مجلة الرسالة/العدد 958/القَصصُ
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 958 القَصصُ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 12 - 11 - 1951 |
الطفل. .
للقصصي الأمريكي: ف. باركوس
ترجمة الأستاذ عبد القادر حميدة
طرقت السكرتيرة الحسناء باب المكتب وقالت تخاطب المستر مارتان مدير الشركة. .
- بالباب سيدة تود - في إلحاح - مقابلتك
فرفع وجهه عن الأوراق المتراكمة أمامه وقال في صوت أجش تبدو فيه الصرامة والغلظة. .
- تود في إلحاح مقابلتي؟
- أجل وقد أبديت لها العذر في أن لديك أعمالا هامة تشغل كل وقتك. . وأنه يجب لكي تقابلك أن يكون هناك موعد سابق محدد. بيد أنها لم تزد إلا إصرارا وإلحافا.
وأخبرتني أنها آتية من بعيد وليس في استطاعتها أن ترجع مرة أخرى. .
فضرب مارتان بيده على المكتب في غضب وقال:
كان في مقدورك أن ترغميها على الانصراف بشيء من اللباقة
فأجابت السكرتيرة في عناد.
- لقد حاوت فلم أوفق فهي شديدة الرغبة في أن تقابلك. .
وإنه ليبدو لي من خلال صوتها أنها تستحق الشفقة والعطف. .
فقال مرتان هازئا:
- امرأة تدافع عن امرأة. . آه لو أن سكرتيري كان رجلا لعرف الآن كيف يحملها على الانصراف. وعلى أي حال. . هل أخبرتك عن اسمها؟
- لقد رفضت أن تذكره لي. .
- أئتيني بها. . وليكن ما يكون
وبعد برهة. . كانت تقف على عتبة الباب امرأة في العقد الثالث من عمرها. وقد رانت على معالم وجهها مسحة من الصمت الجامد وتنطق مشيتها بالكبرياء والاعتزاز.
وبعد أن أغلقت السكرتيرة الباب. . رفع مارتان وجهه عن الأوراق مرة أخرى. . وأخذ يتأمل وجه الزائرة خلال منظاره المكبر. . برهة. . ثم بدا عليه أنه يعرفها فقد رفع حاجبيه في شيء من الدهشة وقال: (روث. .؟
بيد أن الدهشة التي صاحبته كانت تدل على أنه غير مرتاح إلى لقائها. . وانفرجت شفتا روث عن ابتسامة رقيقة وقالت:
- أجل، - أنا - روث
- لقد انقضى أمد طويل منذ التقينا لآخر مرة. . سنوات كثيرة. . سبع على ما أذكر. .
فأجابت في صوت هادئ وكأنها تحاول ألا تستعيد تلك الذكريات:
- نعم. . سبع سنوات كاملة. .
- لقد أسعدني لقاؤك كثيرا. . . ولكن. . كيف حالك اليوم أنت. . و. . روي.؟
فصمتت وقتا. . ثم قالت:
- لقد كان الحال على ما يرام. . ولقد منحنا القدر طفلا جميلا. . غير أن روي يعاني مرضا شديدا. . وقد أشار عليه الطبيب بأن يرحل إلى الخارج. فيقضي عاما لا يزاول فيه عملا من الأعمال. . ليتسى له استعادة صحته - وإلا. . .
وكفت روث عن الحديث فسألها مارتان في تحفز:
- وإلا ماذا؟
- وإلا كان مآله القبر
- فقال مارتان متسائلا:
- وطبعا أطاع روي استشارة الطبيب واعتزم السفر. .
- كلا!
- ولماذا؟
- إن السفر يتطلب نفقات. . وليس لدينا مال. . ولذلك زرتك اليوم أطلب منك أن ترد إلى روي الألفي جنيه اللتين سرقتهما منه. . منذ سبع سنوات. .
وكان صوتها جافا قاسيا. . فقال مارتان ثائرا:
- يا لك من حمقاء! كيف تجرئين على توجيه هذه الإهانة إليّ؟ ولكن روث لم تتحرك من مقعدها. . وإنما قالت في هدوء)
- إهانة! هل تنكر أنك سرقته.؟
فكظم مارتان غيظه. . وقال:
- إن سلوكك هذا يدهشني. . لا شك أنك تعرفين أن زوجك قد استثمر آلفي جنيه في الشركة. فإذا أفلست الشركة. . وأخفقت الأعمال. . أتيت هنا ترمينني بالتهم. . وتزعمين أنني سرقت أموال زوجك.
- ولكنك يا صاحبي لا تجهل أن الشركة كانت على شفا الإفلاس. . بل كانت مفلسة فعلا. . في الوقت الذي ساهم زوجي فيها. . والأدهى من ذلك أنك دعوته إلى المساهمة وأنت مديرها. . وعالم بحالها. . والذي آسف له أنك لم تكتف بذلك. . بل ضاعفت من مرتبك ونفقاتك. . فلما أفلست الشركة. . غادرت البلدة. . واختفيت. خبرني. . في أي شريعة يحق لمدير شركة مفلسة أن يضاعف مرتبه ونفقاته. . وأنت الذي حرضتني على أن أدفع بزوجي ليشترك وإياك في الشركة المزعومة. .
فقال مارتان في دهاء:
- إذن كان لك عليه نفوذ كبير. .
- بلا شك. . إنني لا أجهل ما ترمي إليه من وراء هذا السؤال. . لقد كنت تعتقد يا مارتان أنني أعشقك ولكن الحقيقة أنها كانت أيام نزق وطيش. . ولو لم أكن طائشة لما اشتركت في تدبير المؤامرة التي سلبت بها زوجي ألفي جنيه. . والآن. أتريد أن تعيد إليّ ذلك المال.؟
- كلا بالطبع. . فإن الخسارة قد لحقتني كما لحقت زوجك. . بإفلاس الشركة. .
- هذا بهتان. .
فنهض مارتان واقفا وقال في ثورة جائحة:
- اغربي عن وجهي أيتها الماكرة. . إن هذه الإهانات لا أحتملها منك. . غادري مكتبي حالا. .
- حسنا. . سأغادر مكتبك الآن. . ولكن أرجو أن تفسح لي صدرك لأصارحك بشيء قبل أن أغرب عن وجهك يا مستر مارتان. إن الشيء الوحيد الذي يقض مضجع روي هو أن صحته تحول بينه وبين إعانتنا على السير في ركب الحياة. أي لا تمكنه من أن يعولنا. . أنا وابني. . وهو دائما شديد القلق علينا. . ولك الذي أخشاه أن يدفعه اليأس إلى التخلص من تلك الحياة. . ولكن الذي عزمت عليه هو أنني إذا عدت إلى البيت سأحدثه بشيء يصرفه عن الاهتمام بأمرينا. .
فقال مارتان يسألها:
- أفصحي فإن في كلامك غموضا
هذا الشيء الذي سأدلي به إلى زوجي. . هو أن الطفل الذي يظنه ابنه ليس في الواقع إلا ابنك أنت. وحين سمع مارتان هذه الكلمات امتقع وجهه. . وامتدت عليه ظلال من الأحاسيس والانفعالات. . واستطردت روث تقول:
- ماذا حدث يا عزيزي مارتان؟ إنني أراك شديد الاضطراب. . منذ سبع سنوات. . عقب ساعات الطيش التي عشنا فيها معا. . وعقب سلبك زوجي الألفي جنيه. . خرجت من المدينة. . والآن بعد شهور قليلة سيبلغ الطفل سبع سنوات. . فهل أدركت أنه ولدك؟
فأجابها مارتان في حدة:
إني لا أصدق حرفا مما تقولين. .
فهزت روث كتفيها بلا اكتراث وقالت:
- إن هذا لا يضيرني. . تصدق أو لا تصدق. . ولكن. . ثق تماما أن زوجي سيصدق هذا القول وسوف لا ينكر منه شيئا. . فليس من المعقول أن تعترف زوجة لزوجها زورا بأنها عبثت بشرفه وأن من يظنه ابنه ليس إلا ابن عشيقها. . ثم إن الطفل شديد الشبه بك. . وسأدل روي على مواضع الشبه بينكما. . وعندئذ سيعرف قطعا صدق حديثي
فقال مراتان محاولا أن يصرفها عن هذا الرأي:
- ولكنك بهذا سوف تثيرين حول نفسك الشبهات. . وستقضين على نفسك وعلى سمعتك
- نفسي وسمعتي؟. . ليكن!. لقد لوثت شرف روي. . وبددت أمواله وأغريته على أن يلقي بها إلى السارق. . والآن. . أرى صحته تتقهقر. . وأصبح مفلسا. . فهل تظن أن قيمة الدنيا ستأخذ حيزا من تفكيري بعد هذا؟. . أنه ليحزنني أن أراه دائم القلق والاضطراب لا يفكر في شيء سوى مصيري ومصير الطفل الذي هو طفلك. . ولا شك أنه حين يقف على حقيقة الأمر. . سوف لا يهتم بأمرينا. . نعم سيكرهني. . سيمقت الزوجة التي عبثت بشرفه. . وكذلك الطفل. . حين يدرك أنه ثمرة السفاح. .
وقال مارتان صائحا:
- يخيل إليّ أنك جننت. .
- جننت. .! لست على أي حال أعير قولك اهتماما. . لقد كان روي شهما وكريما معي. .
- إن زوجك مريض. . وفي أزمة مالية. . فهل تريدين أن تزيدي من همومه. . وتثقلي من آلامه بإفضائك إليه ذلك السر الخطير؟
- لقد قررت فيما بيني وبين نفسي الإدلاء إليه بهذه الحقيقة
فقال مارتان متهكما:
- يا لك من زوجة مخلصة. .! زوج متقاعد مريض. . فتأتي زوجته الوفية المشفقة فتضاعف أحزانه وهمومه!
- تهكم ما شئت. . فإنني على يقين من أن روي لا يألم من أجل نفسه. . وإنما يألم من أجلي أنا والطفل. . وأن الذي أنشده من وراء هذا التصريح. . هو هدوء ضميره. . وذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذه. .
- السبيل الوحيد. . كيف؟؟
- أجل. . لقد أمن روي على حياته لقاء مبلغ كبير. . ولقد لاحظت عليه في الأيام الأخيرة اهتمامه في البحث عن مستندات التأمين. . وقرأت ما يجول في عينيه. . وإني لا أستبعد أنه ينوي الانتحار. .
فقال مارتان منفعلا:
- ولكن ألا تدركين يا حمقاء. . أن وقوفه على السر سيدفعه إلى التخلص مني لا محالة.؟
فقهقهت روث قهقهة صاخبة وقالت:
- وماذا يهمني من أمرك إذا هو قتلك.؟ إنني لم أعد أحفل بك أو أحبك
وجلس مارتان إلى مكتبه وتناول دفتر الشيكات وهو يتمتم:
- ولكنني لا أود أن أموت. .
وكتب لها شيكا بألفي جنيه. . وأخذته روث. . وانصرفت وفي طريقها قالت تحدث نفسها: - يا له من غبي أبله! لقد خدعته وقلت له إن الطفل ابنه وإنه يبلغ من العمر سبع سنوات. . ولن أنه أدرك الآن أن ابني الوحيد الذي رزقته عمره عام واحد لطار صوابه. . .
عبد القادر حميدة