مجلة الرسالة/العدد 959/الدم القدس
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 959 الدم القدس [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 19 - 11 - 1951 |
للقصصي الشاب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان (صلاح) يستخفه الزهو أحياناً وهو يقطع الطريق من المدرسة إلى بيته، فيقفز في مرح طافر، أو يضرب بقدمه حجراً صغيراً في الطريق، أو يصفر بصوته اللين الغض لحن أغنية سمعها من (الراديو). . .
والواقع أن (صلاح) لم يشعر بالزهو مثلما شعر به اليوم. . لقد كان يتحرق شوقاً إلى مغادرة المدرسة منذ إنتهاء الحصة الأولى، أو بعبارة أدق منذ سجل الأستاذ في كراسته بقلمه الأحمر تلك العبارة الخالدة (حسن جداً). . . ولكنه لم يتمكن من الخروج. . ذلك أن عمي (متولي) البواب لا يسمح لأي تلميذ بالخروج قبل إنتهاء الحصة الأخيرة. . ولأن جسمه الغض اللين لا يساعده على تسلق سور المدرسة المرتفع. . . فكان عليه أن ينتظر ساعات وساعات حتى يدق الجرس الأخير. ولكن. . . ولكن جلبة تسمع في فناء المدرسة، وهتافات تخترق النوافذ المقفلة وتصل إلى إذنيه: يسقط الإستعمار الغاشم! يسقط الإنجليز الخونة. . . فيعرف بحكم العادة أنها مظاهرة. وبحكم العادة أيضاً يقفز فوق القماطر نحو باب الفصل الذي ضاق إذ ذاك بالتلاميذ المتزاحمين حياله. . . ثم يمضي في الفناء تجاه باب المدرسة المفتوح، ثم يلقي نظرة كلها تشف وشماتة إلى عمي (متولي) الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً أيام المظاهرات. . ثم يخرج إلى الشارع لا يلوي على شيء. . وما له هو وهؤلاء الطلبة المتجمهرون إزاء النصب التذكاري بالمدرسة؟ إته لا يكاد يفهم الكثير مما يقوله الطلبة الكبار وهم يخطبون، فهو لا يزال في الثانية الأبتدائية. . ثم ماذا يهمه من اإنجليز ما داموا لا يأخذون منه شيئاً ولا يحولون بينه وبين رغبة من رغباته، ولا بين أمنية من أمانيه؟
هو لا يفهم لماذا لا يفهم الطلبة بسقوطهم ما داموا لا يتعرضون لنا بالأذى؟ إنه يراهم يقطعون طرقات المدينة أحياناً في عرباتهم لا يكادون يتعرضون لأحد! ومهما يكن من شيء فهذا كله لا يهمه من قريب أو بعيد، حسبه أنه ألآن في الطريق إلى بيته. . وأنه ذاهب إلى أبيه. . وأنه سيقف أمامه مزهواً ويعرض عليه كراسته مشيرا ً في إعتزاز إلى تلك العبارة الحمراء التي تدفع به إلى صفوف التلاميذ النجباء. . وإذ ذاك يجد أن من حقه أن يطالب أباه ببذلة جديدة؛ فهذا (الشورت) الأصفر وذاك القميص (الكاكي) لا يصلحان مطلقاً لطلبة السنة الثانية الأبتدائية، ثم هذه الريشة. . شد ما يسره أن يجد مكانها قلما من الأبنوس، فهذا وحده هو الذي يلائم السترة الجديدة. . ثم هذه الحقيبة التي صنعتها أمه من القماش ليحمل فيها الكتب. . إنها تكاد تكون الوحيدة بين حقائب التلاميذ الجلدية الفاخرة!
يا له من يوم ذلك الذي يلبس فيه السترة الجديدة وقد ظهر من جيبها طرف القلم الأبنوس وهو يحمل في يده الحقيبة الجلدية الفاخرة ويسير في خطوات مدلة بين التلاميذ!
وأسرع في خطواته حين رأى في الطريق رجلاً يشبه أباه إلى حد كبير حتى لقد ظنه إياه. . وحين إقترب منه أدرك أنه ليس أباه. . وتأكد من الفارق بين هذه الرجل وبين أبيه. . إن أباه يتميز بتلك الأبتسامة الحنون المشرقة التي ترف على ثغره حين يرى وحيده (صلاح)، وبتلك النظرة الحانية الرفيقة التي تزف إلى قلب صلاح أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس. .!
وشعر بسعادة خفية تتسرب إلى وجدانه حين تذكر أباه. . وراح في شرود لذيذ يستعرض بعض الصور في كتاب الذكريات. .!
أنه يذكر أن أباه أخذ مرة إلى المصنع الذي يعمل به، وأن مدير المصنع إستدعاه يومذاك إلى مكتبه، وأنه إصطحبه إلى المكتب. وحين خرجا معاً من مكتب المدير بادر صلاح أباه:
- أرأيت مكتب المدير يا أبي؟ إنه جميل. أرأيت صورة الملك المعلقة على الحائط؟. إنها كبيرة وأنيقة. . .
ويذكر أن أباه رد على تساؤله في صوت حنون حالم. . . أرجو أن أعيش حتى أتمم تعليمك وأراك موظفاً كبيراً تجلس إلى مكتب كبير. . . ثم تابع وهو يربت على كتفه. . . وفوق رأسك صورة للمليك! وهل في مقدوره أن ينسى تلك السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة في أمسيات الجمع. . . لقد كان أبوه يصطحبه في تلك الأمسيات ليسهر معه؛ وإذ ذاك يشتري له من أنواع الحلوى وطرائف اللعب ما يشيع في نفس صلاح الغبطة والمسرة. . . حقاً إن أباه يحبه وأنه سوف يسر كثيراً حين يقرأ تلك العبارة الحمراء التي يحس صلاح كأنها تاج غير منظور يتألق على جبينه. . . وأسرعت خطواته حين إقترب من البيت. . . وقرر في نشوة خفية أن يقرأ تلك العبارة الحمراء إذا كان أبوه لم يحضر بعد. . . لا شك هي الأخرى تسر ذلك. . . ولاشك أيضاً أنها سوف تكون عوناً له حين يطلب إلى أبيه ما يرغب من حاجات!
وأستغرقه شعور سعيد جعله يسير في هدوء كأنه يحلم. . . وأخيراً قدر له أن يستيقظ من حلمه. . . حلمه الجميل الذي حلق في سمواته بجناحي أبويه. . . كان ذلك حين تناهى إلى سمعه صوت صراخ وعويل. . . وحين تنتبه إلى أن هذا الصراخ والعويل إنما ينبعثان من داره. . . وحين أدرك في هذه الأصوات الجازعة صوت أمه!
جمدت قدماه فلم يستطيع أن يدرك ماذا حدث، ولا أن يفهم ماذا هناك!!
كانت هناك جموع حاشدة من الناس تهرع نحو الدار، وكان بين تلك الجموع رجال الإسعاف والبوليس، ومع ذلك فلم يستطيع صلاح أن بنقل قدميه خطوة واحدة تجاه البيت. . . كان بشعر بإعياء شديد يتسرب إلى حناياه وأوشكت جموع الناس المتزاحمة أن تلقي به إلى الأرض لولا أن يداً رفيقة تمتد إليه، ووجهها رحيماً يعطف عليه. . ويأخذ بيده من وسط الجموع المتدافعة. . . ولم ينظر إلى صاحب الوجه الرحيم حتى عرف فيه عم (فهمي) زميل أبيه في المصنع وجليسه في المقهى. . . لقد أنتحى به مكاناً خالياً وأنهى إليه في إشفاق بالغ أن أباه قد مات. . . قتله الإنجليز برصاصهم حين كان يهتف مع العمال المتظاهرين. . . ليسقط الإستعمار. . . لتسقط إنجلترا. . . وأنه كان معه حين لقى ربه. . . وأنه أوصاه عليه قبل أ، يلفظ النفس الأخير. . وراح يؤكد له وهو يجفف دموعه بمنديل أنه سيكون له مكان أبيه!
أما (صلاح) الصغير فقد لفه الصمت في غلائم الوجوم، وأنتابه ذهول غريب جعله لا يدرك الأشياء من حولهإلا
بالقدر الذي أدركها بها محموم أمضه المرض وأنهكه الألم، وقضى شهوراً طريح الفراش. . .!!
وظل هذا الذهول الحاد الذي كان له بمثابة المخدر الذي يحقن به المريض قبل إجراء جراحة له. . . ظل هذا الذهول مهيمناً عليه. . . إلى أن ترامى إلى مسمعه صوت مألوف لديه. . . صوت زملائه الطلبة وقد توافدت جموعهم نحو بيت الشهيد المصري الأول وهم يهتفون بصوت رهيب (إلى الجنة يا روح الشهيد الطاهرة. . وإلى الجحيم يا أوباش الأرض وحثالة الأمم)
ألم تكن محموماص يوماً وأفقت من هذيان الحمى حين لامست أنامل الطبيب الباردة جبينك المحرور. . . وكانت تلك هي حال صلاح حين أفاق من ذهوله الحاد وصوت زملائه الكبار يعلو كالزئير. . .! وبدأ يشعر بالأشياء كما هي. . أدرك أن أباه قد مات. . . وأنه كان يهتف لمصر حين إنطلقت رصاصة غادرة تحاول بصوتها البشع أن تسكت صوت أبيها الجميل. . .!
وبدأ قلبه الصغير يستقبل المشاعر والأحاسيس ظاهرة واضحة لا يكتنفها الذهول والغموض. . . أجل كانت ظاهرة واضحة كأنها النار. وكانت لاذعة حارة كأنها الشوك. . .
وبدأ جسمه الصغير يتلوى في قبضة المشاعر، والأحاسيس. .!. . . أوه. . . إنه الآن يشعر شعوراً مريراً بأن هؤلاء الأنجليز. . . وحوش قذرة. . . أجل لأنهم قتلوا أباه في حين إن الوحوش الأخرى الكثيرة التي تملأ الحقول والصحاري والكهوف لم تحاول أن تقتله! وبأنهم لصوص حقراء. . لأنهم سرقوا منه البذلة الجديدة والقلم الأبنوس والحقيبة الجلدية الفاخرة. . وسرقوا منه أيضاً. . السهرات الجميلة في مقهى الدنيا الجديدة، والأمل الحلو النضير الذي أنعشه أبوه في خياله. . الأمل الذي يرى فيه نفسه موظفا ً كبيراً يجلس إلى مكتب كبير
إن هؤلاء اللصوص لم يسرقوا منه كل ذلك فحسب؛ بل سرقوا شيئاً آخر. وهنا إرتجفت أنامله الصغيرة وإرتعش جسده الغض. . شيئاً آخر لا يدري كيف يعيش بدونه هو تلك الإبتسامة الحنون المشرقة التي كانت ترف على ثغر أبيه حين يلقاه، وتلك النظرة الحانية الرفيقة التي كانت تزف إلى قلبه أبهج المشاعر وأنضر الأحاسيس
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة التي ألفها منذ أن كانت طفلاً في المهد. . ألفها حتى إقترن شكلها الخاص وطابعها المتميز بكل ما يحسه من ألوان الغبطة والسعادة. .!
أجل تلك الأبتسامة وتلك النظرة لا هذه البسمات ولاهاته النظرات التي يحاول عمي (فهمي) أن يخرجه بها عن أساه المرير. .!
وأحس (صلاح مع تلك المشاعر كلها بشعور آخر ليس بمقدوره أن يتجاهله. . بل ليس في مقدور مشاعره الأخرى أن تطغى عليه. . شعور بالخجل من نفسه ومن أفكاره التي صحبته بعض الطريق عن الإنجليز
وأخيراً تختلط تلك المشاعر كلها وتندمج وتستحيل إلى شعور آخر. شعور بالحقد المدمر والغيظ الخانق والكراهية الطاغية لتلك الوحوش القذرة واللصوص الحقراء الذين يسمونهم الإنجليز!
هذا الحقد الذي برق في عينيه الصغيرتين حاداً كأنه الشرر. . وتلك الكراهية التي أحالت ملامح وجهه الطفلة إلى غضون وشجون! وتمنى من أعماقه لو يكبر فجأة. . يصير رجلاً كهؤلاء الناس قوي الساعد مفتول العضل. . إذن لذهب من فوره وذبح الإنجليز واحداً واحداً كما تذبح الأرانب. .!
ومن جديد يضعف الجسد الصغير أمام المشاعر الثائرة التي عصفت به فيعتريه ذهول رهيب، ويلفه الصمت في غلائل الوجوم!!
وفي صباح اليوم التالي وفي فناء المدرسة يتجمهر الطلبة لدى النصب التذكاري ليقرروا الخطوات العملية التي يجب أن يخطوها تجاه المجد المنشود! وفجأة يغرق اللغط والضجيج في موجة الصمت التي إكتسحت فناء المدرسة حين فوجئ الطلبة بتلميذ صغير يقف حيث تعود خطباؤهم أن يقفوا. . وأرهفت الطلبة آذانهم حين إرتفع صوت صلاح. وقد إنبعث من عينيه ذلك البريق الحاد الذي يشبه الشرر، وشاعت في وجهه تلك الكراهية الطاغية التي تحيل ملامحه الطفلة إلى غضون وشجون. . حين إرتفع صوته بهذه الكلمات. . - إخواني. .: إن الإنجليز الوحوش قتلوا أبي. . قتلوه بالرصاص. . وأنا أريد اليوم أن تأتوا معي لنقتلهم كلهم. . . كلهم. . . وشرقت نبراته بالدموع ولم يعد في مقدوره أن يقول شيئاً. . وسالت دموعه لا على وجهه فحسب بل على مئات الوجوه التي كات تتطلع إليه في لهفة وجنون!!
وفجأة تجمدت تلك الدموع في العيون ولم تعد تنهمر. . وإنما إستحالت إلى حقد مدمرعنيف. . وتحد قوي صارخ. .!
ألم تذهب يوماً إلى حديقة الحيوان وترى (نمراً) ألح عليه أحد الزوار بما يستثير الغضب. .؟ لقد إستحال مئات الطلبة إلى نمور متوثبة تشع عيونهم بما يشبه الشرر. وتغي صدورهم بما يشبه النار. . وكان ذلك الشرر المدمر أو تلك النار المحرقة هي النبات الطيب الذي تفتحت عنه أرض مصر حين إرتوت من ذلك الدم الذي أريق بالأمس. . ذلك الدم المقدس. .!!
محمد أبو المعاطي أبو النجا