مجلة الرسالة/العدد 955/أصحاب المعالي
→ صالح علي شرنوبي | مجلة الرسالة - العدد 955 أصحاب المعالي [[مؤلف:|]] |
المقامة المدريدية ← |
بتاريخ: 22 - 10 - 1951 |
5 - أصحاب المعالي
(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)
(حديث شريف)
للأستاذ محمد محمود زيتون
هذا هو البارودي أو بالأحرى فلذات من شخصيته المالية الدائبة على طلب التمجيد والتخليد، وليس ثمة أبعد همة من احتقار اللذة خمرا ومزمارا، وأسمى مكانة من الاعتماد على النفس في سلوك النهج بغية العزة والتماس الكرامة.
والبارودي - والحق يقال - من طراز الأبيوردي الذي من شيمه معالي الأمور، أما قمة انجم فهي موطئ قدمه، فكيف برأسه:
الناس من خولي والدهر من خدمي ... وقمة النجم عندي موطئ القدم
وللبيان لساني والندى خضل ... به يدي، والعلا يخلقن من شيمي
لو صيغت الأرض لي دون الورى ذهبا ... لم ترضها لمرجى نائل همهمي
وعن قليل أرى في مأزق حرج ... به تشام السريجيات في القمم
ويقول:
عجبت لمن يبغي مداى وقد رأى ... ما حب ذيلي فوق هام الفراقد
ولي نسب في الحي عال بقاعه ... رحيب ماري العرق زاكي المحاتد
ورثتنا العلا وهي التي خلقت لنا ... ونحن خلقنا للعلا والمحامد
أبا فأبا من عبد شمس وهكذا ... إلى آدم لم ينمنا غير ماجد
ومن العجيب أن العرب في شتى الإعصار والأمصار لم يفارقهم هتا المجد في الروحات والغدوات، وما من شيء يحتلفون بذكره في نثرهم وشعرهم أهم عندهم من المعالي.
يقول حسا بن ثابت في مدح جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان:
دار لقوم قد أراهم مرة ... فوق الأعزة عزهم لم ينقل
بيض الوجوه كريمة أحسبهم ... ثم الأنوف من الطراز الأول
ويقول لبيد: فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه ... فما إليه كهلها وغلامها
ويقول شاعر في رثاء الأحنف بن قيس:
فما كان قيس هلكه هلك واجد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
ويقول لبيد عند النازلة، والنجوم والشهب والجبال تراوده:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وكذلك صفي الدين الحلي وهو يرثي صديقا له غرق بدجلة:
أصفيح ماء أو أديم سماء ... فيه تغور كواكب الجوزاء
ما كنت أعلم قبل موتك موقنا ... أن البدور غروبها في الماء
ومنها:
أنف العلاء عليك من لمس الثرى ... وحلول باطن حفرة ظلماء
ويقول:
حبك الأوطان عجز ظاهر ... فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسنا ... وسرى البدر به البدر اكتمل
والساعاتي أيضا يذكر المعالي عند الرثاء فيقول:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب
وقال آخر:
كل شيء إذا تناهى تواهى ... وانتقاص البدور عند التمام
وقال غيره:
كأن الفتى يرقى من العمر سلما ... إلى أن يجوز الأربعين فينحط
وقال أبن سارة:
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ... الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وفي الكرم يول الشاعر مادحاً عمرو العلا هاشم: عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ... مر السحاب ولا ريح تجاريه
وفي الهجاء يقول الحطيئة للزرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وفي الحكم يقول الهذلي:
تا لله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس
وفي المال يقول الحافظ:
تباً لمن آتاه رب العلا ... مالاً ولم يرزقه إنفاقا
فالمال كالآل متى لم يكن ... يبين الإنفاق إشراقه
وكان في العرب رجل اسمه (أنف الناقة) نسبت إليه قبيلته لأنه سيدها وهو جعفر بن قريع، وكان كل فرد في هذه القبيلة عرضة للسب والتسيير حتى قال الحطيئة فيهم قوله:
قوم إذا عقد عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قوم هموا الأنف والأذناب غيرهموا ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
عند إذ جعلوا يفخرون، وإذا سأل أحدهم عن نسبه لم يبدأ إلا بقوله:
أبن أنف الناقة. وقد كان يغضب إذا ذكر
وفي المدح يضع زهير بن أبي سلمى هرم وقومه فوق الشمس:
لو كان يعقد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
وقالت بنت لبيد تمدح:
أشم الأنف أصيد عبشمياً ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا عليها من بني حام قعودا
وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان (عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها. .)
وعدى هذا هو القائل:
نحن كنا قد علمتم قبلكم ... عمد البيت وأوتاد الإصار
ويقول ذو الإصبع يرثي قومه:
لهم كانت أعالي الأرض ... فالسران فالعرض إلى ما حازه الحزن ... فما أسهل المحض
إلى الكفرين من ... نخلة فالدارين فالمرض
لهم كان جمام الماء ... لا المزجي والبرض
فمن ساجلهم حربا ... ففي الخيبة والخفض
وهم نالوا على الشنآن ... والشحناء والبغض
معالي لم ينلها الناس ... في بسط ولا قبض
وقال محمد بن وهب الحميري:
ولما رأى الله الخلافة قد وهت ... دعائمها والله بالأمر خابر
بنى بك أركان عليها محيطة ... فأنت لها دون الحوادث ساتر
وأرعن فيه للسوابغ جنة ... وسقف سماء أنشأته الحوافر
لها فلك فيه الأسنة أنجم ... وتقع المنايا مستطير وثائر
ولو لم تكن إلا بنفسك فاخرأً ... لما انتسبت إلا إليك المفاخر
وقال شاعر قديم:
قلال مجد فرعت آصاصا ... وعزة قعساء لن تناصى
وقال يزيد بن الطثربة:
عدت من عليه تنقض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفقا
وقال أحدهم يصف حديقة:
ترفعت عن ندى الأعماق وانحدرت ... عن المعاطن فاستغنت بمسقاها
فاهتز بالبقل والريحان أسفلها ... وأعتم بالنخل والرمان أعلاها
أيا معاوية اشكر فضل واهبها ... وكلما جئتها فاعمر مصلاها
وقال البلوى في وصف بيت:
وقد حلوا أعاليه بتبر ... وقد بسطوا أسافله رخاما
وقد جعلوا له بابا وقفلا ... وحلوا بابه ورقا وسلما
وقال آخر:
فاستنزلوا أهل (جو) من منازلهم=وهدموا شاخص البنيان فاتضعا وقال حسان يهجو نوفل بن الحارث:
وما ولدت أبناء زهرة منهمو ... صميماً ولم يلحق عجائزك المجد
والبهاء زهير يقول:
على الطائر الميمون يا خير قادم ... وأهلا وسهلا بالعلا والمكارم
ويقول ابن سناء الملك:
وما أنا راض أنني واطئ الثرى ... ولي همة لا ترضى الأفق مقعدا
ولو علمت زهر النجوم مكاني ... لخرت جميعا نحو وجهي سجدا
ويقول صفي الدين الحلي:
سلى الرماح العوالي عن معالينا ... واستشهدى البيض هل خاب الرجافينا
وفي وصف الفرس يقول الثعالبي:
يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين العالمين بهمة ... نذر الأجانب بالوفود أقاربا
ويقول مهيار الدليمي:
وأبى كسرى علا إيوانه ... أينفي الناس أب مثل أبي
وتقول هند بنت طارق في النسوة يوم أحد وهن يضربن الدفوف والمعازف:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
والطارق هو النجم الذي هو زحل، فهي تقول نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالطارق، وما أدراك ما الطارق: النجم الثاقب.
وأنشد أبو بكر الأيادي لامرأة العرب عنن عنها زوجها:
فقدتك من بعل علام تدكني ... بصدرك لا تغنى فتيلا ولا تعلى
ويقول شاعر ارتفع بأمانيه للناس فوق ما يتمنى الناس:
سقى الله أرض العاشقين بغيثه ... ورد إلى الأوطان كل غريب
وأعطى ذوي الهيئات فوق مناهمو ... ومتع محبوبا بقرب حبيب
هذه شوارد كلها شواهد على الشعراء العرب لم يكونوا بمنأى من المعالي مادية وروحية في كل ما تتفتق به قرائحهم، وهذه ظاهرة قلما توجد في الآداب الأخرى على هذا النحو من التنويع والتوزيع. وصدق أبن قتيبة حين يقول:
(. . ويقال ما استدعى شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخضر الخالي)
نستطيع أن نقول في أمان وأمانة إن الروح العربية كانت مجالا لتوليد هذه المعاني، ونشدان تلك المعالي، حتى إذا جاء الإسلام كانت منه في موضع الرعاية والتقدير، ولا سيما فيما يرفع المجتمع إلى أسمى الدرجات الإنسانية، وذلك يؤدي حتماً إلى انعكاس المعالي الاجتماعية على النفس المفردة، فكان الإسلام أشبه بالبؤرة من العدسة اللاقطة العاكسة مما: تلتقط ما دون العصبية الممقوتة، وتحتفظ بالمفاخر لتتسلط إشعاعاتها على نفوس المؤمنين بهذه الرسالة الجديدة التي يدعو إليها محمد وهو من أواسط العرب وأشرفهم محتداً وفعالاً.
والله تعالى هو العلي العظيم المتعالي الأعلى ذو العلا والعلا والمعالي. وصفة الله العليا هي شهادة ألا إله إلا الله.
محمد محمود زيتون