الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 957/المرأة في شعر شوقي

مجلة الرسالة/العدد 957/المرأة في شعر شوقي

مجلة الرسالة - العدد 957
المرأة في شعر شوقي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 05 - 11 - 1951


بمناسبة ذكراه للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

تتمة ما نشر في العدد الأسبق

أما الصورة الثانية فترى فيها شوقي يساير روح الإصلاح المنبعثة من قلوب المستنيرين الآخذة في الازدياد. فجاء شعره خالياً من الصناعة الشعرية بعيداً عن التكلف، تظهر فيه روح معنوية صريحة تسمو بالغرض الشعري، فقد استجاب للصيحات التي يبعثها رجال الإصلاح

ونراه يخصص لمشكلة الحجاب والسفور - التي شغلت القوم - قصيدة طويلة تظهر فيها شاعريته القوية وثقافته العالية، ولكنه مع ذلك كان شديد الخشية والحذر من مكاشفة الجمهور برأي صريح، فاستغل خياله الخصب ومعانيه الرائعة فأضفي على القصيدة نوعاً من السحر، أخذ بألباب الناس، المحافظ منهم والمجدد، وصار الكل يتغنون بهذا الشعر الجميل

ففي قصيدته التي بعث بها إلى (مكنونة البادية) يدعوا فيها المرأة إلى نزول ميدان الحياة متسلحة بالأخلاق القويمة والمثل العالية، وأن تكون واضحة الحجة قوية الرهان، وأن تتذرع بالصبر على ما يصيبها في سبيل ما تريد أن تصل إليه، لأن المعالي لا تنال إلا بالجد والكفاح فيقول

صداح يا ملك الكنا ... ر ويا أمير البلبل

قد فزت منك (بمعبد) ... ورزقت قرب (الموصلي)

وأتيح لي (داود) مز ... مارا وحسن ترتل

يا طير والأمثال تض ... رب للبيب الأمثل

دنياك من عاداتها ... ألا تكون لأعزل

أو للغبي وإن تعل ... ل بالزمان المقبل

جعلت لحر يبتلى ... في ذي الحياة ويبتلى

يرمي ويرمي في جها ... د العيش غير مغفل

مستجمع كالليث إن ... يجهل عليه يجه أسمعت بالحكمين في ال ... إسلام يوم (الجندل)

في الفتنة الكبرى ولو ... لا حكمة لم تشغل

رضى الصحابة يوم ذ ... لك بالكتاب المنزل

وهم المصابيح السرا ... ة عن النبي المرسل

رجعوا لظلم كالطبا ... ئع في النفوس مؤصل

نزلوا على حكم القو ... ى وعند رأى الأحيل

ففي هذه القصيدة والأبيات الأخيرة منها خاصة يبين أن الأمر للقوة مهما كان وضوح الحق ومهما كانت حجة قائليه، ولكنه كان ذا قوة وذا حيلة فاستطاع أن يظفر بما يريد في آخر الأمر، وهذا شأن الحياة كل شئ فيها يحتاج إلى القوة والحيلة

ثم يطرق موضوعاً أكثر خطورة من سابقه، فهو ينعى على الرجال تعسفهم مع نسائهم وتنكرهم لهن بزواجهم عليهن بعد أن قضين في أكنافهم زمن الصبا، وزبلت منهن زهرة الشباب. وحفظن لهم أعراضهم، وصبرن معهم على حلو الحياة ومرها، وبعد أن رزقن منهم بنين وبنات، فيقول:

ظلم الرجال نساءهم وتعسفوا ... هل للنساء بمصر من أنصار

يا معشر الكتاب: أين بلاؤكم ... أين البيان وصائب الأفكار

أيهمكم عبث وليس يهمكم ... بنيان أخلاق بغير جدار

عندي على ضيم الحرائر بينكم ... نبأ يثير ضمائر الأحرار

ومنها قوله:

كثرت على دار السعادة زمرة ... من مصر أهل مزارع ويسار

يتزوجون على نساء تحتهم ... لا صاحبات بغى ولا بشرار

شاطرنهم نعم الصبا وسقينهم ... دهراً بكأس للسرور عقار

الوالدات بنينهم وبناتهم ... الحافظات العرض كالأسوار

الصابرات لضرة ومضرة ... المحيبات الليل بالأذكار

من كل ذي سبعين يكتم شبيه ... والشيب في فوديه ضوء نهار

يأنى له في الشيب غير سفاهة ... قلب ضغير الهم والأوطار كم ناهد في اللاعبات صغيرة ... ألهته عن حقد بمصر صغار

يرشو عليها الوالدين: ثلاثة ... لم أدر أيهم الغليظ الضارى

المال حلل كل غير محلل ... حتى زواج الشيب بالأبكار

سحر القلوب فرب أم قلبها ... من سحره حجر من الأحجار

دفعت بنيتها لأشأم مضجع ... ورمت الصبا والحسن بالدينار

بعض الزواج مذمم، ما بالزنا ... والرق إن قيسا به من عار

فتشت لم أر في الزواج كفاءة ... ككفاءة الأزواج في الأعمار

أسفي على تلك المحاسن كلها ... نقلت من (البال) إلى الدوار

إن الحجاب على (فروق) جنة ... وحجاب مصر وريفها من نار

وعلى وجوه كالأهلة ورعت ... بعد السفور ببرقع وخمار

وعلى الذوائب وهي مسك خولطت ... عند العناق بمثل ذوب القار

وعلى الشفاء المحييات أماتها ... ربح الشيوخ تهب في الأسحار

في هذه القصيدة يسمعنا رأيه صريحاً، لا يهاب ولا يخشى، فيدعوا أصحاب الأقلام ليستلوها على هؤلاء العابثين الذين لاهم لهم إلا إشباع شهواتهم، وعلى الذين يتجردون من العواطف الإنسانية ويبيعون بناتهم بيع السائمة طمعاً في الأموال. . .

ثم يكون في قصيدة أخرى أبعد صراحة وأكثر تأييداً للمجددات من نساء مصر، ممجداً مقام المرأة، ضارباً الأمثال بالرسول الكريم في معاملته للنساء. وبأمهات المؤمنين في العزة والكرامة والعلم والمعرفة، وكيف أنهن حملن تراث الشريعة الإسلامية وشاركن الرجال في التجارة والحرب والسياسة، فيقول في قصيدته (مصر تجدد مجدها):

قم حي هذي النيرات ... حيى الحسان الخيرات

واخفض جبينك هيبة ... للخرد المتحفزات

زين المقاصر والحجا ... ل وزين محراب الصلاة

هذا مقام الأمها ... ت فهل قدرت الأمهات

خذ بالكتاب وبالحدي ... ث وسيرة السلف الثقات

وارجع إلى سنن الخلي ... قة واتبع نظم الحياة هذا رسول الله لم ... ينقص حقوق المؤمنات

العلم كان شريعة ... لنسائه المتفقهات

رضن التجارة والسيا ... سة والشؤون الأخريات

ومنها قوله:

أرع الرجال لينظروا ... كيف اتحاد الغانيات

والنفع كيف أخذن في ... أسبابه متعاونات

لما رأين ندى الرجا ... ل تفاخراً أو حب ذات

ورأين عندهمو الصنا ... ئع والفنون مضيعات

والبر عند الأغنيا ... ء من الشؤون المهملات

أقبلن يبنين المآ ... ثر للنجاح موفقات

مصر تجدد مجدها ... بنسائها المتجددات

النافرات من الجمو ... د كأنه شبح الممات

لما حضن لنا القض ... ية كن خير الحاضنات

غذينها في مهدها ... بلبانهن الطاهرات

وسبقن فيها المعلم ... ين إلى الكريهة معلمات

يهوين تقبيل المهن ... د أو معانقة القناة

وبرين حتى في الكرى ... قبل الرجال محرمات

قصيدة مامرة تنطق بأجل المعاني وأسمى الأغراض، لولا ضيق المقام لك لترى قدرة الشاعر واتساع ثقافته

وفي قصيدة (هلال والصليب الأحمران) لا يفرق فيها بين السافرات والمحجبات في الأعمال الإنسانية، والعمل على تخفيف آلام جرحى الحرب ومنكوبي الحوادث والأرزاء؛ ويشبههن بالمسلمات العربيات الخالصات في غصور الإسلام الزاهرة حيث كن يقمن بنصيب وافر مع الرجال في ميادين القتال يضمدن جراح المصابين ويخففن آلامهم، ويدفعن بالمحاربين إلى ساحة الوغى. . . فيقول:

جبريل أنت هدى السما ... ء وأنت برهان العناية أبسط جناحيك للذي ... ن هما الطهارة والهداية

إلى أن يقول:

ومحجبات هن أط ... هر عند نائبة كفاية

يسمعن ريا أو قوى ... كنساء طى في البداية

إن لم يكن ملائك الر ... حمن كن هو حكاية

يا أيها الباغون ركا ... ب الجهالة والعماية

الباعثون الحرب حبا ... للتوسع في الولاية

المدعون على الورى ... حق القيامة والوصاية

المتكلون الموتمون ... الهادمون بلا نهاية

كل الجراح لها التئا ... م من عزاء أو نسايه

إلا جراح الحق في ... عصر الحصافة والدارية

ستظل دامية إلى ... يوم الخصومة والشكاية

والأم هي المدرسة الأولى يتلقى فيها الابن عاومه ويتزود منها بالمعارف التي تعده للحياة، وفي استطاعتها أن تخلقه كما تشاء إن شاءت جعلته جبانا رعديداً،

وإن شاءت خلقته أسداً هصورا. وهي القديرة على أن تخلق منه رجلاً مثالياً كاملاً يمشي في الناس بالهدى والرشاد، أو تخلق منه شيطاناً رجيماً يبعث في الأرض الفساد. فيقول مخاطباً المرأة:

أنت شعاع من عل ... أنزله الله هدى

كم قد أضاء منزلاً ... وكم أنار مسجداً

وكم كسا الأسواق من ... حسن وزان البلدا

لولا التقى لقلت لم ... يخلق سواك الوالدا

إن شئت كان العير أو ... إن شئت كان الأسدا

وإن ترد غيا غوى ... أو تبغ رشداً رشدا

يأخذ ما عودنه ... والمرء ما تعودا

هذه نظرة سريعة لما حفل به ديوان شوقي عن المرأة غير ما تفرق في رواياته المتعددة التي تصور حياة المرأة النفسية والخلقية والعاطفية التي كان يلحظها شوقي، وفيها نرى كيف كان شوقي يعالج هذه الموضوعات بحكمة وتدبر، وأنه كان يستلهم بيئته الخاصة، العامرة بالعنصر النسوي المهذب الذي يدين بالحرية المقيدة بالقيود الخلقية والاجتماعية، وكيف أخذ على نفسه مناصرتها في الدعوة إلى التقدم الاجتماعي الذي كانت تسعى دائبة في الحصول عليه، وكيف كان يعمل على الأخذ بيدها في الحياة المنزلية والزوجية، والصلة بينها وبين الرجال

كما عرف مقدار خطوها في تربية أبنائها الذين تقدمهم للوطن رجالاً عاملين، يسعون إلى رفعة الوطن وترقيته ليساير أرقى الأمم في العالم

رحم الله شوقي وبلل ثراه، فقد ترك لنا تراثاً ضخماً قل أن يجود الزمان بمثله

أسبوط

عبد الموجود عبد الحافظ