باب مدرسة النرمال، بناء يضيق بالخنازير الجينية التي تحتاجها معاهد البحث في الأيام الحاضرة. وفي هذا البناء الصغير قام بستور بجهاده الشهير ليثبت أنه لابد لكل حي مهما قل وحقر من آباء. وكان جهاداً بالتجربة الحاذقة، ولكنه كاد يتسفل أحياناً إلى نزاع كالذي ينشأ بين الغوغاء، فلا ينفض إلا بصفع الأقفية ولكم الوجوه. ودار بستور بادئ بدء يحتال للتجارب العديدة وينصب الأجهزة الكثيرة، فأبدل من تجاربه البسيطة الأولى تجارب مركبة، ومن أجهزته اليسيرة الأولى أجهزة صعبة معقدة، فكثر حجاجه وكثر كلمه، وقلت حجته وقل إقناعه. والحق أنه وقع في مأزق لم يجد منه مخلصاً
وذات يوم دخل عليه الأستاذ (بلارد) وهو في معمله، وكان (بلارد) في مبدأ حياته صيدلانياً، ثم اكتشف عنصر البروم على ذلك النضد البسيط الذي يركب عليه عقاقيره في تلك الحجرة الصغيرة بظاهر صيدليته، فذاع اسمه وكسب مدح العلماء، وتعين من اجل ذلك أستاذاً للكيمياء بباريس. ولم يكن أمالاً طموحاً، فلم يطمع في كشوف الدنيا كلها، فقنع بهذا الكشف الواحد، وهو لعمري نعم النتاج في حياة الفرد الواحد. ولكنه كان يحب أن يتشمم حوله ويتعرف كل ما يجري بجواره من بحوث
دخل (بلارد) الكسول على (بستور) وهو في ربكته فتحدث إليه، وكأني بك تسمعه يقول له: (تقول يا عزيزي إنك مرتبك، وإنك لا تستطيع الجمع بين الحساء المغلي وبين الهواء دون أن تظهر تلك الأحياء في الحساء. إذن فأستمع لي يا صديقي. نحن سوياً نعتقد أن هذه الأحياء لا تنبعث من ذات نفسها في الحساء، بل هي تقع فيه مع ما في الهواء من هباء، أليس كذلك؟)
فيقول بستور: (هذا حق، ولكن. . . .)
فيقاطعه بلارد: (صبراً، صبراً! أترى لو وضعت شيئاً من الحساء في قارورة، ثم أغليته، ثم صيرت فتحة القارورة بحيث تأذن للهواء بالدخول إلى الحساء، ولا تأذن لما فيه من تراب وهباء بالسقوط فيه. . .)
فيقول بستور: (وكيف ذلك)
فيجيب بلارد: (الأمر هين. خذ قارورة من قواريرك المستديرة، وضع الحساء فيها، ثم سيح رقبتها في اللهب ثم مطها حتى تستدق، ثم لين هذه الأنبوبة الدقيقة وأستدر بها متسفلاً، ثم لين طرفها وأستدر به متصاعداً حتى تصبح رقبة القارورة كرقبة الإوزة العراقية وقد غاصت بمنقرها في الماء لتلتقط منه شيئاً - حتى تصبح هكذا). ورسم بلارد شكلها. بلارد الذي نسي اليوم أمره
فيمعن بستور في الفكرة ثم يقول لما يرى حسن الحيلة في هذه التجربة الصغيرة: (بالطبع. بالطبع. الأمر واضح. فذرات التراب التي تحمل المكروب لا تسقط إلى أعلى. هذا ما تقصد إليه؟) فيبتسم بلارد ويقول له: (بالضبط. جربها وأخبرني بالذي يكون. وإلى اللقاء!) وتركه وذهب إلى معامله الكيميائية ليتمم فيها دورة يومه
وكان لبستور الآن صبية تغسل له القوارير وكان له أعوان، فأمرهم أن يسرعوا في تجهيز القبابات. وبعد زمن قليل كنت تسمع نفاخات اللهب تصم الأذان. وأقبل بستور على العمل في غير رفق ولا هوادة. فتناول القوارير ووضع بها الأحسية، ثم سحب رقابها ولواها كرقاب الإوز، ثم أغلاها فطرد بخار الماء كل هوائها، فلما بردها رجع هواء الجو فدخل فيها بارداً نقياً
فلما تجهزت القبابات حملها قبابة قبابة إلى محضنه الدافئ وكان تحت حنية السلم الضيقة فلم يصل إليه إلا مكفوءاً على يديه وركبتيه، على صورة يزيدك ضحكاً منها محاولته أن يحتفظ بوقاره فيها. وفي الصباح بكر إلى معمله. وفي لحظة اختفى تحت السلم إلى محضنه. وبعد نصف ساعة كنت تراه خارجاً من هذا الجحر يدب على أربع، وقد برقت عيناه بالسرور من وراء نظارته الندية. وقد حق له السرور، فإن القبابات ظلت جميعها رائقة، ولم يكن بها مكروب وأحد، وظلت على روقائها غداً وبعد غد. لقد نفعت حيلة (بلارد). وقد بطلت نظرية انبعاث الخلائق من ذات نفسها. (تجربتي هذه تجربة في الحق بديعة. وهي تثبت أنك تستطيع أن تترك في الهواء ما شئت من مرق أو حساء، على شريطة أن تغليه، وعلى شريطة أن يدخل الهواء إليه بعد الإغلاء من أنبوبة طويلة ضيقة ملتوية هذا الالتواء)
وعاد (بلادر) وابتسم لما أخذ بستور يصب على رأسه خبر التجربة صبا. قال بلارد: (لقد حسبت أنها تنجح، فإن القبابة عندما تأخذ في البرودة بعد الغلي، يأخذ الهواء يدخل إليها بترابه وهبائه ومكروبه، فتتصيدها جميعاً تلك الأنبوبة الطويلة الرفيعة بما عليها من البلل)
قال بستور: (ولكن كيف تثبت هذا؟)
قال بلارد: (الأمر هين. هات قبابة من هذه القبابات التي بقي حساؤها طاهراً رغم تدفئتها في المحضن أياماً، وأملها حتى يسيل حساؤها إلى الرقبة العوجاء، ثم رد الحساء إلى بطن القبابة حيث كان، ثم أرجعها إلى المحضن، فلن تلبث طويلاً حتى تتعكر بالملايين من المكروبات، هي نسل تلك التي احتبست في عنق القبابة البليل) فأجرى بستور هذه التجربة، فكانت كما قال صاحبه. وكان بعد هذا اجتماع، تزاحمت إليه بالمناكب علماء باريس وكتابها ومزاحها وفنانوها. وفي هذا الجمع شرح بستور تجاربه، وذكر ما كان لأعناق الإوز من الخطر، وذكر نظرية الانبعاث التلقائي.
ثم صاح: (والآن فلن تستطيع هذه النظرية قياماً بعد هذه الضربة القاتلة)
لو أن بلارد كان في هذا الجمع، إذن والله لصفق تصفيقاً شديداً مع المصفقين. كان بلارد من تلك الأنفس الطيبة السخية النادرة
(يتبع)
أحمد زكي