مجلة الرسالة/العدد 953/شرعة القومية وشرعة الإسلام
→ شاعر مجهول | مجلة الرسالة - العدد 953 شرعة القومية وشرعة الإسلام [[مؤلف:|]] |
أصحاب المعالي ← |
بتاريخ: 08 - 10 - 1951 |
بمناسبة مرور 1370 سنة على هجرة النبي
عن العلامة وليم ماكدوجل
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
إن الشرائع العالمية وهي المسيحية والإسلام والبوذية، كل منها تتطلع إلى السيطرة على العالم، وجعل الناس جميعاً تحت لوائها، وترمي كذلك إلى تحديد قواعد الفضيلة والخلق للبشر.
أما الشرائع القومية، ومنها شرائع اليهود والبراهمة واليابانيين والصينيين، فإنها تحدد مراميها في جماعة أو قبيلة أو أمة أو دولة بعينها، لأن تعاليمها لا يمكن أن تناسب جميع البشر بعكس الشرائع العالمية السابقة الذكر.
ونحن نعلم أن المبادئ الخلقية في جميع المدنيات تنحصر في طائفتين كبيرتين من الشرائع الزمنية والخلقية. فالأولى هي الشرائع القومية التي تعمل في حدود جماعة أو قبيلة أو دولة أو أمة، وهي كذلك لا تقتصر على توجيه الأفراد إلى الخير والسعادة عن طريق معاملته وسلوكه مع غيره، ولكنها تسيطر عليه في علاقته بالدولة أو الأمة التي هو فرد منها منتم إليها، والتي يجب أن ينظم حياته تبعاً لمقتضيات مصالحها وحاجاتها.
أما الثانية فهي الشرائع العالمية، وهذه تعمل على السيطرة على العالم وإخضاع البشر لقواعد الفضيلة التي ترى أنها صالحة لحياتهم، ملائمة لهم في كل زمان ومكان. والفرق بين هاتين الشرعيتين: أن الأولى قومية وسياسية، والثانية عالمية خلقية، وهذا الفرق يظهر واضحاً عند مقارنة الشريعة اليهودية أو البرهمية بالشريعة المسيحية أو الإسلامية.
ففي الدولة اليهودية مثلاً لك يكن الحكم حكماً روحياً، إذ عبد إسرائيل إلهاً قومياً، فلم تكن شريعتهم تقصر غايتها على تنظيم سلوك الفرد، ولكنها رمت إلى خير الشعب جملة، واليهود في نظر أنفسهم أفضل شعوب الأرض بما امتازوا به من مميزات وخصائص بأن جعلهم الله شعبه المختار، ذا العزة الخالدة والمجد المقدس، وفي نظر شريعتهم أن الأخلاق دين وسياسة معاً، وأن الشريعة قامت على رواس من الوطنية فكفلت البقاء للشعب المشتت في بقاع الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكذلك استطاعت أن تبقى عليه وتصونه من الفناء في الكثرة العالمية.
أما الشريعة المسيحية فإنها روحية بحتة لم تتدخل في الشئون السياسية بل تركت ما لقيصر لقيصر، وبذلك طغت تعاليمها على النظام القومي، فجردته من العنصر السياسي وعملت على إزالته وهدمه، لأنها تعمل على غزو العقائد والأوضاع القومية بغير تمييز ولا تفرقة بين جنس وآخر، أو بين فرد وآخر من أفراد الجنس الواحد، وهدفها من ذلك انحلال القومية وجعل العالم كله خاضعاً للسيطرة الروحية، وفات العاملين عليها أن انهيار صرح القومية الإغريقية كان بسبب فلاسفتهم إلى الفكرة العالمية الحرة، ولم يدركوا أن هذه الفكرة لا تأتلف مع فكرة القومية ومميزاتها، وقد تقوضت أركان الدولة وزالت من الوجود لأنها عملت على بسط سلطانها على شعوب كثيرة مختلفة الشرائع متباينة العقائد، فلم يستطيع نظامها القومي وشريعتها السياسية (أي نظام وشريعة الدولة الإغريقية) أن تمتص كل هذه العناصر المتنافرة وإن كانت سيطرت عليها زمناً غير قليل، وقد جاء انتشار المسيحية في أرجائها تحولاً خطيراً في هيكل أوضاعها الخلقية، بل أنه أبدل نظامها القومي بشرعة عالمية مجردة عن الفكرة السياسية.
وأما اليابانيون والصينيون فقد احتفظوا بعناصرهم الوطنية وروحهم القومية لأن مبادئهم الخلقية تستند إلى دعامة قومية ثابتة، ومن خصائص الشرائع القومية أنها إذا خرجت من بيئتها وامتدت إلى الأمم الأجنبية، فإنها لا تقوى على الاحتفاظ بأثرها في تكييف حياة الأفراد وتوجيه أفكارهم ونزعاتهم، إذ من طبيعة الأقوام عدم مقدرتهم على الاحتفاظ بمميزاتهم وشخصياتهم إلا داخل حدود أنظمتهم ومبادئهم.
والتاريخ العالمي يحكي لنا قصة النضال بين الشرائع القومية ومميزاتها من يوم أن خلقت الشرائع العالمية. أما تاريخ الإسلام فإنه يضرب لنا أقوى الأمثال على اتجاهات الشرائع العالمية وقوتها، فإن النبي محمداً (ﷺ) استطاع أن يغرس نظامه الخلقي ومبادئه العالمية في شعب على حالة من البداوة والفطرة، ولكن له عبادته وعقائده وطقوسه الخاصة، ورغم هذا فإن نظام الإسلام سرى في هذا الشعب سريان الماء في العود اليابس فأعاد إليه الحياة، وأكتسح تياره كل العقبات التي كانت أمامه، وتكشف عن قوة فائقة من النماذج والتمثيل، وخضعت له شعوب متباينة الجناس والأشكال، متغايرة الألوان من بيض وسود وصفر، وكان خضوع هذه الشعوب عن رضى وإيمان، كما يتبخر الماء في الهواء، وذلك لأن نظام الإسلام سوى بين الناس، وجعلهم صفاً واحداً كلهم سواء، ومحا بينهم من فوارق الجنس واللون والطبقة والقبيلة، وحطم الحواجز التي كانت بين أبناء الشعوب بل بين أبناء الشعب الواحد، وسوى بين الرجل والمرأة، ونادى بأن الناس سواسية لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل الصالح المثمر، وقد تزاوج العرب مع جميع الأجناس والشعوب التي افتتحوا بلادها فكان هذا سبباً من أسباب الانتشار.
هذا الانتشار السريع الذي حدث في أقل من قرن من الزمان يرجع إلى أسباب كثيرة. . منها، وأهمها: المساواة بين المسلمين مساواة مطلقة في الدين والدنيا، وبساطة تعاليمه وقربها من الفطرة، والنماذج في كثير من عناصر الجنس والثقافة، وتلاقح الأمزجة من صنوف البشر، كل هذا وغيره أخرج مدنية بهرت شعوب العالم بجلالها وبهائها ورحابة ساحتها وتعدد مناحبها ولم يمض زمن طويل حتى طأطأت رؤوس البشر في مختلف بقاع الأرض للثقافة الإسلامية من علوم وفنون، وحتى غمرت هذه الثقافة الجزء المحصور بين آسيا الشرقية وإسبانيا بالجامعات الكبيرة ودور الكتب العامرة والمساجد الفخمة، في هذا الوقت الذي كانت تزحف فيه الثقافة الإسلامية زحفاً سريعاً كانت أوربا ترزح تحت أنقاض المدنية الرومانية، وتئن من الظلم والفوضى والاستبداد.
غير أن هذه المدنية الشامخة سرعان ما رأيناها تهوى بنفس السرعة التي سمت بها وذلك لتفكيك الشرائع القومية التي غزاها الإسلام ودخلت في حوزته وما أعقب هذا من ازدهار فلم تلبث هذه الحركة أن أعقبها السكون وتبدلت القوة وهناً وضعفاً، فإذا بنا نرى النور المتألق سناً وقوة، ويخيم عليه ظلام قاتم ويصبح المجد الزاهر قصصاً يحكيها لنا التاريخ كأمثلة نادرة لعدالة الحكم والخدمة العامة والبطولة الفذة والتضحية بالنفس والمال في سبيل العقيدة.
لا مراء في أن الدين الإسلامي ينتشر في الأمم التي تعيش على البداوة والفطرة، وأنه كلما التقى بالمسيحية في ميدان التنافس الحر، صرعها وتغلب عليها، ولكنه اليوم يعيش بعيداً عن الثقافة البشرية، والمم الإسلامية ترزح تحت أنظمة من الحكم الذي يخالف الإسلام الصحيح، ودستور محمد وأصحابه الذي استطاعوا به أن يبهروا العالم أجمع، والذي رضيته جميع الشعوب التي خضعت له في ذلك الوقت.
كثيراً ما سمعنا من البعض أن المبادئ الخلقية الإسلامية مخالفة بطبيعتها للتقدم في شؤون الحياة السياسية، وهذا افتراء لا يقول به منصف، وتدحضه وثبة الإسلام القوية في أول عهدهن، وما تخللها من التماسك الروحي والحماس القومي، وما ظهر منها من دلائل الإيمان والقوة والمرونة، كما أن تاريخ المدنية الإسلامية يدلنا على قوة أوضاعها الخلقية السامية، غير أن بواعث تقدمها السريع هي بعينها نفس بواعث تأخرها وركودها السريع، وذلك لأن الشرائع العالمية وخاصة الشريعة الإسلامية، قد فكت قوى معتنقيها من آسار شرائعهم الضيقة الحدود، وأطلقت لهم الحرية في التعبير والاختيار، فتنبهت في نفوسهم قوى الإجماع على فكرة واحدة والعمل من أجل هدف واحد والسعي لغاية واحدة، فكان هذا التقدم السريع والارتقاء الخاطف وفاتها وهي تهدم حواجز الجنس والقومية، أنها تقضي على قوى الارتباط بالأصل والتحلل من الماضي، فكان هذا الانتكاس السريع الذي حل بهذه الإمبراطورية العظيمة، لأن التمسك بالقديم في نظري يعتبر عاملاً لازماً متمماً لحركة التقدم السليم، وما النعرة القومية أو ما يسمونه (التعصب) إلا اعتداد المرء بنفسه وتمسكه بقوميته وتقاليده، وهي عاطفة نبيلة ترمز إلى فكرة التحمس الوطني الذي هو عماد الرقي والتقدم وثباتهما، فإذا تلاشت هذه العاطفة أو ضعفت، أنهار الإحساس القومي وخمدت في الفرد روح التضحية من أجل الجماعة، وانتفت مميزاته وصفاته الوطنية وصبغته الشخصية، وزال طابعه الوطني الذي يعتد به، وهان عليه كل شيء.
إن الإسلام قد ظهر في بلاد تعتبر ملتقى قارات ثلاث تسكنها أجناس مختلفة من بيض وسود وصفر، ويختلفون في معنى القومية، فلما هدم الإسلام هذه الفوارق ونادى بفكرة المساواة بكل معانيها الواسعة، تزاوج المؤمنون من الأجناس التي دخلت حوزة الإسلام، بلا ضابط ولا قيد.
وإن كان هذا التزاوج سبباً من أسباب ازدهار الثقافة الإسلامية بفعل التلاقح البعيد المدى، إلا أن هذا الاختلاط الذي حدث بين جميع العرب وجميع الشعوب وخاصة الزنوج الذين دل التاريخ البشري على أنهم جنس عقيم الاستعداد للمدنية، بطئ الاستجابة لداعي الثقافة، لأن حقائقهم العقلية لا تؤهلهم للنهوض فوق مستوى البربرية، لذلك تغير الدم العربي، وقلت نقاوته، وضاعت صفاته المميزة له، وفسدت سلالات العرب ذات الاستعداد القوي والقدرة على الإنتاج.
وبذلك بدأ التدهور يحل بالأمة الإسلامية ويدب في أوصالها الفناء، ولولا قوة تماسك نظم الشريعة الإسلامية وصلاحية قوانينها والتفاف المسلمين حولها، لزالت كما زال غيرها من الشرائع العالمية الأخرى، ولما استطاع أن يصمد لكل هذه الأعاصير التي تتزاحم عليه.
عبد الموجود عبد الحافظ