مجلة الرسالة/العدد 955/الأدب والفن في أسبوع
→ دليلة | مجلة الرسالة - العدد 955 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 22 - 10 - 1951 |
للأستاذ عباس خضر
الاتجاهات الأدبية الحديثة:
طلبت محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية إلى محرر هذا الباب، أن يتحدث إلى مستمعيها عن (الاتجاهات الأدبية الحديثة في مصر) فأعد لها هذا الحديث الذي سجل في (استوديوهات السيد بدير بالقاهرة) وأذيع مساء يوم الأربعاء الماضي. ويظهر أن المحطة ستذيع أحاديث أخر عن الاتجاهات الأدبية الحديثة في الأقطار العربية الأخرى. فأنشر حديث الاتجاهات المصرية فيما يلي، راجيا أن يتاح لي تتبع ما عسى أن يذاع عن الاتجاهات الأخرى، فأحدث به قراء الرسالة لنقف على وجهات النظر في عالم الأدب العربي الحديث بمختلف بلاده
وهذا نص حديثنا:
كان أساتذتنا شيوخ الأدب المصري، أصحاب دعوة جديدة في التوجيه الأدبي، ظهروا بها في الثورة على من عاصروهم من قدامى الأدباء، وقاموا بدورهم الخالد في نهضة الأدب العربي الحديث، ارتادوا آفاق الآداب الأوروبية، وهم ذوو ثقافة عربية ومواهب أصيلة، ثم كتبوا وألفوا، حتى جمعوا لنا هذه الثروة الأدبية التي تكون أدبنا الحديث
وموضوعنا - وهو (الاتجاهات الأدبية الحديثة في مصر) - لا أريد له أن يعنى أدب أولئك الأعلام وذلك لأمرين، الأول أن ذلك الأدب قد شبع من درسه والحديث عنه، الأمر الثاني أنه قد تقادم عهده بعض الشيء، وجد بعده أو معه أدب أولى منه بلفظ (الحديث) من الناحية الزمنية على الأقل.
وقبل أن نقصد إلى هذا الأدب الحديث، ونأخذ في تبين اتجاهاته، أحب أن أذكر أمرا أراده محور هذا الموضوع ذلك أن المسألة في اتجاه الأدب ليست مسألة الأدباء وحدهم، وإنما هي كذلك مسألة القراء، بل إننا إذا نظرنا إلى الكتاب كانوا قراء قبل أن يكونوا كتابا، ولعلهم أكثر الناس قراءة - إذا نظرنا إلى هذا وجدنا الأمر كله في توجيه الأدب راجعا إلى القراء، فالجيل من الناس يشعر بحاجاته، ويطلب من التفكير والتعبير ما يلائم روحه وعصره، فيخرج من صميمه كتاب يعربون عنه ويقودون أفكاره , كان الأدباء قديما يلوذون بالملوك والمراء وأشباههم من الكبراء، لأنهم هم الذين يقرئونهم أو يسمعونهم، ويجزونهم على ما يقولون، ثم جاءت العصور الحديثة بالثورة على الطبقات الأرستقراطية، فتقدمت طبقات متوسطة إلى الصفوف الأولى في المجتمع وفي الحكم والسياسة. وقد تهيأت الفرصة للطبقة المتوسطة في مصر عن طريق التعليم في صدر هذا القرن العشرين، فارتفع منها أفراد إلى الطبقة العالية، وكان القراء يتكونون من هؤلاء وممن ظلوا متوسطين في حال حسنة، وكان حظ النوع الأول من الشعور بأنفسهم موفورا، وكان الآخرون المتوسطون يتطلعون إلى الأولين ويحاكونهم، فلم يكن يهم أولئك ولا هؤلاء ما تعانيه سائر طبقات الشعب من فقر وجهل ومرض. في هذه البيئة وفي ذلك الطور من الزمان نشأ أدباء الجيل الذي كان حديثا في ذلك الوقت، فكانوا لسان الطبقة المتوسطة ومن ارتفع منها.
وأرى من الضروري قبل الاسترسال في الحديث أن أنبه على أننا في هذا الموضوع بصدد اتجاهات الأدب، لا وصفه والحكم على قيمته، وأذكر كذلك أننا مضطرون إلى إجمال الكلام في هذا الحديث القصير، فليس ما نقوله ينطبق على كل الأدب وجميع الأدباء، وإنما هو على وجه العموم والأجمال.
كان أولئك الأدباء يحلقون في أجواء متعددة، وكان أكثر ما يطرقونه الدراسات الأدبية، دراسة الأدب العربي القديم، ودراسة الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، ومنهم من اتخذ التاريخ الإسلامي مجالا للتأليف في عرضه وتحقيقه، ومنهم من اتخذ منه مادة لخيال أدبي وعمل فني. وهم كالطبقة التي صحبوا تقدمها في شدة الشعور بأنفسهم، فكانوا أحيانا يسرحون مع الخيال ويلزمون الأبراج العاجية، يستوحون فيها الخواطر والأفكار البعيدة عن معترك الحياة الدنيا، فإذا قصدوا إلى تصوير المجتمع لمسوه لمسا مترفا وعرضوه عرضا ملهيا يقصد منه الإقناع أكثر مما تلمس فيه الحرارة.
ثم تقدم الزمن وانتشر التعليم، وألحت الآلام على الناس في أعقاب الحرب الأخيرة، فأصبحوا ينظرون شزرا إلى تلك الآداب السابحة في أجواز الفضاء، ويعدونها ضربا من العبث، فهم لا يجدون فيها أنفسهم، ولا يرون بها صدى لما يشغلهم، فصاروا عنها من المعرضين.
وقصد بعض الكتاب إلى الأدب الخفيف اللذيذ الخالي مما يفيد، أو الأدب الماجن الذي يشبه الصورة العارية، وكثيرا ما يرافقها، وذلك ليجتذبوا القراء، وانجذب القراء إليهم فعلا، فتخدروا حينا، ثم أفاقوا أو أخذوا يفيقون.
سادت الكتابة الخفيفة الفارغة والماجنة بعض السنوات في أعقاب الحرب، ولكن جاذبيتها أخذت تتضاءل بعد ذلك حتى كادت تمحى وأصبحنا نرى في السنوات الأخيرة كتابات تتجه إلى الشعب وتتناول مسائله ومشكلاته، تراها في الصحف وفي الكتب، وترى الناس يقبلون على قراءتها ويستزيدون منها، والذي يسترعي النظر أنك إذا ذكرت كلمة الأدب أمام بعض هؤلاء الكتاب أو أمام الذين يقرؤون لهم، بدا عليهم عدم الاكتراث، كأنهم يقولون: دعنا في حالنا! مالنا وللأدب. . وهم معذورون في ذلك، لأن تحليق المحلقين من الأدباء في عالم الكواكب والنجوم قد جنى على المفهوم العام للأدب، وصار كثير من الناس لا يفهمونه إلا على أنه مناقشة في الكلاسيكية والرمزية أو معركة على نسبة من الشعر إلى المتنبي أو أبي تمام!
وعلى ذلك أستطيع أن أقول إن الأدب الحديث في مصر يتجه الآن إلى الواقعية التي تهدف إلى صميم الشعب على أيدي كتاب من الشباب ومن الشيوخ أيضا، يوجههم القراء الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم، وهذا الاتجاه لا يزال في أوائله، وهو بطبيعة الحال سيزداد كلما انتشر التعليم وزاد عدد القراء من سواد الناس.
وأرى أن هذا الاتجاه لو يرد إلينا من الخارج، أن كان مصاحبا لأشباهه في البلاد الأخرى، وإنما هو وعي جديد مستمد من داخل النفوس. وقد حاول بعض الأدباء أن يستوردوا مذاهب أوروبية كالوجودية والرمزية والسريالية، ولكن أحدا لم يلق باله إليهم.
ذلك هو الاتجاه، وهو كما قلت شيء آخر غير قيمة الإنتاج في ذاته، ولا شك أن فيما يكتب كثيرا من الجيد الرائع، وفيه أيضا كثيرا مما تدفع إليه العجلة وحب الإكثار وابتغاء الكسب، وفيه مع هذا وذاك كثير من الهذر والإسفاف.
وإني متفائل بمستقبل الأدب في مصر، لثقتي بهذا الشعب الذي يتعلم فيكثر فيه القراء الذين سيوجهون الأدب ويحملون الأدباء على الإجادة بالإقبال عليهم، وبالتنبيه إلى قيمة ما يكتبون.
ونسمع أحيانا من يعيب كتاب هذا الجيل لعدم عنايتهم باللغة والأسلوب، ويرد عليهم آخرون بأن المهم هو المعنى، ومعركة اللفظ والمعنى معركة قديمة، تثار من حين لآخر، ولاشك أن الذوق السليم يتطلب الجمال في كل شيء، فلماذا لا نطلبه في أسلوب الأدب ليكمل به جمال المعنى؟ وإذا اعتبرنا المعنى بمثابة الروح واللفظ بمثابة الجسد أفليس من الكمال أن يكون الروح الجميل؟ غير أنني لا أوافق القائلين بأن كتاب الجيل يهملون هذا الجانب في كتابتهم، فالجمال مسألة تتعلق بذوق العصر، فالفتاة العصرية - مثلا - تتبع في حليتها وتنسيق هندامها وثيابها غير ما كانت تصنعه الفتاة في العصور الماضية، وكذلك الأسلوب، فكما تركت الفتاة الأقراط الذهبية ذات الوزن الثقيل. وكما نبذت العقود ذات الأقراص المستديرة الكبيرة، وكما تحولت عن الألوان الزاهية الصارخة، كذلك فعل أدباء هذا الجيل، إذ جانبوا العبارات الطنانة والتراكيب الرنانة، ووجهوا همهم إلى الكلمة العذبة والأسلوب الأساس، أي أنهم يتجهون إلى البساطة واستخدام الكلام للوصول إلى الهدف، وليس معنى هذا أنهم أهملوا ناحية الجمال، وإنما هم يسيرون في اتجاه الذوق العصري العام الذي يؤثر جانب البساطة في كل شيء. ومما يلاحظ في هذا المقام أن أدباء الشباب جميعا متمسكون باللغة الفصيحة، لا نرى فيهم من يدعو إلى العامية، كما كان في الجيل الماضي من يدعو إليها، وكل ما في الأمر أنهم يريدون أن يطوعوها ويقربوا بينها وبين اللغة الدارجة برفع الدارجة إلى الفصيحة.
سيداتي وسادتي - لعلكم تلاحظون أنني إلى الآن قصرت الحديث على الكتابة، ولم أتعرض للشعر. إنني فعلت ذلك حقا لأن اتجاه الأدب إلى الحياة الواقعة في مصر إنما هو في ناحية الكتابة فقط، أما الشعر - على وجه الإجمال - فلم يتفضل بعد أن يأكل من طعام الناس ويمشي في أسواقهم.
ونرى أن الشعر المصري يسير الآن في اتجاهين: الأول إتباعي كلاسيكي، لا يزال أصحابه يقولون كما كان يقول القدماء، وينظرون إلى الأشياء كما كانوا ينظرون، وقد وصف أحد الظرفاء هذا الفريق من الشعراء بأنهم (شعراء الفنادق)، يستقبلون القادمين، ويودعون الراحلين، وتظهر على وجوههم دلائل مختلفة ليس فيها ما يدل على حقيقة ما يعتلج في نفوسهم. والاتجاه الثاني اتجاه خيالي فردي، وهو اتجاه المدرسة الحديثة، لا تزال مشاعر أصحابه معلقة بالحبيب الهاجر والبحيرة الساجية والخطرات المغرقة في التأمل السابح بعيدا عن حياة الناس.
وأعتقد أن تخلف الشعر عن النزول مع الكتابة إلى معترك الحياة، هو الذي جعل الناس ينصرفون عنه، أو هو على الأقل أحد الأسباب في هذا الانصراف. والكلام هنا - كما سبق أن قلت - إجمالي، فهناك من غير شك فلتات من الشعر تتصل بالحياة، وكما أن من الكتابة ما لا يزال بعيدا عن الحياة.
عباس خضر