مجلة الرسالة/العدد 959/مسمار جحا
→ السلام العالمي والإسلام | مجلة الرسالة - العدد 959 مسمار جحا [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 19 - 11 - 1951 |
تعقيب على نقد
للأستاذ علي أحمد باكثير
أطلعت في العدد الفائت من هذه المجلة الغراء على المقال القيم الذي كتبه الصديق الكريم الأستاذ أنور قتح الله في مسرحية (مسمار جحا) فرأيت من واجبي أن أعقب على بعض المآخذ التي أخذها على المسرحية، شاكراً للناقد الفاضل جميل عنايته وأهتمامه
المأخذ الأول: أن المؤلف قد أذاع سر مؤامرة جحا وحماد قبل عرض قضية المسمار، وبهذا قضى على عنصر التشويق في أهم أحداث المسرحية. ألخ. . .
وأنا أوافق حضرة الناقد على أن في الإمكان طي مدة المؤامرة وإخفاءها حتى تعرض القضية في الديوان، وإذا لكان عنصر التشويق إلى معرفة جوهر المؤامرة أقوى، ولكني أخالفه في زعمه أن هذا قد أضاع الأثر القوي لهذا المشهد الذي يرمز لقضية البلاد، وذلك لأن جوهر المؤامرة ليس هو الأمر المهم الذي يريد المؤلف أن يوجه إليه أنتباه المشاهد للمسرحية، فأهم من ذلك الكيفية التي تم بها تنفيذ هذه الخطة. ولا شك أن في هذا الأمر الأخير من الجدة والطرافة ما لا يؤثر معه إنكشاف جوهر الخطة في خطواتها الأولى. وحيث أن مشهد الديوان الذي عرفت فيه هذه القضية يكاد يكون رمزياً كله فلا بأس من التمهيد لذلك في الصورة التي تعرض بها المسرحية على خشبة التمثيل، حتى لا يكتنفه الغموض فيضيع بذلك من الأثر القوي لدى المشاهدين أكثر مما يضيعه هذا التمهيد، أما الصورة التي تطبع بها المسرحية في كتاب فسيرى الناقد أن المؤلف قد إقتصر في إبراز سر المؤامرة على بعض التلميحات بحيث يجلو الغموض ولا يجور على عنصر التشويق
المأخذ الثاني: يرى الناقد أن دخول إمرأة جحا في مشهد القضية قد أخمد من حرارة الأثر النفسي. . فأبطل فعل الأحداث السابقة لدخولها. . . ألخ. . .
للرد على هذا أقول إن دخول إمرأة جحا كان أساسيا، ولا غنى عنه لعدة أسباب
1 - أن أم الغصن طرف ثالث في هذا النزاع لا يمكن إغفاله؛ وإلا لتسائل المشاهد ما موقفها بعد خروجها من الدار، فضلاً عن إن ذلك يجلو جوانب شخصيتها، فهي لا تستحي أن تبرز إلى الناس وأن تسفه زوجها أمامهم، ولا تقيم وزناً للهدف القومي الذي يرمي إليه زوجها، والذي إهتم به الشعب كله؛ إذ ما كان يعنيها إستياؤها من إنتقالها من دار كبيرة إلى دار صغيرة، فهي هنا رمز لذلك الصنف من الناس الذين يؤثرون المغنم الصغير إذا كان خاصاً بهم؛ على المغنم الكبير إذا كان عاماً للوطن كله
2 - أن ذلك أيضاً يجلو جانباً من شخصية جحا، فهو أيضاً لا يستحي من شيء ولا يرى بأساً من أن يكشف دخائل بيته للناس، لثقته أن ذلك لا يغض من قيمته عند نفسه شيئاً ولأعتقاده في قرارة نفسه أنه هو وأهله وعياله ملك الشعب، وهذا عنصر هام في تكوين هذه الشخصية
3 - أن دخول أم الغصن قد خدم غرضاص هاماً في سير حوادث المسرحية، إذ تم من خلاله تحول غانم (صاحب الدار) من التشدد إلى التسامح البالغ لما رشاه الحاكم محاولاً بذلك أن يئد القضية في صورتها الواقعة، وأن يحولها لصالحه ويجعلها تؤيد حجتها في رمزها الكبير
4 - فلا ينبغي لهذا الحادث أذا أن يبطل فعل ألاحداث السابقة له كما زعم الناقد. وقصارى الأمر أنه يحبس الأثر مؤقتا عن صعوده في الخط الرأسي ليتسع ويتمدد في خط أفقي ثم يستأنف الصعود إلى الأوج في كتلة أعظم وأضخم
المأخذ الثالث: أن مشهد مقابلة الحاكم لجحا في السجن كان طويلاً حتى أصبح الحوار مباشراً بعد أن كان رمرزيا، ومال إلى النغمة الخطابية. . . ألخ. .
وردي على هذا أن الطول والقصر نسبيان، والطول لا يعاب إلا إذا لم يأت بجديد، وما أحسب المشاهد يمل تلك الصور المتنوعة من نكات جحا التي يجمعها - على إختلافها وتنوعها - سلك واحد أمكن من خلاله عرض الخطوط البارزة في في مراحل الصراع بين الحكم الدخيل والشعب، أما الرمزية فالواقع أنه لم يعد لها مكان في هذا المشهد بعدما صار الصراع بين جحا والحاكم صريحا مكشوفا، ومع ذلك فقد إحتفظ المؤلف بقدر كبير من رمزية التعبير بحيث تتسع العبارات لأكثر من الصورة الواحدة التي هي صورة الواقع، فكانت دلالتها بذلك أعم وأشمل، وأما النغمة الخطابية فلم تكن إلا في مواضع خاصة لا تصلح فيها غير هذه النغمة لتساوق الحالة النفسية التي عليها جحا أو الحاكم في تلك الحظات؛ وإلا كانت إفتعالاً غير سائغ ولا مقبول المأخذ الرابع: يرى الناقد أن تنتهي المسرحية في نهاية المنظر الخامس، إذ بخروج جحا من السجن وجلاء المستعمر عن البلاد تنتهي الأحداث الرئيسية للمسرحية
وهذه النقطة أختلفت فيها آراء النقاد. . فمنهم من ذهب مذهب الأستاذ أنور، ومنهم من خالفه، ومن هؤلء الأستاذ زكي طليمات مخرج المسرحية الذي يرى أن ختامها ختاماً قومياً سيكون أقل روعة - من الناحية الفنية - من ختامها الإنساني الذي يصور في بيت جحا أفراح الشعب بعد إنقشاع ظل الإحتلال البغيض، كما يصور كيف إنتهى الخط الثاني وهو الصراع بن جحا وإمرأته في مسألة زولج ميمونة
وخاصة إذا أستحضرنا في أذهاننا أن هذا الخط وإن أمكن إعتباره ثانوياً بالنسبة إلى خط الصراع بين السعب والمحتل الدخيل. . إلا أنه هو الخط المستمر في بداية المسرحية إلى نهايتها فهو - بهذا الأعتبار - الخط الرئيسي في بناء هيكلها ومن خلال حوادثها تولد خط الصراع الآخر. أما أنا فقد ترجحت زمنا بين هذين الرأيين إلى أن إستقر رأيي في النهاية على أنه لا باس في الصورة التي تعرض بها الرواية على المسرح من هذا الختام القومي الذي يقترحه الناقد، وذلك مراعاة للظروف الراهنة فقط
أما في صورتها كتاباً يخرج للناس فلا غنى عندي من المشهد السادس
المأخذ الخامس: أخذ الناقد على شخصية أم الغصن على إنها قليلة التطور وإنها على لون واحد. وجوابي على ذلك أن أم الغصن الشخصية المحورية في المسرحية. والشخصية المحورية تكون في الغلب مكتملة وناضجة في بدء الرواية، وقلما تتطور كما نص على ذلك صاحب كتاب وإني أخالف الناقد في قوله إن ذلك أدى إلى ركود في الحركة المسرحية. والذي خبرته بنفسي أن المشاهد بعدما عرف أم الغصن من المشهد الثاني كان دائما يستطيع أن يتنبأ بما ستتصرف به في مختلف المواقف والأحداث اللاحقة ولكن دون أن يفقد تشوقه إلى مشاهد ذلك. وتلك طبيعة الشخصية المحورية التي بغيرها لا يمكن أن توجد مسرحية على الإطلاق
المأخذ السادس: أن المؤلف أبرز أبن جحا (الغصن) أبله في أقواله وأفعاله، وأقتصر على إبراز هذا اللون الواحد في كل مشهد ظهر فيه، فهو يبحث عن ديكه ثم يتخيل أنه ذبح فيبكيه، وهو ينقلب ديكاً. وبهذا التكرار أبطل المؤلف الأثر الذي أراده لهذه الشخصية وهو إثارة الضحك
وردي على هذا المؤلف لم يخلق هذه الشخصية لمجرد إثارة الضحك، بل إنها تنطوي على سيكولوجية دقيقية تجعلها طرازا جديدا في الشخصيات، فهذا البله الذي يتصف به الغصن بله معقدا أشد التعقيد، فهو قد ورث عن أبيه خيالاً خصبا واسعا ولكنه لم يرث عنه عقله وحصاته، فلم يكن لخياله الجامح من شكيمة تكبحه وتجعله ينتفع به في معالجة شؤون الواقع، فكان ذلك المسخ العجيب الذي يجمع بين النقيضين من ذكاء وبلاهة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الرواية. وهذا الأقتصار على اللون الواحد وهو إهتمامه بديكه الضائع (عرجون) أمر ضروري لمراحل التطور النفسي لهذه الشخصية العجيبة. ثم إن هذا اللون الواحد لم يلزم صورة واحدة، بل مر بأطوار سيكولوجية مختلفة. وبيان ذلك أن هذا الأبله المغفل - فيما يرى الناس - قد أحس - لا شك - مرارة السخرية ممن حوله، فلم يكن بدعا أن يألف ديكه عرجون ويعتبره حبيبه الوحيد في هذه الدنيا لأنه هو الوحيد الذي لا يسخر به. . هذا هو الطور الأول، ثم أتفق أن ضاع الديك فحزن عيه وتخيله ما أصابه من اللصوص الذين سرقوه. . من سلخ وذبح وطبخ وأكل كأنما يرى ذلك بعيني رأسه فبكاءه أشد البكاء وشغله همه بالديك عن كل ما يضطرب حوله من الأحداث الكبيرة كعزل أبيه من منصبه وكقدوم الجراد، وهذا هو الطور الثاني. ثم إنتقل أبوه إلى بغداد وصار قاضي القضاة فسلا الغصن ديكه بعض السلوان، غير أن حزنه على الديك العزيز ما برح مستكنا ً في أعماق نفسه ينتظر أي سبب ليثيره من جديد. وقد جاء هذا السبب لما خرج ليلعب مع رفاقه في الشارع؛ إذ جره هؤلاء الرفاق إلى دخول الحمام ليحتالوا عيه فيكلفوه دفع أجرة الحمام عنهم جميعاً، فأوهموه بتلك الحيلة الطريفة أنهم قد أنقلبوا دجاجاً. وهنا يحار الغصن ويقع في ورطة لأن أمه قد حذرته من إخراج الفلوس التي معه لأي سبب من الأسباب، وإذا خياله الجامح يسعفه بالمخرج إذ خيل إليه حين وقف إلى المرأة أنه أنقلب ديكاً فهو مثلهم لا يستطيع الآن أن يدفع الأجرة. ولا شك أن لعقدة الديك المستكنة في نفسه أثراً في ذلك. . فها هو ذا عرجون رجع إلى الحياة في شخصه هو فهو إذن سعيد. وهذا هو الطور الثالث طور الناقص الذي لم يدم طويلا إذ جاء حماد فحله
ثم يحبس أبوه فيحزن لذلك لأن أباه كان شديد العطف عليه، ولم يسخر منه قط، فأتحدت صورة أبيه في نفسه بصورة الديك. ومن ثم رأى تلك الرؤيا العجيبة التي قصها على أبيه في سجنه. إذ رأه كأنه أنقلب ديكا ً كبيراً وكأنه ضمه بين جناحيه وقال له: لا تخف يا غصن. أنا ديكك عرجون قد هبطت من الجنة لأراك، فهذا هو الطور الرابع
وبئس الغصن من عودة عرجون إلى الحياة: سواء في شخصه هو أو في شخص أبيه، فأوحى له خياله أنه يصنع تمثالاً ليجسده فيه. وهذا هو الطور الخامس والأخير الذي إنتهت عنده المسرحية. على أن الغصن بالرغم من هذا التعقيد قد أضحك الناس فيما أرى خلافاً لما زعمه الناقد
وفي الختام أشكر لصديقي الجليل أن أتاح لي الفرصة لكتابة هذا التعقيب
علي أحمد باكثير