مجلة الرسالة/العدد 957/أحمد سامح الخالدي
→ المرأة في شعر شوقي | مجلة الرسالة - العدد 957 أحمد سامح الخالدي [[مؤلف:|]] |
أصحاب المعالي ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1951 |
للأستاذ نجاتي صدقي
هذا الموت الذي لا يرحم. . قد اختطف نفس مرب فلسطيني كبير، ومؤرخ يشار إليه بالبنان، وصاحب فضل عميم على الشبيبة الفلسطينية المثقفة، ألا وهو المرحوم أحمد سامح الخالدي
والأسرة الخالدية في فلسطين هي من الأسر العربية الحجازية العريقة، أسرة قضاء وعلم، أسرة أدب وشعر، أسرة تربية وتاريخ وطب
مارست القضاء على التوالي خلال ثمانمائة سنة، فرحل قسم منها إلى مصر واشتغل مناصب القضاء. وقبور الديرى الخالدي في القاهرة تشهد لي ذلك، ثم عادت إلى فلسطين لتمارس القضاء والعلوم على شتى أنواعها
ومن أعلامها الذين توفاهم الله العالم الكبير، والحجة الثقة المرحوم الشيخ خليل الخالدي مؤسس المكتبة الخالدية الموجودة في القدس حتى أيامنا هذه. وليس من متعلم فلسطيني إلا لجأ إلى هذه المكتبة العامرة طالباً مكتبة الأسرة تركها السلف إلى الخلف؛ ثم أصبحت مكتبة قومية لعرب فلسطين كافة
وعميد الأسرة الخالدية اليوم هو العالم المجتهد الشيخ راغب الخالدي، رجل هيبة ووقار، وحجة من البقية الصالحة وبالرغم من تخطية سن التسعين. . هو والد الدكتور حسن، والدكتور حسين، وأحمد سامح، وغالب، ويعقوب، وإسماعيل
ولد فقيدنا في القدس سنة 1896، وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة الأمير كان، ثم في مدرسة المطران، ثم التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت حيث درس الصيدلة ونال شهادتها سنة 1916 وهو في العشرين من عمره، ولما أعلنت الهدنة عاد إلى فلسطين حيث عين مفتشاً للمعارف في يافا، وتابع في الوقت ذاته دراسته إلى أن تم له الحصول على درجة أستاذ في التربية
وتمر فترة من الزمن فيعين مساعداً لمدير معارف فلسطين، ويتبع ذلك تعيينه مديراً للكلية العربية في القدس سنة 1925 وظل في منصبه هذا إلى أن حلت النكبة بعرب فلسطين
ومن المشاريع الجليلة التي حققها المرحوم مشروع لجنة اليتيم العربي لأيتام الثورات العربية في فلسطين، فأنشأهم معهداً في دير عمرو. أذكر وقت أن دعاني الفقيد الغالي لزيارة هذا المعهد سنة 1946، فأقلتنا السيارة بين الوهاد والتلال إلى أن بلغنا قمة جبل، وقد انتصبت عليه أبنية حجرية جميلة. . . وراح رحمة الله يحدثني عما لاقاه من متاعب جمة لإقامة هذا المعهد للبنين، وعن عزمه على إقامة معهد آخر للبنات. فقلت له: وكم كلفكم بناء هذا المعهد؟. . قال: حوالي مائة وخمسين ألف جنيه فلسطيني، توليت تنظيم جمعها بنفسي
ولما بدأت الغيوم القائمة تتبلد في سماء فلسطين أسرع رحمه الله واستحصل من الحكومة المنتدبة على مبلغ مائة ألف جنيه لتتميم بناء مدرسة بيت حنينا وتجهيزها في قضاء بيت لحم، وتخصيصها للتلاميذ العرب في حالة تقسيم فلسطين، وقد عينت الحكومة لجنة أمناء لتحقيق هذا المشروع مؤلفة من الفقيد، والأستاذين نافذ الحسيني، وأنطون عطا الله، ثم أودعت اللجنة المبلغ مودعاً فيه
كانت مدرسة بيت حنيناً هذه تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الفقيد إبان إقامته في لبنان. كان يمنى النفس بالعودة إلى وطنه ليعيد للعلم صرحه، لكن الأوضاع العمة لم تسعفه فانتظر وطال انتظاره
وفي العشرين من شهر إبريل سنة 1948 لجأ رحمة الله مع قرينته الأديبة الفضلة السيدة عنبرة سلام الخالدي إلى وطنهما الثاني. . . وكأن إبان حياته في هذا البلد الشقيق عاملاً فعالاً من أجل تعليم أبناء اللاجتين، فأسس في جنوب لبنان مدرسة نموذجية قريبة الشبه بمعهد دير عمرو، وقد أعانه في تحقيق هذا المشروع ساكن الجنان رياض الصلح
لم يكف الفقيد لحظة واحدة عن الكتابة والتأليف عن لبنان، فكان يعقد الفصول في مجلتي (الأديب)، و (الرسالة) ونشر المقالات في جريدة (بيروت المساء) بعنوان - فلسطين في نصف قرن رأيتها تنهار -، وقد استخلص مقالاته هذه من كتابه الكبير الذي يحمل هذا الاسم والذي لم ينشر بعد
وأكب مؤخراً على وضع كتاب (التعليم عند العرب) وقد أنهاه وشرع في تنقيحه. . وورد ذكر هذا الكتاب في رسالته لقرينته التي كانت تقوم برحلة استجمام في ربوع إنكلترا مع شقيقها معالي صائب سلام، فقال فيها. (لقد بلغت يا عزيزي في تنقيح الكتاب حتى عهد المماليك. . . وإنني أتابع عملي دون انقطاع)
وضع فقيدنا أثنين وعشرين مؤلفاً، طبع منها ستة عشر، وستة منها هي مخطوطات فقط، وتعالج هذه المؤلفات مواضيع شتى في التربية، والتاريخ، وعلم النفس، وقد اشترك مع قرينته أديبتنا الكبيرة السيدة عنبرا في وضع كتاب (تأثير النساء في المدينة العربية) ولا يزال هذا الكتاب بين المخطوطات التي لم تطبع بعد
أما كتبه هذه فمنها ما قد تمكن من إخراجه من فلسطين، ومنها - وهو هام جداً - ظل في بيته في القدس، ومن حسن الطالع أن يقع البيت والكلية العربية تحت إشراف ممثلي هيئة الأمم المتحدة
وفي شهر يناير سنة 1951 تعين المربى الكبير في شركة (ألبان أمير كان للطيران) بمثابة مدير معاون لصائب بك سلام ولم يثنه عمله الإداري هذا لحظة واحدة عن تأدية رسالته التربوية التي كرس حياته من أجلها
كان المرحوم خصب الإنتاج طيلة حياته بالرغم من الصدمة الخاصة التي ألمت به بفقد قرينته الأولى أم الوليد؛ لكن الله قد أراد أن يهئ له السبيل إلى تأدية رسالته الكبرى فكافأه بالسيدة عنبرا سلام الخالدي وهي علم من أعلام السيدات العربيات في القرن العشرين
كانت السيدة عنبرا خير زوج ومعين للمرحوم، ولم يقعدها أمر الإشراف على بيتها وأولادها من تبادل الآراء مع قرينها في شتى المواضيع، ومن الانصراف إلى ترجمة (الإلياذة)، و (الأوديسى) إلى العربية وقد طبعا وأقرتهما حكومة فلسطين، ومن ترجمة (الأنياد) المعدة للطبع الآن
وأنجب فقيدنا ثلاثة بنين زابنتين، وهم: سلافة (27 سنة) تطلب العلم الآن في كمبردج وهي قرينة الأستاذ عاصم بك سلام المهندس المعماري، ووليد (26 سنة) وهو يسعى للحصول على الدكتوراه من أكسفورد وأطروحته فيها (البكرى الصديقى)، ومساعد المستشرق البروفسورجب في تحقيقاته، وأسامة (19 سنة) وهو يدرس الكيمياء في إنجلترا وقد نال درجة البكلوريا فيها، ويعمل للحصول على درجة أستاذ فيها أيضاً، ورندة (16 سنة)، وطريف (13 سنة)
كان الفقيد دائم التفكير بفلسطين، ومما ألت إليه أحوال الفلسطينيين، وقد تركت النكبة وأوضاع اللاجئين أثراً عميقاً في نفسه، ومضت الأيام دون أن يرى ثرى وطنه حراً مستقلاً، ودون أن يرى هؤلاء المشردين في كل صقع أحراراً كرماء في ديارهم، فلم يقو قلبه الكبير على احتمال الكارثة وسكت. . . بعد ظهر الخميس 27 أيلول سنة 1951 الموافق 25 ذي الحجة سنة 1370 وشيع جثمانه في يوم الجمعة إلى مقره الأخير في مقام الأوزاعي بالقرب من بيروت
كنا نتوقع إبان حياة الفقيد أن تستدعيه الحكومة الأردنية الهاشمية ليشغل المنصب الذي يستحقه. . . وكنا نتوقع أن يعمد أصدقاؤه ومحبوه وهم الآن وزراء، ونواب، وسفراء أن يثيروها حملة صاخبة لدعوة عميد المربين الفلسطينيين إلى مواصلة جهاده التربوي في القدس التي أحبها وأحبته. . . لكن شيئاً من ذلك ويا للآسف لم يحدث، فتوفاه الله وفي نفسه حسرة رحمك الله يا أبا الوليد، ونفعنا بعلمك وفضلك
نجاتي صدقي