الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 953/شاعر مجهول

مجلة الرسالة/العدد 953/شاعر مجهول

بتاريخ: 08 - 10 - 1951


للأستاذ حسني كنعان

لما حط الصقر المصري إبراهيم باشا بثقله على (طورس) وأخذ يتوثب ويتحفز من أعاليه على البلقان، ليغزوها كما عزا البلاد الشامية، سأله أحد الدبلوماسيين الفرنسيين. . .

إلى أين يذهب بفتوحاته، وهلا يتوقف عند حدود تركيا؟ فأجاب:

- إنني أتباع التقدم إلى البلاد التي لا أستطيع أن أتفاهم مع أهلها باللغة العربية.

- ثم سأله أحد جنوده الذين لهم دالة عليه عندما كان يزجي الصفوف ويهيئها للقتال، كيف تتحدث سموكم بهذا الشكل عن الأتراك، وأنت من أصل تركي، وفرع أناضولي. . .؟

فأجاب:

- أجل أنا من نبتة تركية، ولقد ولدت في البلقان ولكنني عشت في مصر، وإن أرض هذه البلاد وسماءها جعلت مني عربياً، صهرتني هذه التربة الخصبة ببوتقتها، ومصرتني بمصريتها. . .

وقائد هذا شأنه وهذا حبه للعرب قمين بأن يكون معبود جنوده المصريين والشاميين، وخليق بهذه المدائح التي خلد الشاعر الجندي اسمه فيها. وما كانت هذه الأماديح مقتصرة في تخليد مآثره في الأشعار والقصائد العامرة فحسب، بل تعدتها إلى الإشارة بذكراه من قبل شاعرنا في الموشحات والمواويل والقدود والأناشيد، ومن هذا القبيل قوله من موشح يصف به غزو عكا مما يدل على أن الشاعر كان في ركابه يوم غزاها. ولقد عثرت في الديوان على موشح من نغمة الجهاركاه يصف الشاعر به هذه الغزوة، والموشح معنون (بعنوان زارني الحبيب).

صاحب السعود قاهر الأسود ... الغازي الغضنفر قائد الجنود

في عكا أقام ساعة الزحام ... علم القيام رتبة السجود

رتب الألوف حولها صفوف ... عود السيوف فرقة الصمود

غارت العساكر كالأسد الكواسر ... غنت القنابر تشبه الرعود

لاحت البيارق فوقهم خوافق ... جازت الخنادق وهي كالفهود

دقت الصنوج والطبل الرجوج ... أبحر تموج ما لها خمود والجيش الجهادي مطلق الأيادي ... ألحق الأعادي في بني ثمود

والسور العظيم صار كالرميم ... وانثنى الغريم يلطم الخدود

أول النهار خيم الغبار ... وانتهى الحصار وابتدأ الصعود

ذاك اليوم كان أوحد الزمان ... لا تسل فلان، الدنيا شهود

أيها القدير أيد الوزير ... الغازي الشهير وأعطه الخلود

ما كان الشاعر متغالياً ولا متزلفاً في مدحه هذا القائد الفذ، وإنما كان عشقاً له معجباً به ولا سيما بعد أن صحبه مدة، وعرف مراميه ونزعاته، وقد أعلن الأمان على الجدران في إعلانات خاصة عند ابتداء الفتح ودخوله القدس، وأخرج منادين ينادون في الطرقات بأن عدالته تشمل الجميع على السواء، وأنه يفتح قصره لسماع كل شكاة ورفع كل ظلامة - وأن جميع الطوائف حرة في معتقداتها، وممارسة طقوسها الدينية والمذهبية كيفما تريد، وأنه سيحذو في هذا السبيل حذو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ويسير في النهج على منواله، وهذا ما حبب الشاعر به، وحبب الرعية إليه مما حز في نفوس الأمم الاستعمارية الطامعة في تركيا وجعلها تعجل بإطفاء هذا القبس المتوهج الذي لو ترك وشأنه لاهتدى بأضوائه خلق كثير. . فوضع شيخ المستعمرين العراقيل في تقدم النور، وسارع لإطفائه، حيث ألب على الفاتح العظيم شعوبه الراضية به. وأقام الثورات من خلف جيشه في سواحل لبنان. . . وفي جبل العرب أعني جبل الدروز، ونزل شيخ (الشياطين). . . من الشواطئ وأعمل المكائد في قفاه، فخشي القائد شر الفتن الداخلية والثورات المحلية وجلا عن بلاد الشام، وعاد الجيش التركي من حلب بمساعدة الشيطان الرجيم شيخ المستعمرين. . وأحتل البلاد من جديد وأخذ يتتبع خطا أتباع الباشا الفاتح، لينكل بهم ويثأر منهم، وكان شاعرنا في طليعة المغضوب عليهم فما نجاه من حمل المشنقة سوى فراره إلى مصر مع القائد الكبير. . . فوجد هناك في القاهرة آفاقاً جديدة في سخاء الشعر مفتحة أمامه فحلق في أجوائها كل محلق، وتعرف على أدبائها وشعرائها وأمتدح أمراءها وزعمائها ومدح مآثرها ومساجدها وحصونها وقلاعها، والديوان مفعم بمآثر مصر الخالدة، ولقد أمتدح قلعة محمد علي باشا الكبير بقصيدة عامرة تقع في (32) بيتاً أختزل منها بعض أبيات لضيق لأبرهن بها على تأثير هذه الآفاق الجديدة في نفسه: عروس كنوز قد تحلت بمسجد ... مكللة تيجانها بالزبرجد

أم الجنة العليا تزخرف قاعها ... بأبهج ياقوت وأبهى زمرد

أم المكرمات الآصفية أبدعت ... هيولي أعاجيب بصورة مسجد

فذا مسجد معناه يشهد أنه ... بعمره المسعود من غير مسعد

فدع قصر غمدان وأهرام هرمس ... وإيوان كسرى وأنظرنه لتهتدي

ودع إرماذات السوارى وحسنها ... وعرشاً لبلقيس كصرح ممرد

ودع أموي الشام وأنزل بمصرنا ... وبادر لهذاك البناء المعمد

لئن جاء في الدنيا وحيداً ومفرداً ... فلا غرو فالمنشي له ذو تفرد

محمد آراءه على مآثر ... عزيز ومولى كل سام ممجد

هو الشمس لم يحجب سناها غمامها ... ولا أنكرت أضوائها عين أرمد

وكم منشآت كالرواسي بني لها ... فعجباً جرت في البحر ذات تشيد

معاليه جلت عن نظير وأصبحت ... تباهي جميع العالمين بمفرد

فعرج على تلك المآثر وابتهج ... بآثار هذاك الخديوي الممجد

وعاين بناء يستضئ منزها ... لطرفك في روض البهاء المخلد

أمين بني الجندي قال مؤرخاً ... تربك على قدر العزيز محمد

فأنت تعرف من ثنايا هذه الأبيات مقدار الأثر البالغ الذي تركته في نفسه هذه القلعة التاريخية العظيمة التي يصفها في شعره بمنزلة قصر غمدان وأهرام هرمس، وإرم ذات الأسوار والمناعة، ويضعها في القداسة بمنزلة الأموي في دمشق، بيد أن هذه القصيدة على إعجاب ناشر الديوان بها، وتلك المقدمة النفيسة التي قدمها لها في الديوان، لا أراها تعدل في الروعة أشعاره في الغزليات والأماديح والتشاطير والتخاميس، وله فيها أبيات يعجز القلم الثر عن وصفها لجودتها وروائها وجمالها وتنسيقها، ومتى أتينا على بحث هذا النوع من الشعر نريك نوعاً منها، ويبدو أن صاحبنا لم يك ذا باع طويل في الوصف، ومن أبيات له من هذا القبيل في وصف الشطرنج أرى ألا مندوحة عن نشرها للأطراف فقط وليس للفن، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على هيامه بهذه اللعبة التي كانت سلوته وسلوة القائد المصري في ساعات الاستجمام والراحة. .

أقول إن لاعب الشطرنج ... كفارس هاج ببحر السرج

ولا يزال ناصب الفخاخ ... يصطاد من جاء من الرخاخ

كأنه ليث الشرى المفترس ... لا سي إن أرخى عنان الفرس

وصالت الأفيال للأفيال ... في حومة القتال والجدال

ابتدرت أمامها البيادق ... تسعى فمنها سابق ولاحق

وبارز الشاه أخوه الفرز ... وانهتك الستر وزال العز

وميز الغالب بالتأييد ... وبان فضلل باعه المديد

وأقبل النصر من الإله ... وأنفصل الحرب بموت الشاه

ولا أنكر أن إقامته في مصر صقلت شاعريته ورققت من حواشيه، بيد أن هذه الإقامة كانت مقتصرة على إظهار الولاء والمحبة للمضيف الكبير الذي أغدق على ضيفه الشاعر المنح الكثيرة والأعطيات، وكان جل هم الشاعر في مصر أن يوسع آفاق علومه ومعارفه، ويتعرف إلى أكبر عدد ممكن من أرباب هذه الصناعة، أعني صناعة الشعر والفن، وكان الوالي التركي يلح في طلبه ليثأر منه جزاء وفاقاً لما أحدثته أشعاره من دعاية موفقة للفاتح المكتسح الذي دانت له سلطة البلاد التي غزاها طوال هذه المدة.

(يتبع)

دمشق

حسن كنعان